
◄ تعريف مصطلح أدب
عَرَف مصطلح "أدب" عدة معانٍ على مر العصور.. وتطور معنى الكلمة بتطور الحياة العربية، ففي العصر الجاهلي ارتبطت بالمأدبةِ وكرم الضيافة.. ثم عَرف العرب من معاني الأدب المعنى الأخلاقي أي أنه الخُلق المهذب، والطبعُ القويم، والمعاملةُ الكريمة للناس.
وفي الإسلام تحوّل المقصود بكلمة الأدب إلى مكارم الأخلاق، وظل هذا التعريفُ سائداً حتى العصر الأموي.. حيث اتخذ معنىً تربوياً تعليمياً تثقيفياً وتهذيبياً، وأُطلِق مصطلح الأدب على طائفةِ المتعلمين والمتأدبين أي القائمين بأمور التعليم، وأصبحت كلمة (الأدب) مقابلة لكلمة (العِلم) الذي كان شاملاً لكل علوم ذلك العصر بلا استثناء.
وفي العصر العباسي؛ حملت إلى جانب المعنيين التهذيبي والتعليمي.. المعنى التثقيفي. وقد أخذ هذا المعنى يتطور ويتسع حتى شمل كل ما يتصل بالشعر والنثر من تفسير وشرح ودراسة. قال ابن خلدون: "هذا العلم لا موضوع له، ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها؛ وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم، فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الملكة من شعر عالي الطبقة، وسجع متساو في الإجادة، ومسائل من اللغة والنحو مبثوثة أثناء ذلك متفرقة يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية مع ذكر بعض من أيام العرب، يفهم به ما يقع في أشعارهم منها، وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة والأخبار العامة، والمقصود بذلك كله، أن لا يخفى على الناظر فيه، شيء من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغتهم إذا تصفحه؛ لأنه لا تحصل الملكة من حفظه إلا بعد فهمه، فيحتاج إلى تقديم جميع ما يتوقع عليه فهمه".
لقد أعطى ابن خلدون معنى إجمالياً لعلم الأدب، وأنه يعني الإجادة في فنَيِ المنظوم والمنثور، وحفظ أشعار العرب وأخبارهم، والأخذ من كل العلوم المتوارثة.. لذا نجده يحث المتأدب على أن يكون حافظاً لتراثه المتمثل في الأشعار العربية العالية الطبقة.. عالماً بالأخبار والعلوم الشرعية. وابن خلدون يعتبر الأدب علماً والعلم يُكتسب ويُضبط بقواعد محددة ومدروسة.
وفي العصر الحديث أصبح مفهوم الأدب يدلّ على معنيين.. الأوّل معنى شامل وعام، ويشمل جميع ما يُكتَب في اللغة من العلوم والآداب تحت مفهوم الأدب.. أو كما قال د. محمد مندور: "إن الأدب صياغة فنية لتجربة بشرية"؛ أو أنه "نقد للحياة".. والمعنى الثاني معنى خاص، ويُقصد به أنّه لا بدّ أن يكون الكلام ذا معنى ويتّصف بالجمال والتّأثير ليكون أدباً.. ويشمل العديد من أساليب الكتابة الشعرية والنثرية والمسرحيات والروايات والأمثال.. كما قال د. شوقي ضيف: "الكلام الإنشائي البليغ الذي يقصد به إلى التأثير في عواطف القرَّاء والسامعين سواء أكان شعراً أم نثراً".
وبهذا؛ فكلمة أدب بالمعنى العام تطلق على كل ما يكتب في اللغة مهما كان موضوعه وأسلوبه، وكل ما ينتجه العقل البشري من علم وفلسفة وأدب.. ومعنى خاص يراد به التعبير الجميل المؤثر في العواطف. وبهذا المفهوم العام.. قدمنا بعضاً من الكتب التراثية، فهي وبحق عيون الأدب في تراث العرب.
◄ كتاب الصناعتين.. الكتابة والشعر
تَأليف أبي هلال العسكري: الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد ابن يحي بن مهران اللغوي العسكري.. واحد من أئمة البلاغة وعلوم العربية خلال القرن الرابع الهجري، وهو عالم لغوي رائد، له جهد كبير في مجالات البلاغة النقد والأدب واللغة.
