لا يختلف اثنان على أن عصر هارون الرشيد ومن بعده المأمون كان ذروة الحضارة العربية الإسلامية، وذروة الانفتاح الثقافي والمعرفي بين الدولة العربية وبين جميع دول ذلك العالم، ما جعل الثقافة العربية فضاء للحوار والتجاذب الثقافي والمعرفي، تأليفاً وترجمة وشرحاً وتفسيراً ما هيأ أرضية خصبة لبناء صرح حضاري كان أنموذجاً فارقاً في المعرفة الإنسانية.
على هذه الخلفية كان بيت الحكمة ذلك الصرح الشامخ بإطلالته على نهر دجلة في جانب الرصافة في بغداد، مختالا بطرازه المعماري الذي يعد أنموذجاً متميزاً في تاريخ العمارة الإسلامية بسقفه المزدان بنقوش أنيقة بآيات قرآنية.
ولم يكن بيت الحكمة آية في طرازه المعماري فحسب وإنما كان آية في مخزونه الثقافي والمعرفي وحركته الثقافية التي كانت سمة من سمات ذلك العصر من الحضارة العربية الإسلامية.
والمقصود بـ"بيت الحكمة" الدار أو البيت الذي استخدم لحفظ أو خزن الكتب بصفة عامة، وكتب (الحكمة) أي (الفلسفة) بصفة خاصة. وكان مصطلح (الفلسفة) يشمل -في ذلك العصر- عددًا من العلوم مثل: الرياضيات، والفلك، والفلسفة، والمنطق، والطب، والطبيعة، وغيرها. كما جاء في الموسوعة العربية.

كانت بداية التأسيس حين أمر الخليفة هارون الرشيد (ت 192هـ/809م) بوضع النواة الأولى لبيت الحكمة في بغداد، باسم (خزانة الحكمة). جمع فيه معظم الكتب والمخطوطات الخاصة بالمكتبة من والده وجده، لإعداد بيت الحكمة، ليقوم المأمون بتوسيع هذا المبنى وتوسيع أقسامه وتحويله إلى أكاديمية كبيرة، عُرفت ببيت الحكمة، وأصبحت واحدة من أعظم مراكز الحكمة والمعرفة في العصور الوسطى، وساهمت في الحركة العلمية آنذاك. ويعد المرصد الفلكي من أهم الأقسام العلمية ببيت الحكمة، الذي أنشأه المأمون في حي الشماسية بالقرب من بغداد ليكون تابعاً لبيت الحكمة لتعليم الفلك فيها تعليماً عملياً، ويُجرب فيها الطلاب ما يدرسونه من نظريات، بإشراف أعظم علماء ذلك العصر في العلوم المختلفة مثل الخوارزمي، وأولاد موسى بن شاكر، والبيروني ومن خلال هذا المرصد استطاع المأمون بفريقين من العلماء أن يحسب محيط الأرض.
وكما يذكر الباحثون أن بيت الحكمة أنشئ في البداية من أجل استضافة المترجمين والحفاظ على أعمالهم، ومن ثم تمت إضافة أنشطة بحثية أخرى في مجالات العلوم والطب وعلم الفلك، ليضم العديد من المترجمين والعلماء والكتبة والمؤلفين والباحثين في كافة المجالات المختلفة، وتترجم فيه الكثير من المخطوطات والكتب من كافة الموضوعات الفلسفية والعلمية، بالعديد من اللغات مثل العربية والفارسية والآرامية والعبرية والسريانية واليونانية واللاتينية.
