
إنَّ (سترافنسكي) الذي وُلِد في روسيا القيصرية قبل 141 سنة، لا يزال مُهيمناً على موسيقى العصر. وقد تهجَّم عليه نُقَّاد زمانه لِخُروجه على التقاليد الإيقاعية، لكنَّ موسيقاه أذهلَت الجمهور.
وُلِدَ إيغور فيدوروفيتش سترافنسكي في يونيو عام (1882) في مُنتجَع أوريانمبون (لومونوسوف حالياً)، قُرب مدينة سان بطرسبرغ الروسية (لينينغراد حالياً). وكان والده مُغنِّياً بارِزاً في الأوبِّرا الإمبراطورية. وفي الثانية من عُمره أخذ إيغور يُدمدِم ألحاناً شعبية كانت تُغنِّيها النساء القرويَّات. لكنَّ نَزعته الفِطرية إلى الموسيقى لم تَلقَ الاهتمام الكافي. مُعلِّمه الوحيد كان المؤلِّف الموسيقي (نقولا رمسكي ـ كورساكوف)، ومنه تَلقَّن الدروس في التوزيع الموسيقي حين كان في الحادية والعشرين. وفي عام 1908 وَضَع سترافنسكي قطعة موسيقية قصيرة أهداها إلى أستاذه بمناسبة زَواج ابنته ودَعاها (الألعاب النارية).

في عام 1906 تزوَّج سترافنسكي ابنة خاله (كاثرين نوسنكو)، ورُزِقا صبيين وابنتين. وفي العام 1910 وَضَع مقطوعة (العصفور النَّاري) التي تميَّزت بأنغامها العالية وإيقاعها السَّاحر. وفي العام 1913 جاءَت مقطوعته (شعائر الربيع) على مستوى أرفَع، وتدور الباليه حول احتفالات طقسية بالربيع. وقد قُدِّمت على مسرح الشانزليزيه في باريس ليلة 19 مايو من العام نفسه. وفيها استخدَم مجموعة ضخمة من العازفين والآلات الموسيقية، واعتَبرَها النقَّاد أجمل وأعمق قطعة موسيقية وُضعَت في القرن العشرين.
أمَّا الحافِز إلى تحقيق وَثبته المُذهلة فكان مدير فرقة موسيقية يُدعى سِرجي دياغيليف، نَظَّم عام 1909 مَوسماً للباليه في مسرح الشاتليه في باريس. وقُدِّر لهذا المَوسم أن يستمر طوال عشرين عاماً 1909 ـ 1929، طافَت خِلالها فرقة الباليه الروسية بقيادة دياغيليف حَول العالم.
عاشَت عائلة سترافنسكي حياة مُفعمة بالنشاط والترحال، فكانت تتنقَّل بين "سان بطرسبرغ" وبيت صيفي في أوكرانيا، وعدد من البيوت المُستأجَرة في سويسرا وشاطئ الريفيرا جنوب فرنسا. وكانت العائلة في سويسرا صيف 1914 حين اندلعت الحرب العالمية الأولى.

عَمِل سترافنسكي على تأليف مقطوعات ثنائية تُعزَف على البيانو لكي يتسنَّى له ولابنه سوليما صاحب الستَّة عشر عاماً، أن يُؤدِّياها معاً. وفي ما بَعد، بين العامين 1931 و1935، حقَّق سترافنسكي عملاً جبَّاراً، إذْ وَضَع كونشيرتو لِعازِفَيّ بيانو مُنفَردين قَدَّمها مع ابنه في باريس فأحرَزت نجاحاً هائلاً. كما كان الموسيقي الأوَّل الذي سَجَّل ما وَضَعه من ألحان.
واصَلَ سترافنسكي العمل بما دَعاه المرارة المقوِّية مُنقلباً إلى نَهج جديد مُتزمِّت دَعاه التقليدية الجديدة. ودَهَمه شتاء 1938-1939 المُدمِّر.. فَخِلال أربعة أشهر ماتَت ابنته لودميلا (30) سنة، وزوجته كاثرين بِدَاء السّل. وفي يونيو 1939 ماتَت أُمه. وفي سبتمبر 1939، بعد أيام من اندلاع الحرب العالمية الثانية، أَبحَرَ سترافنسكي إلى الولايات المتحدة وكان في الثامنة والخمسين من العُمر.
