الجمال والحب في مواجهة الحقد والكره!

في رواية "جلفاري على ضفاف النيل" للروائي علي أبو الريش

عزيز العرباوي


يكتب الروائي الإماراتي علي أبو الريش روايته، وهو يستحضر آيات الجمال والحياة والحلم الإنساني بغدٍ أفضل يتلون بتلاوين الحياة الجميلة وزينتها، حيث تهطل سماؤنا بزخات الأمل والحب والعشق والإيمان، محلقين على أجنحة السلم والأمان والمحبة الإنسانية. فالفن الروائي عنده تعبير عن مشاعر وأحاسيس متعددة المصادر، مفعمة بالهموم والأحزان والصراعات البشرية، كما هي ممتلئة بآيات الأمل والمحبة والأخوة... فبقدر ما تحمل الذات البشرية من مشاعر سلبية؛ فإنها قد تحمل أيضاً مشاعر إيجابية ومشيدة لعلاقات إنسانية راقية تقود إلى البناء والتطوير. إنه كاتب إنساني، يبدع الفن الروائي من أجل بناء ثقافة التسامح وتشييد أواصرها في المجتمع، بين أفراده على اختلاف انتماءاتهم السياسية والفكرية والدينية والعرقية. وكأننا به فيلسوف صوفي في زمن المادة وحب الذات والاستغراق في الفردانية، علي أبو الريش مبدع يعقد صفقة مع نفسه لتحقيق التوازن الاجتماعي، المبني على التسامح والمصالحة والقيم الإنسانية الراقية.


إن علي أبو الريش يبدع فن الرواية وهو مقتنع بمدى قدرتها على تحريك العقليات، حيث يذهب في ورايته الأخيرة "جُلْفاريٌّ على ضفاف النيل" مثلاً، والتي صدرت في بدايات 2020 عن دائرة الثقافة والسياحة بأبو ظبي، إلى استحضار العديد من القيم الإنسانية الإيجابية والسلبية التي تميز بين الشخصيات، وخاصة شخصية عتيق بطل الرواية، وبين أحمد الشاب الذي يعتد بماله وسلطته، حيث الصراع بينهما يعرف العديد من الشد والجذب لينتهي إلى الفراق فيما بينهما، بعدما عاشا صديقين لسنوات طويلة منذ طفولتهما. فأحمد هو عنوان لقيم الحقد، والضغينة، والكره، والحسد، وفقدان الثقة في الآخرين، وسوء النية، وسلاطة اللسان، والعجرفة، والوهم، والتوهم... أما عتيق فهو عنوان لقيم الحب، والمحبة، والعاطفة الجياشة، والتسامح، والعشق العذري، والأمل في الحياة والآخرين، والثقة في الناس، وحسن النية... يقول الروائي عن الرواية: "إنها ثمرة من ثمرات شجرة عملاقة في علاقتي بمصر، وهي العلاقة التي لم تبدأ في زمن دراستي بها فحسب؛ وإنما في الخمسينيات والستينيات عندما كنا نرتشف كل ما تجيش به مشاعر مصر والمصريين، كان في كل مفاصل الحياة لدينا يوجد مصري، بسبب حاجة الخليج في ذلك الزمن لكل ما هو عربي، ليكون المضاد الحيوي أمام أي هجوم يأتي من الشرق". وكأننا بالروائي علي أبو الريش في هذه الرواية يعيد الاعتبار لعلاقة الخليجيين بمصر، وببلدان الوطن العربي، والتي لم تتأثر بأي شيء رغم بروز العديد من الأبواق والأصوات النشاز، التي تحاول تقويض هذه العلاقة التاريخية والدموية.
 

