لا يمكن أن نتحدث عن ظاهرة أو نمط فكري لمجتمع ما، دون معرفة الدوافع التي أدت إلى ردود الفعل لديه، فالإنسان حسب موقعه الاقتصادي إلى جانب تكوينه الذاتي، تتكون لديه بنية فكرية وسيكولوجية تتحكم فيه، فهو محكوم وِفق ما تعلمه في مساره التعليمي، إلى جانب المحيط الذي ترعرع فيه، وبهذا ينسج لنفسه رؤية للعالم؛ مما يستدعي وعياً بديلًا ذا بُعد فكري أيديولوجي يتجاوز كل ما هو مشوه في ذاته ونفسيته وفكره. هذا هو الوعي الذي يمكن وصفه بـ"البديل" أو "الانتقالي" أو "تطلعي"، وهو ما يطلق عليه "الوعي الممكن" لدى (لوسيان كولدمان Lucien Goldmann).
وبشكل مبسط وبسيط لا يمكن أن نتحدث عن تفكير وعقلية الفرد الذي يعيش داخل مجتمعنا مثلا، دون الحديث عن المرجعية الفكرية التي يستمد منها تفكيره، التي تفسر لدينا سيكولوجيته إلى جانب ردود أفعاله؛ لأن فهم بنيته الفكرية يقتضي طرح سؤال جوهري في هذا الصدد:
من أين يستمد الفرد مرجعيته الفكرية من حيث الخطوط العريضة التي يتكئ عليها في ممارسته اليومية؟
الجواب مرتبط أولاً: ببنيته الباطنية التي تتحكم في أغلب تفكيره وتحركاته، وهي مرجعية إسلامية في شقها "السلفي"، التي لا يقبل التعدد والاختلاف في تفسير وتأويل النص الديني.
وثانياً: الثقافة السائدة في مجتمعنا مرتبطة بالبنية التحتية (الاقتصادية الأيديولوجية) المتحكمة في أفعاله وممارساته الفعلية تجاه الحياة، والقضايا التي يدافع عنها، فقد يكون للدين والثقافة دور كبير في تهذيب النفس، ووضع قواعد وأعراف تخضع لها المجموعة، لكن هذا لا يفسر الجانب الجوهري في أفعال الفرد، والكيفية التي ينظر ويحلل بها الأمور.
ولا بد من الإشارة إلى أن أغلب التفسيرات التي تحلل ردود وأفعال الفرد في مجتمعنا يتم ربطها بالشق الديني وحده، فالفشل في الحياة مثلا مرتبط بالابتعاد عن الدين، ولا بد من الرجوع إلى السلف الصالح من أجل النجاح؛ لذا يتم إغفال الشق الاقتصادي الذي لديه تأثير كبير في تدين ونفسية الفرد في مجتمعنا، ما دام يتمسك بالجانب التعبدي ولو بشكل نظري، فأغلب ما يرجو الشخص تحقيقه أو تجاوزه وهو يؤدي الشعائر الدينية، مرتبط بالوضع المادي الذي يعاني منه، مثل تكاليف المرض، أو الكراء، أو غلاء الأسعار، ومصاريف التمدرس.
فدراسة الجانب الاقتصادي وتأثيره في تعبد وتدين الإنسان أمر بالغ الأهمية؛ لأنه سيفتح تساؤلات عديدة، ويمنح رؤى جديدة، تقرب الإنسان من فهم علاقة تدينه بالواقع الذي يعيشه، ونفسيته التي يحملها؛ أي لماذا الإنسان رغم ممارسته الشعائر الدينية، وتلقيه الخطاب الديني الذي يشعره بالذنب، وينصحه على فعل الخير وترك السلبيات والشر، إلا أننا نلاحظ أن الفرد مليء بالحقد والكراهية، وبكل أنواع الأمراض النفسية والعقلية؟
فهذه الإشكاليات يجيب عنها مصطفى حجازي في كتابه "التخلف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور"، الذي تطرق فيه إلى مسألة البنى الاقتصادية ودراسة التخلف، ومظاهر القمع والتسلط، ومشكل الحسد والسحر، والقهر والاضطهاد، ومحدودية التفكير وقصوره... فالقارئ ملزم بقراءة هذا النوع من الكتب، لأنها تفتح أمامه آفاقاً غير محدودة من التفكير، وتكسبه آليات القراءة النقدية، فتجعله أشد إدراكاً للواقع الذي يعيشه، وأكثر تدقيقاً للأفكار التي يؤمن بها، وبالتالي تتضح رؤيته الفكرية والإيمانية، وتعتدل نفسيته، فيضحى أكثر إنسانية بمناهج علمية يعتمد عليها، وأيديولوجيته الطبقية أكثر وضوحاً وفهماً، فهو يدرك ما له وما يجب عليه.
