"شارل نُودْيِي" الرومانسي الثائر

الإرهاصات الأولى لأدب الرعب

نبيل موميد



يعتبر "شارل نوديي" Charles Nodier واحداً من الكُتَّاب الفرنسيين الذين جمعوا بين الأدب والسياسة1 في مسار حياتهم؛ فقد كان من أشد المعارضين لحكم "نابوليون بونابرت" (Napoléon Bonaparte) -حتى إنه سُجن لمدة بسبب ذلك، خاصة وأنه ألَّف قصيدة شعرية هجائية عنْوَنَها بـ: النابوليونة (La Napoléone) عَبَّر فيها عن مواقفه السياسية- كما كان قاصاً وروائياً ذا توجهات رومانسية (Romantisme) في البداية، ثم غرائبية (Fantastique) فيما بعد.



ولد "شارل نُودْيِي Charles Nodier" في الـ 29 من أبريل سنة 1780 ببيزانسون (Besançon) بفرنسا. انتقل إلى باريس سنة 1800، غير أنه عانى فيها كثيراً بسبب مواقفه وآرائه السياسية. عُيِّن سنة 1824 محافظاً بمكتبة الأرْسُنال؛ وهو المنصب الذي ظل يشغله إلى حين وفاته في الـ 27 من يناير سنة 1844. خلال هذه الفترة، أسس "نُودْيِي" صالوناً أدبياً كان قِبلةً لأدباء عصره، ومقصداً لأوائل الرومانسيين الفرنسيين.

اختير في الـ 24 من أكتوبر سنة 1833 عضواً بالأكاديمية الفرنسية.

ألّف "نُودْيِي" عدداً من الأعمال الإبداعية الهامة، التي تراوحت بين الرواية والقصة والمسرح والشعر والنقد... من أبرزها:
     • رواية "جون سْبوغار" Jean Sbogar
     • رواية "رسام سالزبورغ" Le Peintre de Salzbourg 
     • قصة "سْمارة أو شياطين العُتمة" Smarra ou les démons de la nuit 
     • مسرحية "مصاص الدماء" Le Vampire 
     • ديوان "محاولات شاعر غنائي شاب" Essais d’un jeune brade 
     • كتاب "دراسة نقدية لقواميس اللغة الفرنسية" Examen Critique des Dictionnaires de Langue Française

تميز "شارل نوديي" بالبساطة والوضوح، وبأسلوبه الأنيق، وبجمله التي تحبل بأحاسيس تصل أحياناً حد التناقض؛ فهو تارة يمزج بين السخرية والتهكم من ناحية والجدية من ناحية أخرى، وتارة تراه يُعبِّر عن قلقه الوجودي المرضي في قالب من الغرائبية المرعبة التي تغذيها قصص مصاصي الدماء والأشباح والشياطين والهوام... حتى إن المتلقي يظل متأرجحاً على طول السرد بين الواقع والخيال.


من قصص "شارل نُودْيِي"
 

فيما يلي نموذجان معبّران عن مواضيع "نُودْيِي" الأثيرة، وأسلوبه وطريقته في الكتابة؛ حيث قمت بترجمة قصتين من قصصه القصيرة2:
الأولى عنوانها "مصاصو دماء المجر"، وهي نموذج للقصة القوطية التي تتخذ موضوع "مصاص الدماء" محوراً لها؛ بحيث إنها تحكي في قالب يوهم بواقعية الأحداث، من خلال أسماء الأماكن وطبيعة السرد التقريرية، صدفة اللقاء بمصاصي الدماء، والرعب الذي يَصْحَب ظهورهم، والجهود من أجل القضاء عليهم.
وأما الثانية المعنونة بـ"مغامرة العمة ميلونْشْتون"، فهي قصة قصيرة للغاية3؛ وكأنها خبر مقتضب منشور في صفحة الحوادث في جريدة يومية، تحكي زيارة مَيِّت لزوجته وما دار بينهما، دائماً بتوظيف سرد تقريري قصد الإيهام بواقعية الأحداث.

 

∵∴ القصة الأولى ∵∴

مصَّاصُو دِماء المَجَر4

بينما كان جندي مَجَرِيّ، يُقيم لدى فلّاح من سكّان الحدود، يتناول طعامه معه، إذا به يبصر مجهولاً دَلَف إلى المنزل وأخذ مكاناً إلى جوارهما على الطاولة. إثر ذلك ظهرت على مُحَيَّا الفلّاح وأسرته ملامح رعب شديد بسبب هذه الزيارة. وبالنّظر إلى أن الجندي كان يجهل معنى ما حَضَرَه، فقد ردَّه إلى حسن طويّة هؤلاء الناس الطيبين. بَيْد أنه في اليوم الموالي، وُجد الفلاح في سريره وقد فارق الحياة؛ وإذاك علِم أن من رأوه البارحة كان أب مضيفه، الذي لقي مصرعه ووُورِي جثمانه الثَّرى منذ عشر سنوات، وأنه بقدومه البارحة وجلوسه إلى جانب ابنه؛ إنما كان في نفس الآن يُنْبِئه بموته ويُسبِّبُه له.

أعلم الجندي فصيلته بما حدث؛ فأرسل كبارُ ضباطها على إثر ذلك نقيباً، وجراحاً، ومراقباً، وبعض الضباط من أجل التأكد مما وقع. وقد أجمع الكل، سكان المنزل وقاطنو القرية، على أن أب الفلاح عاد حاملاً معه الموت لابنه؛ وأن كل ما رآه الجندي وحكاه هو الحقيقة بعينها. بناء على هذا، تم نبش قبر العائد؛ فوجدوا [يا للعجب] أن جثته في حال مشابهة لحال شخص مات للتَّوِّ، ناهيك عن أن الدم لا يزال يجري في عروقه ساخناً؛ فقاموا بقطع رأسه وأعادوه إلى قبره.