تحكي رواية "جُلْفاريٌّ على ضفاف النيل" قصة شاب إماراتي اسمه عتيق يهاجر إلى القاهرة في إطار بعثة دراسية، قادماً إليها من قريته "المعيريض" التي عاش فيها طفولة الحرمان والخصام مع أبويه وأخته، حيث كان أبوه صياداً بقارب صغير يقيه شرَّ السؤال والعوز. هذا الحرمان دفع عتيقاً إلى الاجتهاد والتفكير في التفوق الدراسي لإنقاذ نفسه من الحرمان، وإنقاذ أسرته الصغيرة ومساعدة أبيه على تكاليف الحياة. لكن، وككل غربة إنسانية، لا بد أن يتعرض صاحبها إلى العديد من المشاكل، وأن يدخل في العديد من الصراعات الصغيرة والكبيرة، وهذا ما حصل مع عتيق في مصر، سواء مع زميله في السكن وابن بلده أحمد، الذي كان عنواناً للحقد والكره والوهم، حيث عانى مدة سكناه معه الكثير من المشاكل، خاصة في معاملته للخادمات اللواتي لم تسلم واحدة منهن من سلاطة لسانه، وتصرفاته الرعناء تجاههن. بل كان يوبخه على اهتمامه بهن، أو الإنصات إلى مشاكلهن مع الحياة والأسرة، مما دفعه في النهاية إلى مغادرة الشقة وزميله أحمد، ليستقر مع صديق كويتي اسمه عبد الرحمن، الذي كان نعم السند له والرفيق الطيب، والإنسان الذي يحنو على الفقراء والضعفاء، فوجد فيه الملاذ والشخص الذي يثق فيه، وفي نصائحه وتوجيهاته في العديد من الأمور.

يقول الروائي في الصفحة 84 من الرواية: "خفض عتيق رأسه، كاظماً غيظه، متذمراً من سلوك زميله الذي أصبح لا يطاق، وحاول أن يهدئ من روع الخادمة، التي اكتوتْ بنار التقريع، والتهديد بقطع رزقها، وقال بلهجة طمأنت إلى حدٍّ ما قلب الخادمة: لن يستطيع أحد أن يطردكِ من هنا، ولن أسمح بذلك، وعليكِ أن تأخذي كلامي هذا بجدية، وتعملي في البيت، إنه بيتكِ".

لكن ما أفجع قلب عتيق هو عدم حفاظ حبيبته بدرية على حبه، وصبرها عليه حتى ينهي مشوار الدراسة، وردّ الجميل لأبيه الذي وضع فيه الثقة لكي يتقدم إليها ويخطبها من والديها، فقد تسرعتْ بعد أن رفض مقترح الخطبة، وإرجاء الزواج إلى الانتهاء من دراسته، فتزوجت بغيره وكأنها تعاقبه على رفضه، يقول الروائي في الصفحة 157: "... حتى قفز عتيق، ورفع السماعة، وكانت على الطرف الآخر مريم التي تحدثت بصوت مشروخ، قائلة: عتيق، لقد حدث ما كنت أتوقعه، بدرية تمتْ خطبتها، ووافقت على الفور، وأعتقد أنها فعلت ذلك عندما فقدت الأمل بك، وشعرت أنك غير مبال بمشاعرها".

بل كان موت أبيه وهو بعيد في القاهرة، وتركه لامرأتين (أمه وأخته) وحيدتين بدون معيل، أو رجل زاد من ألمه وجراحه، مما دفعه إلى الاجتهاد في الدراسة ليحقق حلم أبيه، ويتفوق في الدراسة، ويرجع إلى القرية محملاً بشهادة جامعية في علم النفس، الذي حاول من خلالها العمل في مجال التعليم، لكنه سرعان ما غادره بعد سنوات قليلة اصطدم فيها بعقليات العديد من المدرسين التقليدية، والدخول معهم في صراعات على مستوى التدريس، وعلى مستوى المعاملة مع الطلاب، ليستقيل من التعليم، ويتوجه إلى العمل في وزارة الشؤون الاجتماعية كأخصائي اجتماعي.

