حققت مواقع التواصل الاجتماعي حضوراً واسعاً بين مختلف الشرائح الاجتماعية خلال سنوات قليلة، وبات الملايين من سكان القارات الخمس يخصصون يومياً ساعات للجلوس أمام شاشات اللابتوب والجوال، لممارسة هذه الهواية الجديدة التي قدمتها التكنولوجيا الحديثة، وهذا ما يجعلنا نتساءل عن الأسباب الكامنة وراء هذا الإقبال المنقطع النظير على تلك المواقع؟!
يبدو أن الجواب البديهي هو:
- إن تلك المواقع تقدم خدمات يحتاجها الإنسان كي يقبل عليها.
الصور الجميلة
الإنسان بطبيعته لا يريد إظهار مساوئه وعيوبه النفسية، أو الجسدية، بل يعمل على سترها ليبدو بأفضل صورة أمام الآخرين، لهذا تضع المرأة المكياج لتبدو أكثر جمالاً عما هي عليه في الواقع، والرجال أيضاً يختارون الملابس الأنيقة حين الخروج من المنزل، لاسيما عند حضور المناسبات التي يجتمع فيها عدد غفير من الناس.
وحين الانتقال إلى العالم الافتراضي يتم اختيار الصور الشخصية الأفضل، وربما بعد إجراء التعديلات المناسبة على برامج الفوتوشوب للظهور بأجمل حلة ممكنة أمام الجمهور المجهول الذي لا يمكن إحصاؤه.
إضافةً إلى كتابة الأشياء الجميلة التي تظهر جمال الثقافة والأخلاق لنيل إعجاب الآخرين، فالإطراء والكلمات الطيبة تجعل الإنسان يشعر بالرضا عن نفسه، لاسيما من الأشخاص الذين يعانون فقدان الثقة بأنفسهم.
ولا بد من التأكيد على أن من حق كل إنسان أن يبدو جميلاً ما وسعه ذلك في الحياة اليومية. ولكن يجب الانتباه إلى أن في مواقع التواصل الاجتماعي قد لا يبدو الإنسان على طبيعته، بل بالصورة التي صنعها بنفسه؛ أي لا يتم إجراء التعديلات على الصور المنشورة فحسب -وقد تنشر صور لشخصيات مجهولة تتمتع بالجمال- وقد ينسحب الأمر على المعلومات الشخصية مثل: العمر، الدراسة، العمل، وربما بلد الإقامة. فقد توضع المعلومات المفضلة على أنها حقيقية، أي يتم اختراع شخصيات موازية، وبذلك يعيش البعض الحياة الخيالية التي كانوا يتمنون لو عاشوها في العالم الافتراضي، ويتحدثون مع الأصدقاء الافتراضيين على هذا الأساس، ويكتبون في منشوراتهم ما يناسب تلك الحياة الخيالية، وهذا يحقق شيئاً من التوازن النفسي المفقود، ولكن الخطورة أن ينفصل هؤلاء عن الواقع، وهذا سوف يؤثر سلبياً على حياتهم فيصبحون في الواقع عاجزين عن التأقلم مع محيطهم الاجتماعي، بل قد يفضلون قضاء بقية حياتهم في شرنقة هم سجنوا أنفسهم فيها.
دواء للعزلة
لكن هناك حالات مختلفة تماماً، فهناك أشخاص يفضلون العزلة -لأسباب مختلفة- ومنهم من يفضل قضاء حياته الاجتماعية على مواقع التواصل الاجتماعي، لاسيما من يتعرضون للتنمر -لسبب ما- فهم يحاولون حماية أنفسهم بالعزلة، وبذلك تصبح مواقع التواصل الاجتماعي نافذتهم الوحيدة للاطلاع على العالم دون الإحساس بالخجل، أو التهديد والخوف. ودون تمضية حياتهم في عزلة موحشة تجتر الاكتئاب، وقد تنتهي بأمراض نفسية مزمنة.
هواية التخفي
في الحياة الواقعية يمكن كشف الذين يضعون الأقنعة بسهولة من خلال مواقف الحياة اليومية، أما على مواقع التواصل الاجتماعي فالأمر ليس بهذه السهولة؛ لأن كل مشترك يجلس بهدوء مسترخياً على مقعده، وربما وهو يحتسي قهوته، ليكتب ما يريد أن يكون، وليس على ما هو عليه في الواقع. وهنا يشكل المشتركون مجتمعاً مثالياً على الصعيد النظري، وليس العملي!