والغالب على مؤلفاته الأدب وما يتصل به، ومنها: "جمهرة الأمثال"، و"ديوان المعالي ومعاني الأدب"، و"شرح الحماسة"، و"أعلام المعاني"، و"التبصرة"، و"المصون في الأدب"، و"الأوائل"، و"المحاسن في تفسير القرآن الكريم"، و"كتاب الصناعتين الشعر والنثر".
ويُعدُ "كتاب الصناعتين.. الكتابة والشعر".. من أهم الكتب الإبداعية، وإليه تعود شهرته في تاريخ النقد والبلاغة.. وهو من الكتب التي أشاد بها النقاد والدارسون، وأشاروا إلى أهميته العلمية والمعرفية.. ذلك أنه من الكتب البلاغية التي احتوت بين طياتها خلاصة ما توصل إليه من سبقوا أبا هلال العسكري في صناعة البيان والأدب والنقد، مثل "طبقات الشعراء" لابن سلام"، والبيان والتبيين" للجاحظ، و"البديع" لابن المعتز، و"الشعر والشعراء" لابن قتيبة.. و"الوساطة بين المتنبي وخصومه" للقاضي الجرجاني، و"نقد الشعر" لقدامة... وغيرها. إلا أنه أكثر من النقل عن البيان والتبيين، كما ذكر في مقدمته. وقد استطاع أبو هلال أن يعرض لنا زبدة هذه الكتب في كتابه.
افتتح أبو هلال العسكري كتابه "الصناعتين" بمقدمة أشار فيها إلى ضرورة معرفة علم البلاغة؛ لأنه يشكل ضرورة علمية لفهم إعجاز القرآن الكريم، وللتمييز بين جيد الكلام وبين رديئه. ولوقوف الكاتب أو الشاعر على ما ينبغي استعماله من أساليب اللغة وألفاظها الجيدة والبليغة في الكتابة وغيرها، فربط بين ضرورة تعلم البلاغة، وذلك لكونها أساسية للتعرف على إعجاز القرآن الكريم، وبين التأليف وبراعة التركيب.
وعن الأسباب التي دعته لكتابه هذا يقول: "فلما رأيت تخليط هؤلاء الأعلام، الذين ألفوا في البلاغة والبيان، فيما راموه من اختيار الكلام، ووقفت على موقع هذا العلم من الفضل ومكانته من الشرف والنبل ووجدت الحاجة إليه ماسة والكتب المصنفة فيه قليلةً، رأيت أن أعمل كتابي هذا مشتملًا على جميع ما يحُتاج إليه في صنعة الكلام نثره ونظمه، ويستعمل في محلوله وعقده، من غير تقصير وإخلال وإسهاب وإهذار، وليس الغرض في هذا الكتاب سلوك مذهب المتكلمين، في الجدال؛ وإنما قصدت فيه مقصد صناع الكلام من الشعراء والكتّاب، ونحن نفهم رطانة السوقي، وجمجمة الأعجمي للعادة التي جرت لنا في سماعها في المدن التي تخالط فيها السوقة والأعاجم".
اتبع أبو هلال العسكري منهجاً واضحاً في تأليف كتاب الصناعتين، فإضافة إلى التفريعات والتقسيمات وتبويبات الفصول.. اعتمد كذلك على إيراد شواهد توضيحية من القرآن الكريم والشعر العربي.. وجمع بين الجانب النقدي والتعليمي مع هيمنة الجانب التعليمي في كثير من الأحيان انسجاماً مع العنوان.. فسلك بذلك مسلك أهل الأدب في دراسة فنون البلاغة وإيراد الشواهد الأدبية من الشعر.
يتضمن الكتابُ عشرة أبواب: الأول البلاغة وحدودها. والثاني في تمييز جيد الكلام من رديئه. والثالث في معرفة صفة الكلام وترتيب الألفاظ. والرابع في حسن النظم وجودة الرصف. وخصص الباب الخامس للإيجاز والإطناب. والباب السادس للسرقات الشعرية. والسابع للتشبيه. والثامن للسجع. وفي الباب التاسع عرض لفنون البديع. أما العاشر فوقف فيه عند حسن المبادئ والمقاطع وجودة القوافي وحسن التخلص من غرض إلى غرض.
◄ كليلة ودمنة لابن المُقَفَّع
عبد الله ابن المُقَفَّع: مفكّر فارسِّي اعتنق الإسلام، وعاصر كلاً من الخلافة الأمويَّة والعباسيَّة. ولقِّب بابن المقفَّع لأن الحجَّاج ابن يوسف الثَّقفي عاقب أباه فضربه على يديه حتى تقفَّعتا أي (تورمتا). تعلم العربية، وترجم العديد من الكتب من اللغة الفارسِّية (البهلوية) إلى اللغة العربية.. ومنها كتاب كليلة ودمنة. ولم يكتف بترجمته عن اللغة البهلوية القديمة للفرس فقط، بل إنه أضاف بقلمه أبواباً إلى الكتاب قام هو بكتابتها باللغّة العربية.