بعد هذه "الحملة" الأولى، أُخبر الضباط أن رجلاً آخر مات منذ ما يزيد على ثلاثين سنة اعتاد على العودة؛ حيث إنه سبق وأن ظهر لثلاث مرات في منزله في ساعات تناول وجبات الطعام: في المرة الأولى، امتص دماء أخيه إلى آخر قطرة منها؛ وفي المرة الثانية أعاد الكرة مع أحد أبنائه؛ وفي المرة الأخيرة تعامل بنفس الطريقة مع أحد الخدم؛ وقد لقي هؤلاء جميعهم مصرعهم [بطبيعة الحال]. تبعاً لهذا الخبر، نُبش قبر هذا العائد أيضاً، فوجدوا جثته مليئة بالدم كحال العائد الأول، فقاموا بدق مسمار ضخم في رأسه وأعادوه إلى قبره.

وفي الوقت الذي حَسِبَت فيه البعثة أنها أنْهَت المسألة، إذا بأصوات تتعالى أن مصاص دماء آخر مات منذ ستة عشر عاماً، قتل اثنين من أبنائه والتهمهما. بعد أن تم حرق مصاص الدماء هذا كما يُتعامل مع أعتى المجرمين، ترك الضباط القرية وهي آمنة جانب العائدين الذين يشربون دماء أبنائهم وأصدقائهم.

∵∴ القصة الثانية ∵∴

مغامرة العَمّة ميلونْشْتون5

حكى "فيليب ميلونْشْتون"6 أن عمته التي فقدت زوجها وهي حامل قاب قوسين أو أدنى من الوضع، رأت ذات مساء بينما كانت جالسة على مقربة من مدفأتها، شخصين يدخلان المنزل؛ كان الأول على هيئة زوجها المتوفى، والثاني على هيئة راهب فرانسيسكاني7 طويل القامة. شعرت في البداية برعب عارم تملَّك كل حواسها، غير أن زوجها طمأنها وأخبرها أنه يرغب في أن يخبرها بشيء على قدر كبير من الأهمية. في البداية طلب من مُرافقه أن يقضي بعض الوقت في الغرفة المجاورة حتى يتسنى له الوقت لإخبار زوجته بما جاء من أجله، بعد ذلك رجاها أن تُعينه على ترديد قُدَّاسات، قبل أن يَحُثَّها على تجاوز خوفها وإعطائه يدها. وبالنظر إلى تردُّدها في تلبية طلب زوجها، فقد طمأنها مؤكداً أنه لن يلحقها أي أذًى. وهكذا وضعت يدها في يد زوجها، ثم سحبتها بدون أن تشعر في الحقيقة بألم يذكر، بَيْد أنها كانت متفحمة، وستظل [اليد] طيلة حياتها سوداء. عقب هذا الأمر، نادى زوجها على الرَّاهب الفرانسيسكاني، وتبخّر الشبحان في الهواء.
 

وبعد؛

يعتبر هذان النموذجان القصصيان من بين أبرز النماذج –من بين أخرى عديدة – على تلك القصص التي أثثت حقبة زمنية عرفت ذيوع الرومانسية وانتشارها في أوروبا، غير أنها تطورت في إحدى مساراتها الغنية ناحية معانقة المرعب والغرائبي وغير المألوف، مؤسسة بالتالي لأدب وليد –آنذاك– هو "أدب الرعب".


هوامش وإحالات:
1. نذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر الكاتبين الفرنسيين الكبيرين "فكتور هيجو" «Victor Hugo» و"فرانسوا رونيه دو شاتوبريون " «François-René de Chateaubriand».
2. كنت قد ترجمت في سياق آخر قصة أخرى من قصص "شارل نوديي" عنوانها "الرَّاهبة الدَّامية"، وهي نموذج ممتاز لأدب الرعب القوطي، تحضر فيه كل خصائصه. فالأحداث تجري في قلعة مسكونة بروح امرأة/شبح اعتادت على الظهور مرة كل سنة. وستؤدي الأحداث إلى وقوع سوء تفاهم سيجعل البطل يظن بأن العائدة هي محبوبته التي منعها عنه أهلها؛ وبناء على هذا الحدث الكارثي ستترتب باقي عناصر القصة التي ستتأرجح على طول الخط بين الواقعي والخرافي، بين المنطقي واللامنطقي، بين المألوف والمجهول، إلى أن تصل إلى نهايتها التي لن تترك القارئ بدون أسئلة عالقة. (انظر: مقالنا مدخل إلى الأدب القوطي، مجلة فكر الثقافية، العدد 26، يونيو-سبتمبر 2019، المملكة العربية السعودية، ص: 116-117-118. وضمنه القصة المترجمة).
3. وكأنها تعلن مبكراً عن ميلاد القصة القصيرة جداً.
4. «Vampires de Hongrie», Charles Nodier, in Histoires de Vampires, Op.Cit, p: 163-166
5. «Aventure de la tante Mélanchton», Charles Nodier, in Histoires de Vampires, Op.Cit, p: 253-255
6. «Philippe Mélanchton» 
7. هي رهبنة أسَّسها القِدِّيس "فْرَانْسيس الأَسِيزِي" في إيطاليا سنة 1208. وهي تقوم بالدرجة الأولى على تقليد المسيح "عيسى عليه السلام" في حياته؛ لاسيما حياة الفقر والتقشُّف والتِّرحال الدَّائم بغرض التَّبْشير بالمسيحية.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها