"الكوميكس" فنٌّ يعكس قضايا الشُّعوب 

خلف أحمد محمود أبوزيد


تَفنّن القائمون على فن الكوميكس، في خلق عالم إبداعي جديد، تبوأ مكانته بين الفنون الإبداعية، كفن تاسع، جمع بين الأدب والحبكة الدرامية، والرسوم الجميلة، وانتقل خلاله الكوميكس من فرشات الجرائد والأرصفة، إلى صدارة رفوف المكتبات، حتى أصبح من أهمّ الفنون التي تعكس ذوق الشعوب.. يُكلّمها بطريقته في عالم الرموز والإشارات التي تملأ الشوارع، حتى صار معشوق الشباب الأول، الذي يأخذهم إلى عوالم من الدهشة لا توجد إلا على شاشات السينما، خاصة مع انتشار شبكات ومواقع التواصل الاجتماعي، وتفاعله مع أهمّ القضايا التي تمسّ روح إنسان القرن الحادي والعشرين. 
 


 


◄  فن له قواعد

أخذ تعبير "الكوميكس Comics"، من اللغة الإنجليزية، فكلمة "كوميك" جمعها "كوميكس"، وتعني الرسوم المضحكة، ذلك أن الكوميكس أول ما رسم كان عبارة عن مقاطع ورسومات مضحكة في الجرائد، تشبه تقريباً فن الكاريكاتير ومن هنا جاءت التسمية، التي أصبحت تطلق على جميع أنواع الرسومات، حتى ولو لم تكن كوميدية أو مضحكة، ولهذا الفن قواعد يتعلمها قارئ القصص المصورة، فالرسومات تحاول أن تحكي قصة، وتأتي الكلمات أو الجمل مكتوبة أو مرسومة ضمن سياق النص المربع الأصلي للصورة، الذي يسمى "بانل"، أو مستطيل مربع الرسومات، وتأتي الكلمات عادة حينما يتحدثها البطل أو البطلة، ضمن ما يسمى بفقاعة أو بالون الكلام، وهي توضع فوق رأس المتكلم، ولكل بالون إشارة معينة، فهناك مثلًا بالون مجعد يشير إلى أن الشخصية تفكر، وهناك بالون حاد كالزجاج المهشم يدل على الصراخ، وبالون متقطع يشير إلى الهمس، وبالون ممتلئ بأشياء مبهمة مثل سكين أو رأس حيوان مقطوع وحذاء، وهذا يشير إلى شتائم بذيئة، وبالون فيه مصباح يشير إلى فكرة عبقرية خطرت للبطل، كما يرافق رسومات الكوميكس، ما يعرف بالمؤثرات الصوتية؛ أي مثلًا صوت اللكمة والانفجار، عندما يغضب البطل، وهناك قطرات عرق تتطاير كلما بذل جهداً. ويرسم الكوميكس في المعتاد بالأبيض والأسود لتأتي بعد ذلك مرحلة التحبير، ثم مرحلة التلوين وهي مرحلة شديدة الأهمية، ثم مرحلة كتابة الكلام فوق الصور والرسومات، كما أن اختيار الصور والنصوص في مهم، وعلاقته بالصفحة ككل وبالصفحتين المتلاصقتين، وبالقصة أو الكتاب بأكمله أيضاً له نفس الأهمية، وكل مرحلة من هذه المراحل يقوم بها مختصون، كل حسب مجاله. 

◄  فن له جذور

الكوميكس من الظواهر الفنية التي عاشها العالم من قديم الزمان، ويرى مؤرخوه أنه وجد منذ الخليقة منذ تعلم البشر الرسم، من خلال تلك الرسوم البدائية الموجودة على جدران الكهوف، وبخاصة كهوف لاسكوس، وهي مجموعة من الكهوف في جنوب فرنسا، تحتوي على مجموعة من الحيوانات الضخمة التي كانت تعيش في هذه المنطقة، كان الإنسان البدائي يرسمها وفقاً لمخاوفه، ولكن الأكثر تطوراً في تاريخ هذا الفن يتمثل في النقوش الغائرة التي تركها قدماء المصريين، على جدران المعابد والمسلات الطويلة، وكذلك في ثنايا البرديات المطوية، حيث تركوا لنا شرائط مصورة تحكي أقدم حياة اجتماعية على ضفة هذا الوادي، ربما كان هذا هو الإحساس الأول بعالم الكوميكس، فقد رسموا ذلك في خرطوشات صغيرة تشبه المشاهد المتقطعة، كما أن هناك أيضاً عمود تراجان، الذي يتوسط مدينة روما الذي يحمل رسوماً تمثل انتصار هذا الإمبراطور الروماني على أعدائه البرابرة، وكذلك نسيج بايو وهي قطعة مطرزة من الكتان طولها أكثر من مائتي متر، تم تطريزها بالإبرة على أقمشة صوفية من ثمانية ألوان، وتحتوي على مشاهد تمثل غزو إنجلترا من قبل النورمان.