إن الواقع الذي نعيشه هو عبارة عن تراكم كمي وكيفي، فهو كمي من حيث الموروث الثقافي والبنى الفكرية، وكيفي من حيث توجيه وترويض الجانب الكمي لدى المجتمع، كما أن لهذين الجانبين دوراً كبيراً في بناء شخصية الإنسان في مجتمعنا، ما دام متصلا بالموروث الثقافي، ومحافظا عليه، ومحدداً لكثير من أمور حياته، مما يفسر أهمية فهم التراكم الكمي والتوجه الكيفي لدى الإنسان المقهور؛ لأنه يجعل الأمور التي يقوم بها ويمتلك شعوراً تجاهها أكثر فهماً ووضوحاً، لذا تصبح إشكالية (الحسد، والكراهية، والشعوذة، والخوف، والنفاق الاجتماعي، والشعور بالنقص، وانتشار الجهل، أو الجهل المعرفي)، أمور واضحة الأسباب والنتائج المنتظرة منها، والفئة المستهدفة بانتشار هذا النوع من التفكير، والجهة المستفيدة من ذلك.
فالشخص في مجتمعنا مع التطور التكنولوجي، وانتشار مفهوم الحداثة وما بعدها، أمام توقف حركية الفكر الثقافي، وأحادية التفسير والتأويل للنص الديني، يجد نفسه بين سندان محاولة التغيير ومواكبة تطور العصر، وبين مطرقة ما تفرضه الثقافة وإنتاجيات تفسير الخطاب الديني، كل هذه الأمور تخلق لدى الفرد نوعاً من الصراع الداخلي، أو وقوعه بين متناقضات نفسه وما يفرضه الواقع، لذا يعد ارتداء حداثة الغير مجرد مسخ للذات، وفي نفس الوقت يعد التمسك بالماضي أو الرجوع إليه بهدف التقدم، أو تجاوز أزمة الحاضر دون تمحيص الجيد والرديء في مجد وانتصارات ما سبق على مستوى الحضارة والثقافة، مجرد درب من العبث وسراب يذر الرماد في العيون، فلا حاضر يثلج القلب، ولا ماضي بمجده يمكن إرجاعه، وبالتالي يجد الشخص نفسه محاصراً بأزمات وإشكاليات، التي تجعله أمام تناقضات فكرية أو أمراض نفسية مثل (الحسد، الكراهية، الشعوذة، الخوف، التسلط...)، التي تستدعي تفكيراً نقدياً قائماً على الموضوعية والبناء العلمي، من أجل تجاوز أزمة الحاضر؛ لأن أي أزمة فكرية أو حضارية لمجتمع ما، تتطلب الاعتماد على مرتكزين أساسيين هما:
أولاً: الانطلاق من مرتكزات معرفية متنوعة المرجع، قائمة على العلمية والموضوعية، بعيداً عن العاطفة والتزمت الذي يقيد العقل، مما يتيح للجهل أن يكون هو سيد المشهد الثقافي والاجتماعي، والتفاهة تتربع على كرسي الخطابات والإعلام.
ثانياً: العمل على بناء العقلية النقدية القائمة على احترام الاختلافات والانتقادات، إلى جانب تبني الحرية النظامية التي تقف ضد التسلط والفوضى؛ أي اعتماد فكر يحاول تجاوز كل ما هو ميت في الثقافة والتأويلات والتفسيرات التي تم استخلاصها من النصوص المركزية التي تسيطر على عقلية الفرد في مجتمعنا.
وبالتالي؛ فالمرجعية الفكرية تلعب دوراً كبيراً في بناء الذات، إلى جانب البيئة التي عاش فيها الفرد، فردود الأفعال تختلف من شخص إلى شخص آخر حسب تركيبته النفسية ومدى قابلية تفاعله مع المعرفة التي يتلقاها، بحيث قد يتلقى شخصان نفس التعاليم، ويعيشان في نفس البيئة، إلا أننا نجد اختلافاً من حيث التعامل مع الأشياء وفهم الحياة، وهذا راجع إلى درجة وعي الفرد، ومدى تجاوزه للأمراض التي تلقاها في بيئته، وتسلحه بملكة النقد والتمحيص للمعرفة والتربية التي تحيط به. لكن هذه الخلفية المعرفية لا يمكن فصلها عن البعد الأيديولوجي من حيث بناء رؤيته للعالم، وتكتيكه في التعامل مع الأشياء؛ أي أن الفرد لا يمكن فصل فكره عن وجوده الذي يحدد ما الذي سيتعلمه؛ لأن الإنسان كائن يتم برمجته بواسطة مجموعة من المؤسسات والأنظمة الفكرية والأخلاقية، حيث تعد الثقافة، والدين، والسياسة، والمناهج التعليمية، والإعلام، مؤسسات تساهم في بناء أو هدم الفرد، وتحدد رؤيته وتعامله مع الأشياء، لذا على الفرد في مجتمعنا أن يكون متيقظاً في بناء معرفته، ومتسلحاً بآليات النقد ومطرقة السؤال.