الجَوّ الجديد فَتحَ أمامه آفاقاً للإبداع. فإيقاع الموسيقى الشعبية الأمريكية الذي أعجَبَه دائماً دَفَعهُ إلى وَضع كونشيرتو تُعزَف على المزمار دَعاها (كونشيرتو الآبنوس)، وقَدَّمها (وودي هرمان) وفرقته الـ(سوينغ) في مطلع العام (1942). ثم وَضع موسيقى (بولكا السِّيرك)، وهي باليه لخمسين فيلاً وخمسين فتاة، وكان افتتاحها في (ماديسون سكوير غاردن) في نيويورك في ربيع تلك السنة. كما وَضَع موسيقى باليه جديدة دَعاها (الفنون السَّبعة الحيَّة)، لِعَرض مسرحي قُدِّم عام (1944) في (برودواي) بنيويورك حقَّقَ نجاحاً منقطع النظير.
بُعَيدَ وصوله إلى الولايات المتحدة تزوَّج سترافنسكي (فيرا ديبوسيه) التي كانت مُصمِّمة أزياء لفرقة دياغيليف، واستقرَّ الزوجان في (لوس أنجلوس). وفي 28 ديسمبر (1945) مُنِحَ سترافنسكي الجنسية الأمريكية.
في العام (1948) باشَرَ وَضع أوَّل أوبِّرا مكتملة له ودَعاها (تَقدُّم الخَليع). وقد وَضعَ نَصَّها الشاعر الإنجليزي (و. هـ. أودن) بمساعدة (تشستر كالمان). وهي دراما موسيقية رقيقة وقوية. وكان العَرض الأوَّل في البندقية بإيطاليا، في سبتمبر 1951، وهي المرَّة الأولى التي يعود فيها سترافنسكي إلى أوروبا بعد غياب 12 سنة. وبَعد البندقية طافَت تلك الأوبرا العالَم. وكان سترافنسكي تخطَّى السَّبعين آنذاك، وتحوَّل إلى نَهج جديد كليَّاً هو الموسيقى التسلسلية، فجاءَت هذه مختلفة وعسيرة كَفَنّ تجريدي. النَّغمات الموسيقية كانت تُعزَف بِتَواتُر مُحدَّد ومَنطقي ومُقتضَب من دون التفات إلى التناسق. ولِلحال أثارَت أعماله الجديدة مَوجة أخرى من الجَدَل.
كان (سترافنسكي) في حياته يتظاهَر بأنَّه في مَنأى عن الضجَّة التي تُثار حَول أعماله، ويَصِف نَفسه ببرودة أعصاب على أنه مُخترع موسيقي. وكان يعمل في ساعات نظامية دقيقة كَدوام عمل المَصارِف، من التاسعة صباحاً حتى الظُّهر من أيام العمل الأسبوعية. وكان مُحتَرفه مُنظَّماً ومُرتَّباً: بيانو، مَكتب وُضعت عليه صور أفراد عائلته وصورة الموسيقي الروسي (رمسكي كوساكوف)، منضدة عَمل تكدَّست عليها أكوام الأوراق، أقلام، مَحابِر، مَساطِر، مَماحٍ، ساعة توقيت، مَقصّ، زجاجة صَمغ، وما إلى ذلك. وهنالك أيضاً مَقعَد طويل للقيلولة.
عام 1960 أصبح سترافنسكي شيخ الموسيقى العظيم، وكان عيد ميلاده 80 مُناسَبةً للاحتفالات في أنحاء العالم. وفي السنة نفسها وُجِّهت إليه دعوة رسميّة لقيادة فرقة موسيقية تعزف ألحانه في موسكو. واستُقبِلَ سترافنسكي كالأبطال لدى عودته إلى موطنه الأصلي بعد غياب نِصف قَرن. وهناك قُدِّمت حفلات موسيقى وباليه من إنتاجه، ونُظِّمت له لقاءات مع الطلاب والمؤلِّفين الموسيقيين، ثم مع رئيس الوزراء السوفييتي آنذاك (نيكيتا خروتشيف). ومع مرور السنين واصَل سترافنسكي ترحاله وعمله. ولدى بلوغه السادسة والثمانين وَضَع خُططاً لتأليف أوبِّرا مكتملة أخرى. ولكن لم يُقيَّض لهذه أن ترى النُّور؛ إذ تُوفِّيَ الموسيقي الكبير في أثناء نومه ذات صباح من أبريل (1971)، وكان في التاسعة والثمانين.
وتَصدَّرت صحف العالم كلمات تأبينيِّة وأحاديث عن الخَسارة التي لا تُعوَّض، لكن (بالانشين) قال: "أشعر أنه لا يزال معنا. فهو تَرَك لنا كنزاً من نُبوغه سيعيش إلى الأبد".
أخيراً؛ تُنظَّم لتخليد ذِكرى سترافنسكي مهرجانات وحفلات موسيقى وباليه في أنحاء العالم، ويبدو جَليّاً أنَّ موسيقاه ستحيا حَقّاً إلى الأبد.