ومن لوحات يوم القيامة التي رسمها مايكل أنجلو على سقف الكنيسة السيسنية في الفاتيكان، إلى لوحات الفنان الإنجليزي ويليام هوجارت، الذي قام بعمل قصص من عدة لوحات متتالية عام 1730م، لنصل إلى منتصف القرن العشرين، حيث بعث هذا الفن بصورته الحديثة في أمريكا وأوروبا الغربية، على يد الفنان السويسري رودلف ثوب فير، الذي يعود إليه الفضل في ذيوع هذا الفن، فقد أنشأ مدرسة لتعليم فن الكوميكس، وسافر إلى أمريكا لينقل هذا الفن إليها، وهناك نشر أول كتاب مرسوم بالكامل، كل صفحة منه تحتوي على 6 صور، تشبه النظام الموجود في كتب الكوميكس الحديثة، ونشر بعد ذلك عدداً من الكتب والمقالات التي تعتبر تأسيساً نظرياً لهذا الفن، واستمر تطور هذا الفن على مدى مائة عام، حتى ظهرت مغامرات تان تان سلسلة من المغامرات المصورة للفنان البلجيكي هير بجيه، وهو اسم مستعار لجورج رنمي، الذي أصبح فيما بعد صاحب أشهر مغامرات الكوميكس في القرن العشرين. أما الكوميكس الأمريكي فقد أخذ مساراً متماشياً مع الروح الأمريكية المحبة لوسائل الإعلام، فقد تبنته الصحف اليومية، وحرصت على نشر الأشرطة الصغيرة المكونة من عدة مشاهد، وذلك قبل أن ينتشر، وتظهر العديد من المجلات المصورة التي خصصت فقط لهذا الفن، حيث كانوا أول من طور شكل البالونات، التي تحتوي على كلمات الحوار، أما عن الكوميكس الياباني، فيرجع إلى القرن 13 مع ما يسمى بالمانجا، وهو فن الكوميكس في الثقافة اليابانية، حيث الصور على جدران المعابد تمثل الأرواح والحيوانات التي كان يرسمها الرهبان. وفي عام 1702م قام شومير كوادنوه بوضع كتاب يحتوي على رسومات مع بعض التعليقات، ثم ظهرت المانجا الحديثة أثناء احتلال اليابان في الحرب العالمية الثانية عام 1945م، لتعبر عن الحال آنذاك، وظهر العديد من كبار فناني الكوميكس من اليابانيين، وكان في مقدمتهم تبزوكا أو سامو، كمنتج أفلام، وصاحب المانجا الشهيرة "الفتى أسترور". 

◄  فن له رسالة

إلى جانب المتعة التي يسوقها هذا الفن للمتلقي، فهو فن يحمل رسالة هامة، فطالما جاهد رسامو الكوميكس لقول ما لا يمكن قوله بشكل مباشر، فقد لعب هذا الفن دوراً مهماً إبّان فترة الكساد الكبير، التي اجتاحت العالم في نهاية العشرينيات من القرن الماضي، حيث كان الملاذ للعاطلين والمحبطين حول العالم، وأصبحت شخصيات مثل كابتن أمريكا والسوبر مان، والبطل الأصفر، شخصيات ملهمة تبشر الملايين، بأن هناك قدرات إضافية يمتلكها كل شخص بداخله تجعله قادراً على تجاوز مرحلة الإحباط، وقد حققت هذه الشخصيات نجاحاً كبيراً، وانتقلت من صفحات الورق الصامتة، إلى عالم الحركة والخيال على شاشات السينما، وأيضاً في أعمال أخرى مثل "فلسطين" لجوساكو التي تحكي الصدمة الرهيبة لنوعية الحياة التي يحياها آدميون بالضفة الغربية وإبراز الحالة النفسية، وتأثير التعذيب والسجن على المحبوسين عن طريق كدرات صغيرة الحجم، خانقة للغاية مضيفاً إليها اللون الأسود في خلفية الكدرات ليشعر القارئ بالخنقة ومعاناة هؤلاء الناس تحت نيران الاحتلال، ويعد فن الكوميكس اليوم، من أهم الفنون المتجاوبة مع الحياة المعاصرة، بعد فن الجرافيتي، حيث يشهد صدىً واسعاً باعتباره من أكثر الفنون تجاوباً مع الأحداث السياسية والاجتماعية. 

