في تلك الليلة الصيفيّة لم تكن الكهرباء قد حلّت على قريتي، فما أن يهبط الليل عليها حتى تحتلّها ظلمة دامسة، تتخلّلها إضاءات شحيحة تجيء من بعض البيوت، فتخبو الأصوات التي تشهدها الحقول، والبيادر، والمراعي، ومجالس الكهول، والنساء. في تلك الليلة قتلَ عوّادٌ ابن عمّه شايش؛ لأنَّ نعجة لعوّاد أكلت من زرع شايش، فدبّ الصراخ والسباب بينهما؛ لينتهي بأن غرس عوّاد خنجره في خاصرة شايش، حينها انقسم أهل القرية إلى قسمين متناحرين.
كنّا صغاراً أنا وإخوتي وأخواتي حين جهّزت لنا أمي فِراشاً غطّته برداء بلاستيكيّ؛ لئلا ينفذ البول إلى الفرشات الصوفيّة. بضع نساء تجمّعن في الغرفة التي ننام فيها، وأخذن يتحدّثن بهمس مخيف حول الحادثة. كنتُ أسترق السمع لهن، بينما الآخرون غطّوا في نوم عميق إثر مزاج الرعب الذي أحدثنه النسوة. كان الضوء الشاحب للفانوس يسيل على جدران البيت الطينيّة، وصوت البوم يقوم بدوره في الوحشة ما بين الفينة والأخرى، حين أخذت مخيّلة النسوة تستغرق بالحكايات بإتقان، تماماً كما لو أنَّ فيلماً سينمائيّاً يُعرض بسلاسة.
صمتن لثوانٍ انفجرن بعدها بضحك ما لبث أن خبا من دون أن أعلم سببه، ثم عاودن حديثهن الهامس، حيث ولّـدت حكاية قتل شايش استرجاعاً لحكاية مغارة النايفية التي لم أجد رابطاً في تلك الليلة ما بينها وما بين حكاية القتل، سوى أنَّ النايفية امرأة قُتلت مع عشيقها في المغارة، وشايش أرداه عوّاد قتيلًا في الحقل. إلّا أنّهن رحنَ في استرجاع الحكاية بتلذّذ، أخذني إلى تذكّر تحذيرات أمّي بعدم الاقتراب من المغارة أثناء لعبي.
مغارة زعم كثير من أهل القرية أنَّ شبحين لرجل وامرأة يخرجان منها، ويمسكان بمن يمرّ من هناك، فيصيبانه بجنون يؤدّي به إلى الموت. سردت لي أمي الكثير من تلك الحكايات حول من أصابهم الجنون، ثم ماتوا لأنَّهم اقتربوا من تلك المغارة. قالت لي إنَّ رجلاً وامرأة كانا قد وقعا في العشق، وأخذا يلتقيان في المغارة. استشاط غضب أهل القرية من تكرار فعلتهما، فقتلوهما في المغارة ذاتها، ومنذ ذلك الحين – على حد قول أمّي – يقف شبحاهما قرب باب المغارة يتصيّدان المارة انتقاماً.
بقيت تلك الحكاية حيّة في ذاكرتي إلى جانب حكايات كانت تثير الرعب في النفس، خصوصاً تلك التي كنّا نسمعها في مجالس النساء في الليالي الموحشة، إلّا أنَّ تلك حكاية النايفية بقيت تفرض نفسها عليَّ من دون حيلة لي على طردها، رغم بلوغي الثلاثين من العمر، إلى أن تعرّفت بسلمى، حيث راح حبّي لها يشعل في قصص روحي نيراناً ما استطعتُ احتمالها، فشحت على رغبة لقائنا الأمكنة التي يمكن أن نتوارى فيها عن أعين الناس، لقاؤنا الذي اقتصر على لحظات قصيرة كنّا نتبادل فيها تحيات وآهات وكلمات خجلى على عجل وخوف. لكنّنا بتنا نتوق أكثر من ذي قبل للقاء طويل لا عيون مُتلصّصة تبدّد لذّته.
قلتُ لها ذات يوم بأنّنا سنلتقي في مغارة النايفية، مكان لا يقربه أحد، طلبٌ ألقى الرعب في أوصالها، وأصابها برجفة رحتُ أخفّف من حدّتها بكلمات مشوبة بالحنو والدفء. بقيتُ أكرّر المحاولات إلى أن وافقت، فالتقينا عندما حلّ الليل، وخبت الأصوات والحركة في القرية التي استحالت إلى لوحة سوداء، تخلّلتها نقاط صغيرة مضيئة.
عند طرف الطريق التي سوف تقتادنا إلى المغارة توقّفنا قليلاً، كان الخوف يربك خطواتنا، فكّرنا بالتراجع عمّا كنّا مقبلين عليه، إلّا أنّنا وجدنا أنفسنا في موقف منعنا من التراجع، حيث سمعنا صوتاً لمارة قرب الطريق، حينها أسرعنا الخطى نحو المغارة خشية من أن يُفتضح أمرُنا.
كانت سلمى تلتصق بي، جسدها بارد، وصوتها خافت يأتي ما بين لحظة وأخرى مختنقاً ومهزوماً، ونحن نيمّم شطر المغارة التي عند بابها، توقّفنا ثم التفتنا نحو القرية، وقد بدت هامدة لا يلوح من معالمها شيئاً، حالها حال المغارة التي خيّم عليها السكون الموحش.
بقينا لوقت صامتينِ، ننظر إلى باب المغارة، كأننا ننتظر الرجل والمرأة ليخرجا لنا، النايفية التي عشقت الرجل الغريب، والغريب الذي عشق النايفية. لكنّنا لم نحسّ بشيء، لذا راحت وتيرة الخوف تهبط رويداً رويداً إلى أن أخذت مشاعرنا تعود من جديد. كانت نسمة الهواء عليلة، أشعلت بنا الرغبة، ونحن ما نزال ملتصقينِ، فصار جسد سلمى دافئاً وأكثر ليونة.
قلتُ لها:
- خلينا نقعد.
قالت بصوت خفيض يشوبه الخجل:
- نقعد!
مكثنا لساعات متأخرة من الليل، قلنا فيها ما حلمنا بقوله من قبل، وبحنا بما زرع العشق في تربة قلوبنا العطشى. لامستُ وجهها ويدها وشعرها، وقبّلتها بلا خوف أو تردّد. عندما هممنا بمغادرة المكان رأينا رجلاً وامرأة يتبادلان القبل، ويغنّيان بصوت شجيّ. قالت سلمى وقد تركنا المغارة وراءنا باتجاه القرية:
- هذه هي النايفية؟
قلتُ بعد أن التفتُّ إلى الوراء، وكنتُ قد سمعتُ غناءهما الشجيّ المتواصل:
- ربما يا حبيبتي.