فلقد أدرك الخليفة المأمون من خلال تنشئته ودراسته من ناحية وعلاقته الوثيقة برجال العلم والأدب من عرب ومسلمين وغيرهم من الحضارات المختلفة أن بناء الحضارة العربية الإسلامية وازدهارها لا ينهض إلا عبر المعرفة والثقافة والعلوم المختلفة، بإيمانه أن المعرفة لا تحدها حضارة معينة ولا قومية ولا دين فهي كتاب الإنسانية المفتوح على جهات الأرض وجهات التواصل الحضاري والمعرفي بين البشر. لينطلق من هذه (العقيدة العلميَّة) في جعل بيت الحكمة بيتا لإيقاع الحوار الحضاري حيث كان يستجلب المخطوطات من كافة اللغات والحضارات ومن أهمها اليونانية فكان يرسل العلماء إلى العاصمة البيزنطية ليختاروا المخطوطات ونقلها إلى بيت الحكمة في بغداد، مثل: يحيى بن ماسويه، والحجاج بن مطر، ويحيى بن البطريق، وغيرهم. ليعاد تصنيفها وترتيبها وفقًا للأصول المرعية في بيت الحكمة القائمة على معيار الكفاءة العلمية، ومن المترجمين والعلماء الذين عملوا في بيت الحكمة، نذكر: يحيى بن ماسويه، والحجاج بن مطر، وحنين بن إسحاق، وابنه إسحاق، وحبيش الأعسم، وقسطا بن لوقا وغيرهم. حيث تشير بعض الدراسات إلى أن عدد الكتب التي اشتملت عليها هذه المكتبة في أيام الخليفة المأمون، ما بين كتب عربية وأجنبية، مؤلفة ومترجمة، بلغ نحو مليون كتاب.
ويذكر ابن النديم في «الفهرست» أسماء للكثير ممن يقومون بالترجمة من اللغات الهندية، واليونانية، والفارسية، والسريانية، والنبطية، الذين قاموا بترجمة الكتب إلى العربية وسائر اللغات المنتشرة في المجتمع الإسلامي، فقد كوّن المأمون ثروة كبيرة من الكتب القديمة، فشكل لها هيئة من المترجمين المهرة والشراح والوراقين، للإشراف على ترميمها ونقلها إلى العربية، وعيَّن مسؤولاً لكل لغة يشرف على مَنْ يترجمون تراثها، وخصص لهم رواتب عظيمة.
وبالتالي فقد تفرد عصر المأمون بشغفه المعرفي وتواصله الحضاري وترسيخه العمق الثقافي ليس فقط في الذاكرة الحضارية العربية والإسلامية وإنما في الذاكرة الإنسانية، ما عزز حركة الترجمة والتأليف في عصره لتبلغ أوجها، فقد كان يعطي المترجمين والمؤلفين أوزان كتبهم ذهباً، فانتعشت الترجمة إلى العربية من الحضارة اليونانية والفارسية والهندية. ليضع الأسس لحركة الترجمة والبحث العلمي في المنهج العقلاني والحوار الموضوعي.
كما كان الخليفة المأمون يتابع هذه الحركة في بيت الحكمة بنفسه بتردده المنتظم إليه للتباحث مباشرة مع الخبراء والمستشارين في آخر ما انتهت إليه البحوث، وفي مسائل التمويل وسوى ذلك من مسائل ذات صلة.
ومن العلماء المسلمين الفرس الذين عملوا في بيت الحكمة، وترجموا من الفارسية إلى العربية: الفضل بن نوبخت، وسهل بن هارون. ومن العلماء الصابئة نذكر ثابت بن قرة، الذي ترجم الكثير من كتب الفلك والهندسة من اليونانية إلى العربية. ومن العلماء العرب الفيلسوف الكبير الكندي، الذي كان عالمًا كبيرًا بالرياضيات والكيمياء والموسيقى، والعالم الرياضي محمد بن موسى الخوارزمي، وحنين بن إسحاق.
ولم يكتف المترجمون والعلماء العاملون في بيت الحكمة بترجمة الكتب من لغاتها الأصلية إلى العربية فحسب؛ وإنما قاموا بتفسير الكثير منها ونقدها وتصحيحها. بل إن بعض الكتب كان يترجم ويشرح ويصحح أكثر من مرة.

ولا تزال مؤسسة بيت الحكمة -رغم كل ما مر عليها من كوارث عبر التاريخ- تؤدي دوراً ثقافياً كبيراً.. من نشاطات وفعاليات علمية وثقافية ومعرفية ومؤتمرات وندوات وحلقات نقاشية وورشات عمل، لتبقى الصرح الشامخ للحوار الحضاري والثقافي شاهداً على أصالة الماضي العريق، وعظمة الحضارة العربية والإسلامية التي رسخت وجودها على أساس العلم والثقافة والمعرفة.. المعيار الحضاري الخالد في ضمير المكان والزمان.