إذا كان لكل فنان "رسمه التخطيطي" الخاص، الذي يميزه عن غيره ويعكس توقيعه وأسلوبه؛ فإن ما يميز أسلوب الرسام الفرنسي Gérard Fromanger "جيرار فرومونجي" (تـ:2021) هو اشتغاله على الصورة الفوتوغرافية في شكل "كليشي". لكن، إذا كان الرسم، من حيث هو عمل فني، يتأسس ضداً على كل ما هو "معطى مباشر"، فكيف يشتغل "فرومونجي" انطلاقاً من "الكليشي"، وهو معطى مباشر، ليقيم عملًا فنياً على أنقاضه؟
عمل "فرومونجي"، في مرحلة ما من مساره الفني، على استثمار صور فوتوغرافية لمواقف وأماكن من الفضاء العام، يلتقطها بواسطة آلة تصوير مهنية ليختار منها الصورة التي يضعها كأساس وكقاعدة للون المهيمن في لوحته المأمولة1. يشكل هذا الانتقاء الأولي، بالنسبة لهذا الفنان، نقطة بداية، تليها خطوة ثانية تتمثل في إسقاط الصورة المختارة على قماشة الرسم بواسطة "مسلاط عاكس" ليبدأ عمل الرسم الفعلي. فماذا يعني حضور "الكليشي"على قماشة الرسم منذ البداية؟ وما هو مآله في النهاية؟ يثير هذان السؤالان مسألة تداخل السرد والتصوير مع الرسم.
الرسم والسرد:
لا يفترض في اللوحة الفنية أن تحكي قصة أو حكاية، كما لو كان الرسم وسيلة من وسائل إيضاح مشهد أو موضوع أو واقعة من الوقائع. كما أن اللوحة الفنية التي تحبل بالأثر الفني الفعلي، لا تقبل الاختزال في مجرد أشكال منمقة وألوان زاهية. لعل هذا ما حمل الرسام "فرنسيس بيكون" على التنبيه إلى وجود خطرين كبيرين يمكن أن يقع فيهما فن الرسم هما: الإيضاح والسرد ((Illustration et Narrati وهو نفس الأمر الذي تنبه له الشاعر والناقد الفرنسي "بودلير"، منذ القرن التاسع عشر. يدل هذا على أن الصراع ضد "الكليشيهات" والصور النمطية في فن الرسم، يمتد ليشمل، في عمقه، مختلف أشكال وقوالب التصوير Figuration والسرد، بما هي عوائق تحول دون إنتاج الأثر الفني الفعلي في الرسم. فمع أن السرد والتصوير مستقلان بطرق وأساليب اشتغالهما؛ فإن الصورة والحكاية بوصفهما معطيات مباشرة، تؤثران في عمل فن الرسم. ولعل هذا ما يؤكده "دولوز" أيضاً بإشارته إلى أن المعطيات المباشرة تتضمن "كليشيهات" تقتحم الفضاءات العامة والخاصة بما فيها مراسم الفنانين، بل وعقولهم أيضاً2.
فلا يكفي أن تحضر أشكال جميلة ومتعددة على اللوحة ليتحقق الأثر الفني. فكما يلزم أن يكون حضور أشكال متعددة في نفس اللوحة نابعاً من ضرورة فنية وليس اعتباطياً أو تعسفياً، فإنه يلزم أيضاً أن يكون ذلك الحضور في غنى عن أي سرد أو تصوير، كما هو الحال، حسب "دولوز" في لوحتي "المستحمات" للرسام الفرنسي "سيزان"(Paul Cézanne) (ت. 1906)، "العائلة القديسة" للفنان "ميكيل أنجلو" (Michel- Ange) (ت. 1564) في اللوحة الأولى تتجاور أشكال متعددة دون أن تحكي بالضرورة أي حكاية، وفي الثانية تجتمع ثلاثة أجساد في شكل فني واحد دون ما حاجة أو إحالة على أي حكاية3. غير أن ثمة عنصراً آخر يحول دون بلوغ الأثر الفني الفعلي والحقيقي يتمثل في الصورة أو القالب القصدي للفنان.
