تحت عنوان: (المحطة الأخيرة)، ومن إصدار الهيئة المصرية العامة للكتاب، قرأت للكاتب الكبير "محمد سلماوي" ما يمكن تصنيفه من أدب السيرة الغيرية، أو ما دعاها سلماوي "سردية توثيقية"، قام من خلالها بوصف اليوميات الأخيرة من حياة أديب نوبل نجيب محفوظ.
أسلوب الكتاب من نوع السهل الممتنع؛ إذ رغم بساطة السردية لفظاً وحواراً ووصفاً، إلا أنها على بساطتها قوية البنيان منطقية التصاعد عميقة الدلالة. وإذا كان الكتاب يوثق آخر شهر ونصف من حياة محفوظ، إلا أنه يتخذ من هذه اليوميات مدخلاً لاستعراض جوانب من أسرار حياة نجيب محفوظ من واقع صداقة دامت نحو ثلاثين عاماً، بين سلماوي ومحفوظ، وتوطدت أكثر خلال العشر سنوات الأخيرة من حياة أديب نوبل.
فصول الكتاب التي بلغت ستة وعشرين فصلاً هي فصول مرقمة بلا عناوين، وهي طريقة مناسبة جدّاً لطبيعة السردية المتصلة التي لا تحتمل انقطاعاً أو عرقلة. الأسلوب روائي يمزج بين اليوميات التي تبدأ من منتصف يوليو 2006 وحتى نهاية أغسطس، وبين استدعاء لقطات ومواقف حياتية مناسبة للأحداث. ومن خلال ذلك المزيج تتضح الكثير من جوانب شخصيتي محفوظ وسلماوي، ومدى عمق الصداقة التي ربطت بينهما.
تبدأ السردية من آخر زيارة من زيارات سلماوي الأسبوعية لنجيب محفوظ مساء السبت 15 يوليو من عام 2006، وفيها دار الحديث بينهما في موضوعين: موضوع عام كان يؤرق محفوظ ويحزنه، وهو موضوع العدوان الإسرائيلي على جنوب لبنان. وموضوع خاص حول آخر أعمال نجيب: "أحلام فترة النقاهة" الذي كان على وشك الطبع والنشر.
تأتي مكالمة لسلماوي في اليوم التالي للزيارة أن نجيب محفوظ في مستشفى الشرطة لسقوطه وإصابته بجرح غائر في مؤخرة رأسه، ليهرع إليه ويتابع حالته التي برغم بساطتها تظل تتدهور بالتدريج، وتنتهي إلى عدة مضاعفات يدخل بسببها محفوظ لغرفة العناية المركزة بضع أيام قبل أن توافيه المنية في أواخر شهر أغسطس.
كان اتحاد الكتاب برئاسة سلماوي في تلك الآونة ينوي إقامة احتفال في نهاية العام بمناسبة العيد الخامس والتسعين من حياة محفوظ، بالاشتراك مع دار الشروق لكن عاجله القدر. ولم يكن نجيب محفوظ معتاداً على الاحتفال بعيد ميلاده، وكانت أول حفلة أقيمت له عام 1961؛ أقامها محمد حسنين هيكل بمناسبة بلوغه الخمسين، ودعا هيكل أم كلثوم التي لم يقابلها محفوظ من قبل رغم عشقه لصوتها. فكان محفوظ يفضل الاحتفاليات التي يقابل فيها أحبابه وأصدقاءه، ويكره احتفال الكعكة وإطفاء الشموع فيقول: "إنني لم أتعود إطفاء هذه الشموع وأنا طفل، فهل أطفئها الآن وقد صرت شيخاً"؟! وقبل الاحتفال بالعيد التسعين لنجيب محفوظ اقترح سلماوي إقامة تمثال لنجيب محفوظ، وفاجأه محافظ الجيزة المستشار محمود أبو الليل بإطلاق اسم نجيب محفوظ على أكبر ميادين الجيزة: ميدان "سفنكس" الذي تحول اسمه إلى ميدان نجيب محفوظ، وعهدت المحافظة للنحات "السيد عبده سليم" بعمل تمثال من البرونز بالحجم الكامل لأديب نوبل ممسكاً بعصاه الشهيرة، ليوضع التمثال في منتصف الميدان كأحد رموز مصر المؤثرين.
قبل أن تتدهور حالته ويدخل في حالة غيبوبة، كانت زيارة سلماوي لمحفوظ اليومية تتخللها أحاديث وحوارات، وكان محفوظ مهتماً بمتابعة أحوال البلد وآخر تطورات أحداث جنوب لبنان، وهو الموضوع الذي كان سلماوي يتحاشى الحديث عنه حرصاً على الحالة النفسية له. فكان يكتفي بنقل الأخبار الطيبة فحسب. جاءه يوماً فقال: (إن جابرييل جارسيا ماركيز اتصل بي في وسط الليل معتذراً لفرق التوقيت ليطمئن على صحتك). سأل نجيب: (من أين اتصل)؟ قلت: (من منزله في لوس أنجلوس، فهو ينتقل طوال السنة ما بين منزله في كولومبيا، ومنزل ثان له بالولايات المتحدة، وثالث بالمكسيك). ولم يكن أديبا نوبل قد تقابلا قط، وإن كان كلاهما يكن للآخر احتراماً كبيراً. قال محفوظ: (يقولون إنه لم يعد يكتب الآن)، قلت: (إنه يمر بفترة توقف، ربما كتلك التي مررت بها أنت في بداية الخمسينيات)، قال: (كان ذلك في بداية حياتي، لكن في حالة ماركيز يبدو أنها لعنة نوبل).
يدور الكتاب كله بهذا النمط الحواري السردي الوصفي الممتع، ومن خلاله تكتشف أحداثاً ومواقف وأسراراً كثيرة من حياة محفوظ، بل حتى بعد وفاته؛ إذ تبين حين تقررت إقامة جنازة عسكرية لمحفوظ، وطلبوا أوسمته ونياشينه ليسير بها الجنود خلف نعشه أن بعض هذه النياشين اختفى، ومنها ميدالية نوبل الذهبية! ويستعرض الكتاب السبب المحتمل لاختفاء تلك الأوسمة والميداليات وهو سبب غريب ومدهش.
سلماوي كان قد أصدر كتاباً بعنوان: (نجيب محفوظ في سيدي جابر) يجمع فيه بعض أقوال محفوظ، والسبب في التسمية حوار كان قد دار بينهما عندما بلغ نجيب التسعين من عمره؛ إذ سأله سلماوي قائلاً: (بماذا تشعر في هذه السن)؟ قال: (أشعر أنني في محطة سيدي جابر، فحين كنت أسافر إلى الإسكندرية كل سنة كنت أنزل دائماً في المحطة الأخيرة، المسماة محطة مصر. لكن حين كان القطار يتوقف قبلها في محطة سيدي جابر كنت أدرك أنه لم يبقَ لي إلا محطة واحدة لأغادر القطار، وأنه لم يعد لديَّ وقت إلا لألملم أشيائي وأستعد للنزول).