◄  فن الكوميكس عربياً

يعتقد كثيرون بأن فن الكوميكس فن غربي، لكن لو تتبعنا هذا الفن عربياً لوجدنا له جذوراً في تراثنا العربي، في قصص كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة، ومن يحتفظ بنسخ تاريخية من هذه الكتب يمكنه ملاحظة أنها مليئة بالصور، صحيح أنها لم تكن رسومات بكليتها، إلا أن الرسوم التوضيحية مع الكلام المكتوب حولها يجعلها من أوائل محاولات الكوميكس عربياً، وعلى نفس الإطار نجد مثلاً كتاب كوميكس ومؤلفين عرب لم ينتبه أحد إليهم، فمثلاً الرحالة ابن بطوطة كان يرسم ويعلق على صوره في كتاب غرائب الأمصار في عجائب الأسفار، وأيضاً في الإطار ذاته نجد محاولات عباس بن فراس للطيران من خلال رسم أفكاره ومحاولاته قبل الولوج إلى تطبيقها عملاً من أعمال الكوميكس، ولو تتبعنا ذلك نجد مؤلفات عديدة لكتاب عرب، تمثل إرهاصات هذا الفن في تراثنا العربي، ولكن ذهبت في دائرة النسيان؛ لأنه لم يهتم أحد بدراسة وتصنيف الأعمال الكوميكسية العربية والتاريخية، والآن يشهد هذا الفن صدى عربياً واسعاً، ظهر جلياً في العديد من إبداعات شباب الفنانين العرب، الذين وجدوا ملاذهم في هذا الفن، وواجهوا عملهم الدؤوب لتقديم إبداعات جديدة تؤكد موهبتهم، في تثبيت أركان هذا الفن عربياً، ليس فقط في إطار الكتب والروايات المصورة على الورق، بل أيضاً في مجال الكوميكس الرقمي، ومواقع الكوميكس العربية المتخصصة في هذا المجال.


***
 

لقد ارتبط الكوميكس بحكايات الناس وأسهم في خلق أساطيرهم المعاصرة، ففرضوه على الأكاديميات التقليدية، التي تقوم الآن بتدريس فن الكوميكس، وتقديراً لدور هذا الفن في التعبير عن قضايا المجتمع بدأ الاحتفال به في أوروبا بإنشاء جائزة لأفضل كوميكس في العالم، وذلك في بلدة أنغولم في فرنسا، عبر مهرجان أنغولم الدولي للشرائط المصورة ليتأكد من خلال هذا المهرجان وغيره أننا عبر الكوميكس يمكننا مشاهدة الماضي والحاضر والمستقبل في نفس الوقت وبشكل دائم، وأيضاً الحركة بحرية كاملة عبر الصفحات للأمام أو الخلف لنمسك الحياة بأيدينا بالطبع، ففي الكوميكس هناك أكثر بكثير مما تراه العين! 
 


المصادر: 
1. الكوميكس فن المستقبل، د/ محمد المنسي قنديل، مجلة إبداع، الناشر الهيئة المصرية العامة للكتاب، عدد يونيو 2015م. 
2. فن الكوميكس، أكثر مما تراه العين، بول جرافيت، ترجمة رانيه حسين، مجلة عالم الكتاب المصرية، الإصدار الرابع، العدد الأول، أكتوبر عام 2016م. 
3. فن كتابة القصص المصورة، شروق خالد، كتاب المجلة العربية، العدد 240، المملكة العربية السعودية.
4. تطور فن الكوميكس، غادة مصطفى، بحث منشور على موقع بوابة الكوميكس، بتاريخ 18/ 2/ 2014م. 


 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها