تنسب هذه الظاهرة إلى شعر الحداثة وخاصة شعر التفعيلة، رغم أن جذورها تمتد إلى مختلف العصور، حيث تبرز اللغة الميتاشعرية في العصر العباسي على وجه الخصوص لدى أبي تمام، وقد عاودت هذه الظاهرة البروز مرة أخرى، وبصورة واضحة مع القصيدة العمودية الجديدة، فالشعر كموضوع تجربة رئيسة لدى عدد كبير من شعرائها، ومرجع ذلك في رأي الباحث عوامل عدة تتعلق بالتأثر بالحداثة الشعرية من جهة، والوعي الشعري بدور اللغة، وأحقية النص في تفرده ومخاتلته للواقع، ومكمن أهمية الميتاشعرية في القصيدة أنها تكشف عن الوعي الشعري لدى صاحبها ورؤيته للشعر وطبيعته ودوره بل وأدواته.
في الميتاشعرية يكون الشعر ذاته هو موضوع القصيدة، أي دال ومدلول معاً، وحين نقول الشعر هنا فنقصد ما هو مسيس الصلة به أو أحد مكوناته كمفهوم الشعر، أو المجاز، أو التفاعيل، أو مصطلحاته، وما فتئ الشاعر الحديث يسائل تراثه الشعري، بمختلف مكوناته وصوره، معبراً عن وعي نقدي ميتاشعري، في إطار حوار متجدد مع الماضي، يفتح أفاقًا جديدة، ويطرح أشكالًا جديدة للعلاقة مع التراث الشعري السابق.
(1)
في قصيدة (وداعاً أيتها الصحراء) جاءت ميتاشعرية أحمد بخيت طازجة تمتد جذورها إلى المتنبي وشعوره بذاته وبقصيدته، وقد أسعفته طاقته الشعرية الهادرة على بناء لوحات فنية موسعة ومنفتحة على التراث، وأعانه في ذلك انفتاح واع على التراث بكل مكوناته، وقدرة عالية على السبك والحبك، دون تكلف لتناص أو إقحام لقافية، يقول بخيت:
سأخرجُ من حرير العاشقاتِ
ومن ذهبٍ
يخونُ معلّقاتي
أجلْ
لي صاحبٌ يبكي
فأبكي
على طلل يليق بمفرداتي
ولي لغتان:
فصحى أنجبتني
ودارِجَةٌ
سأمنحُها رُفاتي!
ولي زهوُ «المنخّل» حين يُفضي
بأسرارِ البُروقِ
إلى الحصاةِ
ولي
شرفُ الصعودِ إلى غيومٍ
تُقطّرني.. على «خدر الفتاة" (الأعمال الكاملة، ص: 511).
بدءاً من الفعل (سأخرج) تنبثق في ذهن المتلقي فكرة التمرد على النسق، أيا كان هذا النسق شعرياً أو اجتماعياً، وقد جمع الشاعر بين النوعين في عبارة موجزة مكثفة، تعتمد الصورة الحية المتنوعة التي تجمع بين الاستعارة والكناية، بما تقدمه الصورة من عالم مضاد يتمرد عليه الشاعر، فهو يثور على دور الشعر في تراثنا العربي، بوصفه سمير السلطة، ربما لا يغالي الشاعر في تمرده، إذ يحكمه التراث الذي يرتبط به برباط رحمي، ولذا ربط نفسه -لا بفحول الشعراء- بل بمتمرد آخر مثله، أفضى به تمرده إلى الموت، فالميتاشعرية ترتد إلى عصر البكارة والفطرة الشعرية، لكنها لا تنفصل عن ذاته وحاضره، لذا يتقاطع مع شخصية المنخل اليشكري اتصالا وانفصالا، فهو لا يتخذه قناعاً، بل يتماس معه في تمرده وبكارته الشعرية وبحثه عن خصوصية شعرية، تشبه تلك التي بناها المنخل بقصيدة واحدة، لكنه في الوقت نفسه ينفتح بتجربته الشعرية ليربطه بالطبيعة، ودور الشعر في استكشاف الجمال البشري أنَّى يكون، فيقلب الغزل الحسي الصريح إلى شعرية أخرى مغايرة.
(2)
يمثل حسن شهاب الدين حالة خاصة من الميتاشعرية في دواوينه المختلفة، لذا برزت هذه الظاهرة بشكليها السابقين، بوصفها المحور الرئيس لتجربته الشعرية، بوصفها اشتغال وانشغال باللغة، بوصفها بيت العالم، حيث ينصرف الشاعر إلى القصيدة كشكل والشعر كموضوع، يستنفد في تأمله طاقته الشعرية وهو ما ينال من حركة القصيدة وتوالد معانيها، ويؤثر على الأداء الشعري الصاعد والهابط، فهو يتأمل الشعر بوصفه موضوعاً ويعالجه في هذا الإطار، من خلال تقديمه في تعريفات ورؤى مختلفة تتراكم وتتجاور ولا تتوالد، ومن ثم تحضر القصيدة ويغيب الشعر.
في قصيدته (بخفة قط في القصيدة) يواصل شهاب الدين بحثه عن الشعر، الشعر الصافي الذي لا يخلص لغير الشعر، فيقدم لنا القصيدة بوصفها ذاتا تتشكل، من خلال عدة صور دالة بدءاً من فعل الدهشة باعتباره الشرارة الأولى لميلاد القصيدة، ومن خلال عملية التشخيص تلك تظهر شعريتها الخالية من زيف التقليد ومن أثقال المجازات المستهلكة، تبدو غضة وخفيفة من الأثقال رغم ما تحمله من هموم، فالعلاقة بين القصيدة والواقع لا تقوم على المحاكاة، بل تعيد تخليق الواقع وبناءه وفقاً لرؤية الشاعر لطريقة بناء القصيدة وتشكيل شعرية خطابها؛ أي أن الواقع يحضر بوصفه أداة لا موضوعاً، يشكل القصيدة في الوقت الذي تقوم هي بتشكيله:
بِدَهْشَةِ الطِّفْلِ تَرْنُو لِلْوُجوهِ
وَمِنْ مِرْآتِها
لِلْمَجازِ الغَضِّ تَلْتَقِطُ
تَمْشِي بِخِفَّةِ قِطٍّ
لَيْسَ يُثْقِلُها زَيْفُ الكِنايةِ
وَالتَّشْبِيهُ
وَالشَّطَطُ
بَلْ في بَسَاطةِ أُمٍّ
تَرْتَدِي وَطَنًا مِنَ الهُمومِ
وَلا شَكْوَى
وَلا سَخَطُ (بخفة قط في القصيدة، ص: 21).
وفي خطوة تالية بمثابة عملية تنقيح للقصيدة التي هي ذاتها تنقيح للواقع من أكاذيبه، يحاول ألا تدنسها بزركشتها الزائفة وخداع من يشبهون كتابة خداجٍ بغير تنقيط، أي مفرغة من المعنى ومفتوحة على التأويل والقراءة وفقاً لعملية التنقيط، وتخلع عنها أقنعة اللصوص والمستبدين، وذلك حين يقول:
وَحِين تُبْصِرُ أَثْوَابًا مُزَرْكَشَةً
تَمْشِي
وَأَصْحَابُها..
مِنْ خَيْطِها سَقَطُوا
وَأَوْجُهًا
غَيْرَ ما تُبْدِي مَلامحُها
كَأَحْرُفٍ في كِتَابٍ
ما بها نُقَطُ
وَأَوْجُهًا لَيْسَ تَدْرِي..