يقول عنه الكاتب الكبير أحمد أمين في كتابه "ضحى الإسلام": "القارئ لكتب ابن المُقَفَّع وتاريخه، يخرج منه على أديبٍ مُثقفٍ ثقافةً واسعةً، فارسية وعربية، ينزع نزعةً قويةً لقومه من الفُرس، ويحيي أمتهُ بنشر آدابها، وسياستها وتاريخها، ويرى عيوبَ النُظم الاجتماعية في عصره فينادي بإصلاحها، بتطبيق الصالح من النظم الفارسية، ثم هو نبيلٌ شريفُ النفسِ، يسترعي بنُبله وأدبه أنظارَ الناس. فيروي الأصمعي "أن ابن المقفع سُئِلَ: "مَن أدَّبَكَ؟ قال: نفسي، إذا رأيتُ مِن غيري حُسناً أتيتُهُ، وإن رأيتُ قبيحاً أبيتُهُ".
كتاب "كَليلة ودِمنة".. مجموعةٌ من الحكاياتِ تعود إلى القرنِ الرابع الميلادي.. حيث كان يرويها الفيلسوف الهندِّيُ "بيدبا" (بيدبا بالسنسكريتية تعني صاحب العلم) لِملكهِ (دبشليم)، وهي خلاصة من الحِكم مروِّية بأسلوبٍ مسلٍ على ألسن الحيوانات.. وذاتِ طابعٍ يرتبطُ بالحكمةِ والأخلاقِ والسياسةِ ومنهجِ الحكم.
ويُقال إنّ ملك الفرس كسرَي آنوشروان أمر بترجمته إلى اللغة البهلويّة -وهي اللغة الفارسِّية القديمة- واختار لهذه المهمة طبيبه (بَرْزَوَيْه) لعلمه ودهائه.. ثم اختار ابن المقفَّع هذا الكتاب لترجمته إلى اللغة العربية، فكان من أوائل الكتب التي نقلت إلى العربيِة في تلك الفترة.
يقول علي بن الشاه الفارسي في مقدمته للكتاب، والتي يُرجح الباحثون أنها وضعت بعد ابن المُقَفَّع: "أما بعد فهذه مقدمة نذكر فيها السبب الذي من أجله عمل بيدبا الفيلسوف الهندي رأس البراهمة لدبشليم ملك الهند كتابه الذي سماه كليلة ودمنة، وجعله على ألسن البهائم والطير صيانة لغرضه الأقصى فيه من العوامّ، وضنّاً بما ضمنه عن الطّغام، وتنزيهاً للحكمة وفنونها ومحاسنها وعيونها؛ إذ هي للفيلسوف مندوحة، ولخاطره مفتوحتة، ولمحبيها تثقيف ولطالبيها تشريف، ونذكر السبب الذي من أجله أنفذ كسرى أنو شروان ملك الفرس برزويه رأس الأطباء إلى بلاد الهند لأجل كتاب كليلة ودمنة، وما كان من تلطف برزويه عند دخوله إلى الهند حتى وقع على الرجل الذي استنسخه له سراً من خزانة الملك ليلاً، مع ما وجد من كتب علماء الهند، ويجيئه بالكتاب مع الشطرنج التامة التي كانت عشرة في عشرة. ونذكر مقدار فضيلته ونخص أهل اقتنائه على الالتفات إلى دراسته والمداومة على فراسته، وفيما ضمّن من فوائده ومنافعه، ويرى أنها أفضل من كل لذة صرفت إليها همته والنظر إلى باطن كلامه، وأنه إن لم يكن كذلك لم يحصل على الغاية منه".
أما عن الدافع ليقوم ابن المُقَفَّع بترجمة هذا الكتاب، فيقول أحمد أمين في كتابه ضحى الإسلام: "وقد كان الباعث لابن المقفع على ترجمته –على ما يظهر– ما عهدناه فيه من مَيلٍ إلى الإصلاح الاجتماعي، شاهدناه في الأدب الكبير والصغير، ورسالة الصحابة. وكتاب كليلة ودمنة يشرح بعض هذه النواحي شرحاً وافياً، فهو يتعرض للنصح ِ بعدم الإصغاءِ إلى الحاسدِ والنمَّام، ويبين أن هناك جَزاءً طبيعياً، فعاقبةُ الخير خيرٌ، وعاقبةُ الشَر شرٌ، وينصح بأخذ الحذرِ من العدو، والاعتماد على الصداقة... إلخ.