رواية "جلفاري على ضفاف النيل" هي نتاج ذاكرة مفعمة بالحب والجمال، والعشق الإنساني للحياة، وللناس الأفاضل، ولكل ما هو قيِّم وإنساني، سواء على مستوى الفعل أم على مستوى السلوك، أم على مستوى الوعي والتفكير لدى الشخصيات. فاستحضاره لشخصيات بعيدة كل البعد عن الإنسانية، وقريبة من قيم الحقد والكره والوهم، وعدم الثقة في الناس مثل شخصية أحمد زميل عتيق، أو النوخذة خميس، لا يعني أنه يقدم بديلاً عن نقيض هذه الشخصيات، بقدر ما يريد أن يقول لنا إن الحياة بقدر ما فيها من الخير فيها من الشر كذلك، حتى لو كانت نسبته قليلة. لكن ما جعل الروائي ينحو في نهاية النص إلى جعل بطل روايته يعاني من الفقد وألم العشق، هو التقاؤه بحبيبته بدرية التي طُلقتْ وواجهته بخيانته وضعفه، وعدم اتخاذه القرار الصائب في الوقت المناسب، مما جعل منها ضحية له ولأهلها، ولزوجها السابق، وللمجتمع كله. والسبب هو نظرة عتيق إلى المرأة من منظور القروي الذي لا يمكنها أن تتجاوز نظرة مجتمعه التقليدي والذكوري، حيث المرأة تحتل المرتبة الثانية بعد الرجل، سواء في علاقته بها كذات أو جسد، أم في ارتباطه بها وتعامله معها إنسانياً.

لغة الرواية لغة شفافة راقية قادرة على تجسيد الدلالة وبنيتها العلائقية في عناصر الرواية الأخرى كالشخصيات والفضاء والزمن، ليصير لها قانونها الخاص، ونسقها البنيوي المؤسس على انزياح لغوي جميل مفعم بالشعرية والصور الإبداعية، التي تثير شهية القارئ وتوجه ذائقته القرائية. فالروائي يعرف أن اللغة لها تأثير قوي على القارئ، من خلال دفعه إلى تذوق جمال اللغة بإمكانياتها التعبيرية والتواصلية والمقصدية، حيث تعكس بأسلوب جميل براعة الكاتب، وسحر لغته المحققة لمتعة القراءة والفهم والإدراك.

يذكر أن علي أبو الريش هو كاتب إعلامي وروائيٌ وشاعر، في حين أن شهرته الرّوائية فاقتْ شهرته الشِّعرية، له أكثر مِن خَمسة وعشرين مؤلفاً ما بين روايات وقِصص قصيرة ومسرحية، ومجموعات نثرية، من رواياته: "الاعْتراف"، "قَميص سارة"، "زينة الملكة"، "ثلاثية الحُب والماء والتّراب"، "فرَّتْ منْ قَسْوَرة"، "غَلطة آدم"، وقد تمّ اختيار روايته "الاعتراف" ضمن أفضل مِائة روايةٍ عربيةٍ، نالَ جائزة الإمارات التقديرية للعلوم والفنون والآداب عام 2008 من رئيس الدولة الشيخ خليفة بن زايد، وجائزة مَجلس التعاون لدول الخليج العربية للتَّميز الأدبي في دَورتها التكريمية الأولى، كَتبَ مِئات المقالات الصَّحفية في عَموده الشَّهير "مَرافئ" بصحيفة الاتحاد، والتي التحق بالعمل بها بعد تَخرجِه مِن جامِعة عَين شَمس بالقاهرة؛ أمْضى نحو ثلاثين عاماً رئيساً للقِسم الثقافي، ثم رئيساً للتحرير التنفيذي للجريدة، بعدها أصبح مديراً لمشروع "قلم".