أَيَّ أَقْنِعَةٍ وَرَاءها
وَلُصوصٌ تلكَ
أَمْ شُرَطُ؟
هنا يعاود شهاب الدين مخاتلة عملية إنتاج القصيدة من خلال الواقع الذي تريد أن تنتجه، والواقع تحاول أن تتخلص منه على مستوى تشكلها كقصيدة شعر مشخصة خالية من أدرانه ولصوصه ومستبديه، بيد أن تشكلها فعلا لا يتم إلا من خلال ذكرهم أو الإشارة إليهم، أي أن الواقع المختل يجمع بين الحضور والغياب، غياب ترتجيه القصيدة لنفسها في طريق خلاصها للشعر وللجمال الفذ، لكن عناصر هذا الواقع لكي تغيب، لا بُدّ أن تكون حاضرة ليتم التخلص منها واستبعادها، وعليه فإن الخطاب الميتاشعري في القصيدة لم يكن بنية منغلقة على ذاتها، بل كان تفاعلًا خلاقاً مع الواقع الخارجي حضوراً وغياباً، أبرز جماله الذي تتدثر به وقبحه، الذي تحاول أن تخلعه لتصنع ثوبها القشيب.
(3)
في قصيدة الشاعر السوري حسن إبراهيم الحسن (ذاكرة الحصى) استعادة لموضوعة الطلل القديم والبكاء عليه، ولكن في إطار جديد، حيث يقول:
فيم انتظارُكَ؟
كلهم رحَلوا..
فلمن تلوِّحُ أيها الطللُ؟
مرُّوا..
وما عرفوكَ
لو عرفوا
لا الدمعَ، بلْ أحداقَهم هطلوا
منذ الفرات
على ظهيرتهم
كنت السرابَ ليورق الأملُ
كنت انعكاسَ الظلِّ/
جمرتَهم
فيمَ اشتغالُك بعدما أفلوا؟
بالأمسِ..
لو في بالهم خطرتْ
قُبلُ الوداعِ
بطِينِكَ اغتَسلوا
يا تهمةَ التفاحِ
ما نضجُوا...
لكن على أغصانِهم ذبلوا
هم..
شعبكَ الضلِّيلُ، يؤنسهُم
قرح الحنين الــ ليس يندمل
هم
طينُك المسحوقُ
يا وطني
وهمُ الحصى الْـ حملتكَ يا جبلُ" (خريف الأوسمة، ص: 26، 27).
لم يستعد الشاعر الطلل لارتباطه بالترحال والبحث عن الكلأ؛ وإنما قام بتفعيله في سياق التغريبة السورية المعاصرة، مُحدِثاً قلباً في البنية الطللية، وجعل منه ذاتاً وموضوعاً في وقت واحد، فلا يخاطبه، كما خاطبه الشاعر القديم وناداه أو ألقى عليه التحية، إنما قام بتشخيصه في إطار أنه الفاقد لا المفقود، لتتبدل عملية بناء الطلل، فيظل المكان قائماً، لكنه فاقد لهويته بفعل القهر، فيما يتحول البشر الذين يبحث عنهم هم الأطلال، هم حصى الوطن وطينه، فالخطاب الشعري استدعى الطلل من الذاكرة الشعرية لكنه لم يحصره في دلالته التراثية بل أعاد تشكيله وفق معطيات واقع، والتباس العلاقة بين الإنسان والمكان الذي ينتمي إليه، لم يجد الشاعر المعاصر لتجسيد العلاقة الملتبسة مع الأوطان الطاردة لبنيها سوى علاقة الإنسان العربي بالمكان البالي والمتهالك، فهو يبحث عن بنيه بحثه عن هويته، التي يكشفها لنا في نهاية نصه، ليتشكل الطلل بوصفه علامة سيموطيقية زمكانية ممتدة على مستوى البنية والدلالة معاً، فالشاعر يسند تلويحة الوداع للطلل، في حركة مضادة للسلام على الطلل الذي كان يؤديه الشاعر القديم، كما أن العلاقة بينهما أضحت مشوشة، فالوعي الجمعي لم يتعرف على الطلل/ الوطن لما اعترته العلاقة بينهما من خلل، والتغير الذي طرأ عليهما معاً، فنحن أمام حالة ضدية داخلية قائمة على تجاذبات التواصل والتنافر، الحضور والغياب والحب والكراهية...إلخ، تؤطرها حالة ضدية خارجية قوامها القلب، يقوم به النص في تمركزه في سياق الشعرية وتفاعله مع الطلل بوصفه نسقاً ثقافياً مفعماً بالدلالات.