ويظهر أن تعمق ابن المُقَفَّع في دراسة الحياة الاجتماعية أَداه إلى استنكار كثيرٍ من الأمور، ورأى أن مُعظمها يرجع إلى حُكام عصره، ورأى أن الحرية السياسية غير مُتوافرة في زمنه، فهو لا يستطيع أن ينتقد الخليفة نقداً صريحاً. وقد عاش ابن المقفع وقت نُضج فكره في زمن أبي جعفر المنصور، وهو شديد البطش قوي المنَّة سريع إلى إعمال السيف. وهو –كان– مؤسس الدولة العباسية وواضع نظمها ومحصنها، وكان يرى ألَّا يمكن تثبيت قواعدها إلا بإخماد كل حركة تُضعف من شأن الدولة، أو يُتوهم فيها ذلك، ويقطع رأسَ كل مخالف. وكان من ضحايا المنصور كثيرون قُتلوا بالظّنة، وتذرَّع في قتلهم بالاتهام بالزندقة أو نحو ذلك، وكان ابن المقفع أحد هذه الضحايا.
ثم يقول: "فلعل ابن المُقَفَّع لم يستطع أن يُواجه المنصور بأكثر مما واجهه به في رسالة الصحابة، وقد مزج نقده بكثير من المدح للخليفة والثناء عليه، ونسب أكثرَ الشدَةِ التي يراها إلى غيره، ولكن هذا لم يُشف غُلته، فرأى أن أسلم طريقة أن يُترجم هذا الكتاب وأن يزيدَ فيه ليعملَ الكتابُ الخلفاء والرعية ما فعله في الهند وفارس".
ولعل هذا ما قصده ابن المُقَفَّع حين قال في نهاية مقدمته للكتاب: "وينبغي للناظر في هذا الكتاب ومقتنيه أن يعلم أنه ينقسم إلى أربعة أقسام وأغراض: أحدهما ما قصد من وضعه على ألسن البهائم غير الناطقة ليتسارع إلى قراءته واقتنائه أهل الهزل من الشبان فيستميل به قلوبهم؛ لأن هذا هو الغرض بالنوادر من الحيوانات. والثاني إظهار خيالات الحيوانات بصنوف الألوان والأصباغ ليكون أنساً لقلوب الملوك ويكون حرصهم أشد للنزهة في تلك الصور. والثالث أن يكون على هذه الصفة فيتخذه الملوك والسوقة فيكثر بذلك انتساخه ولا يبطل، فيخلق على مرور الأيام بل ينتفع بذلك المصور والناسخ أبداً. والغرض الرابع، وهو الأقصى، وذلك يخص الفيلسوف خاصة، أعني الوقوف على أسرار معاني الكتاب الباطنة".
وشخصيَّات كليلة ودمنة هي حيوانات برية تعيش في الغابة.. فكليلة ودمنة هما اثنان من حيوان ابن آوى.. والملك أسدٌ.. وخادمه ثورٌ اسمه شتربة.. وغيرها من حيوانات الغابة التي تدور معظم القصص على ألسنتها.. يدور حديث الحيوانات في الكتاب عن الخير والحكمة والأخلاق الحميدة في بناء المجتمع المتداخل بحياة اجتماعيةٍ ترتقي بأبنائه.
يحتوي كتاب كليلة ودمنة على أربع مقدماتٍ وأربع عشرة حكاية رئيسيَة تم توزيعها على خمسة عشر بابًا.. باب الأسَد والثور.. باب الفحص عن أمر دمنة.. باب الحمامة المطَوقة.. باب البوم والغربان.. باب القرد والغَيلم.. باب الناسك وابن عرس.. باب الجرز والسنور.. باب ابن الملك والطائر فنزة.. الأسد والشغبر الناسك وهو ابن آوى.. باب إيلاذ وبلاذ وإيرخت.. باب اللبؤة والأسوار والشغبر.. باب الناسك والضيف.. باب السائح والصائغ.. باب ابن الملك وأصحابه.. وأخيراً باب الحمامة والثعلب ومالك الحزين.