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها

حاتم صلاح السروي

مقال مفيد وذو مادة معرفية مهمة وجذابة.. هذا المقال جعلني أعرف ما لم أكن أعرفه.. تعجبت لصاحب البيت المسكين الذي جاء من دنقلة في السودان وعمل بوابًا في المنصورة ثم استقر بالصعيد حتى وافاه مطلع السعد وعمل في خدمة مراد بك ولكن الدنيا لم تمهله، فبعد أن أنفق أمواله وعشر سنين من عمره في بناء بيته الرائع بهندسته المبهرة ومعماره الجميل، جاءت الجملة الفرنسية وأسكنت ضباطها في بيته، ومن هذا البيت خرجت موسوعة وصف مصر التي شارك فيها 200 عالم فرنسي، فهذا البيت يمثل مجد التاريخ وعظمة مصر التي توالى عليها المحتلون فما زادوها إلا قوة. ومضى إبراهيم السناري رحمه الله إلى ربه سنة 1801 بعد أن ترك بيتاً أنيقًا أراد له القدر أن يكون بيتًا للعلم والثقافة حتى أنه بعد احتراق المجمع العلمي في مصر أصبح هذا البيت مقراً للمجمع منذ عام 2012، والبيت الآن تابع لمكتبة الإسكندرية، وهو مطل على حارة مونجي ومونجي هو أحد علماء الحملة الفرنسية الذين سكنوا البيت،. وأعجبتني مقولة أن رواية بيت السناري للكاتب عمار علي حسن يتضافر فيها الجمال مع المعرفة ويتعانق فيها التاريخ مع الفن. والصور التي مع المقالة أعجبتني.. فشكرًا للكاتب الأستاذ ناجي محمد كامل العتريس والشكر موصول لمجلة الرافد واحة المعرفة ولرئيس تحريرها الفنان والكاتب عمر عبد العزيز.

4/17/2022 1:26:00 PM

حاتم صلاح السروي

مقال متميمز ودراسة أدبية سهلة ومفيدة، لقد تعلمت أشياءً من هذه المقالة، منها: أهمية الكتابة في الحضارة العربية منذ القرن الرابع الهجري، ونشأة أدب الرسائل، ومفهوم الافتنان عند أبي حيان التوحيدي، وأوجه الشبه بين ألف ليلة وليلة وكتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي (التوالد الحكائي- استبداد المسرود له "شهريار في ألف ليلة وليلة وأبو الوفاء المهندس في الإمتاع- السارد العليم- مجالس الحكي الليلية"وأعجبتني الشرط وط التي وضعها أبو الوفاء لكتابة "الإمتاع والمؤانسة" وأشكر لمجلة الرافد نشرها لهذه الدراسة المتينة والنافعة والمهمة أيضًا..وهكذا عودتنا مجلة الرافد على نشر كل ما يثري معارفنا ويساهم في نهضة الثقافة العربية.

4/23/2022 5:30:00 PM

قباري البدري

مقال رائع يلقي أضواء جديدة على إبداع علم من أعلام الكتابة العربية . و الجميل ، إشارته بالربط بين الملمح الأخير في اليومي والتداولي مع قصيدة النثر . مما يدل على سعة أفق و صدر الباحث ، و خصوية الإنشاء لدى هذه الكوكبة من شعراء و كتاب الحقبة ( النصف الأول من القرن العشرين ) .. كم نحن محظوظون بهم !

5/19/2022 10:51:00 PM

أحمد فضل شبلول

حوار رائع وعميق وشامل حول الترجمة وقضاياها وأهميتها في ثقافتنا العربية من مترجم ومثقف عربي معاصر واع وعميق الفكر ورائع الأسلوب، كما أن الأسئلة الموجهة كانت من العمق والأهمية التي دفعت د. ميهوب لأن يبدع في اجاباته. وفقكم الله.

5/20/2022 9:03:00 PM

محمد أحمد أمان

جميلة جدا

6/2/2022 2:06:00 PM

1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11