وهؤلاء يعيشون حياة مزدوجة، أي حياة الواقع اليومي، والحياة الخيالية على الشاشة بعد إغلاق أبواب منازلهم.
أصدقاء الشاشة
هل الصداقة ممكنة في المجتمع الافتراضي؟
قبل الإجابة يجب أولا معرفة كيف تكون الصداقة في الواقع اليومي.
الصداقة تجمع أشخاصاً يتشاركون الهوايات ذاتها، أو الأفكار نفسها، أو يلتقون في أوقات الفراغ للتسلية، فالإنسان لا يستطيع أن يمضي يومه كاملاً في العمل، أو مناقشة الأمور الجدية، فلا بد له من التسلية والمرح من وقت لآخر. وربما كانت أوقات الفراغ وراء الصداقات التي تتشكل على الشاشات.
لكن لماذا فضل الإنسان التخلي عن البحث عن الصداقات الحقيقية إلى الصداقات الافتراضية؟!
ربما يبحث الفرد عن الصداقات الافتراضية لأنه لم يجد صداقات حقيقية في حياته، وربما أصابته الخيبة من تلك الصداقات ففضل البحث عن صداقات افتراضية كتعويض عما يفتقده في الواقع. أو قد يتعذر على الفرد إيجاد أشخاص يرتاح إليهم في دائرة معارفه، وريما يعاني الخجل الشديد لهذا يلجأ إلى الحل الأسهل وهو تقليب صفحات المشتركين في الموقع ليجد من يشاركه اهتماماته فيرسل إليه بطلب صداقة، أما في حال عدم الاتفاق فيكفي الضغط على زر واحد لإلغاء تلك الصداقة دون تحمل أي تبعات أو إحراجات كما يحدث في الحياة الواقعية.
العلاج بالكلام
من الجدير بالذكر أن الكثير من الأفراد يفضلون التحدث مع صديق افتراضي باعتباره أكثر سهوله وأريحية، لهذا قد يفضل الكثير من المشتركين الدخول إلى تلك المواقع بأسماء مستعارة، وهذا يذكرنا بنظرية رائد التحليل النفسي (سيغموند فرويد) حول (التداعي الحر) الذي يخلص الفرد مما يثقل كاهله عندما يتحدث عنه، وبذلك سيشعر بالراحة. وهنا نستطيع القول إن الكثير من الصداقات الافتراضية كانت أشبه بجلسات العلاج النفسي. وهذا يبدو للوهلة الأولى شيئاً جيداً، ولكن الطرف الآخر قد لا يكون مؤهلاً للمساعدة الفعلية في التخفيف عن المتكلم، وبذلك يظل صاحب المشكلة يبحث عن صديق يفهمه فيكرر شكواه مراراً. ولكن حتى في حال عدم وجود الناصح قد يؤدي الكلام ذاته إلى شيء من تفريغ شحنة الكبت، وهذا لا يخلو من الراحة.
أما خطورة هذا الخيار فتكمن في وجود الشخص السلبي على الطرف الآخر الذي قد يقدم نصائح غير ناجحة ومفيدة، وهذا قد يزيد الأمر سوءاً.
جانب إيجابي
ليس كل المشتركين في مواقع التواصل الاجتماعي يفرطون في أناقتهم، أو يلجؤون إلى الكذب، أو يعانون من المشاكل النفسية. فكما في الحياة اليومية هناك أناس صادقون، ويتمتعون بالعفوية، وهذا ما يسمح بإنشاء صداقات حقيقية على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد تتحول تلك الصداقات إلى صداقات فعلية في حال الالتقاء الشخصي إذا كان هذا ممكناً. وهذا يقودنا إلى الحديث عن قصص الحب التي نشأت على مواقع التواصل الاجتماعي وانتهت بالزواج، ولكن كم هي علاقات الحب الفاشلة التي كانت مجرد رغبة في الثرثرة، وربما سببت الجروح العميقة لأصحاب النفوس الرقيقة الحساسة.