القصدية المسبقة:
"القصدية المسبقة" تحيل على ما ينوي الفنان رسمه منذ البداية أو قبل البداية. لعل التداخل بين هذا القصد الأول من جهة، والمعطيات المباشرة الجاهزة في شكل صور نمطية أو "كليشيهات"، من جهة ثانية، هو ما يجعل المجهود المطلوب إعماله في الصراع مع "الكليشي" في الرسم، مضاعفاً وأمراً لا مفر منه. فكما أن لا رسم بدون قصدية، فإن كل قصدية هي دائماً مغلفة بصور نمطية يجب الاشتغال ضدها وإزاحتها. ولعل هذا ما يزيد من قوة" الكليشي" بالمعنى العام ويجعله فارضاً نفسه على قماشة الرسم منذ الوهلة الأولى. ذلك، لأن القصدية المسبقة" هي دائماً "تصويرية" Figurative و"حكائية" Narrative بمعنى أنها تنحو تلقائياً نحو إعادة إنتاج صور وتمثلات أولية ونحو سرد حكايات. إن تجاور شكلين (أو أكثر) في لوحة، يحيل دوماً على حكاية مندسة تبغي الإفصاح عن نفسها4. لهذا، فإن "الصورة القصدية" للرسام حول ما ينوي رسمه تشكل أول" كليشي" وأول عائق يواجهه فعل الرسم. لا بد إذن من آلية للتصدي لكل ما من شأنه أن يشوش على إبداع أثر فني حقيقي على اللوحة. ولا يتحقق ذلك إلا عبر الصراع ضد ما يترافق مع "القصدية المسبقة" من " أفكار جاهزة" أو "كليشيهات" بغاية تجاوزها وتخطيها. وكما يؤكد ذلك "جيل دولوز"، فإن "الأثر الفني" الذي يتحقق في اللوحة لا يكون في اللحظة ما قبل الرسم، سوى "إمكانية أثر". ذلك لأن قيمة اللوحة الفنية تتحقق عن طريق تمكن الفنان من "إظهار قوة الأشكال الفنية". فالأشكال الفنية تمتلك قوة غير مرئية تحدث مؤثرات إدراكية (Des Percepts) وانفعالية (Des Affects) في الفكر وفي النفس5. وبما أن هذه القوة غير مرئية، فإن تحقق الأثر الفني معناه تحول القوة غير المرئية، بواسطة الرسم، إلى مُدرَكة. غير أن فعل "الإظهار" عند "فرومونجي" يقوم على الإخفاء و"التدمير". والسؤال هو: ماذا يخفي وماذا يدمر لكي يُظهِر؟
لا يكون "فرومونجي" منذ البداية، أمام قماشة "بكر"، جرداء، بل مكسوة بـ"كليشي" صورة؛ أي معطى جاهز أولي، ممثلًا في صورة فوتوغرافية مختارة يعتمدها كأساس للوحته. غير أن عمله كفنان لا يظهر إلا بعد أن يتم نفي وإلغاء المعطى المباشر على طريق إنشاء رسمه الخاص على أنقاضه وضداً عليه، حيث يعمد في البداية إلى إنشاء سلسلة أولى ضوئية عن طريق صباغة صورته المختارة المسقطة على قماشة الرسم، باللون المرغوب (وليكن هو اللون البنفسجي مثلًا) عبر الانتقال على نحو متدرج من مناطق مفتوحة اللون إلى مناطق داكنة. وهذا يعني، بلغة الرسم، أنه يخلط لونه البنفسجي بالأبيض ليحصل على مناطق مفتوحة ثم يجعل الأبيض يتضاءل شيئاً فشيئاً إلى أن ينعدم تماماً، ليحصل على مناطق داكنة. ثم يقوم بعد ذلك بإنشاء سلسلته الثانية وهي سلسلة الألوان.
يبدو أن "الرسم التخطيطي" في تجربة الرسام "فرومونجي" له وظيفة أولية سالبة تتجلى في اشتغاله كآلية للهدم والتقويض والتنظيف من أجل توفير شروط إثمار الأثر الفني المرغوب. إن الصورة الفوتوغرافية، موضوع الاشتغال في المنطلق، ليس لها إذن أي قيمة فنية في البداية؛ لأنها لا تعدو أن تكون مجرد "كليشي" أو معطى جاهز، ومن ثمة، فإن أول مظهر لاشتغال" الرسم التخطيطي" للرسام "فرومونجي" في بعده السالب، هو إلغاء "الصورة/الكليشي" كمعطى جاهز. من ثمة، فإن فعل الرسم عنده لا يبدأ إلا عندما يتم إلغاء الصورة المعتمدة كمنطلق لحساب سلسلة أولى ضوئية تنازلية تعقبها سلسلة أخرى من الألوان، وبالنتيجة، فإن الأثر الفني هو ما يقوم على أنقاض المعطى المباشر وضده، وليس إلى جانبه أو استمرارا له. وحسب "دولوز" فإن الفضل في إنتاج الأثر الفني بهذا المعنى؛ أي بما هو نفي للمعطى المباشر، يعود للرسام "ميغيل أنجلو" وذلك لسببين على الأقل:
أولهما أنه أول من أحدث تحولًا في الوضع الاعتباري للفنان الرسام عندما رفض أي اشتغال تحت الطلب. وقد لعبت شخصيته إلى جانب الظرفية التاريخية التي عاش فيها دوراً كبيراً في هذا التحول. أما السبب الثاني فيتجلى في "لا مبالاته" التامة إزاء موضوع اللوحة وموضوع الرسم. يتجلى ذلك في حرصه على الاشتغال الحر في جل لوحاته. فعندما يكون الاشتغال على موضوع تحت الطلب، فإن "القصدية المسبقة"(L’intention) تكون حاضرة بكل ما يترافق معها من تمثلات وأفكار مسبقة وهوامات مباشرة، بالمعنى السيكولوجي، وهذا كله لا يمكن إلا أن يقف حجرة عثرة على طريق القطع مع "الكليشي" من أجل إنتاج الأثر الفني المرغوب. ولعل هذا ما يؤكده الرسام الألماني "بول كلي" أيضاً (Paul Klee) (ت. 1940) عندما قال: "يتعلق الأمر في الرسم بالإظهار rendre visible وليس صناعة أشكال rendre des formes"6، والمقصود هنا جعل القوى الفعلية التي تؤسس الأثر الفني مرئية وهي بطبيعتها غير معطاة مباشرة في الواقع. ألا يدل هذا في النهاية على أن الرسم كأثر فني يتأسس ضد "الكليشي" في مختلف صوره وأشكاله؟
الهوامش:
1. Gilles Deleuze, https://deleuze.cla.purdue.edu/wp-content/uploads/2017/11/3b-Painting-28-April-1981-French-Revised-2023.pdf
2. دولوز، نفس المرجع السابق.
3. Gilles Deleuze, « La peinture et la question des concepts », 7Avril 1981
2b-Painting-07-April-1981-French-Revised-2024.pdf
4. Maxime Girard, « Forces et sensation dans la peinture de Francis Bacon » Référence : Francis Bacon, « Logique de la sensation », 2016.
https://doi.org/10.4000/philosophique.948
5. DELEUZE Gilles, « Francis Bacon : Logique de la sensation », Paris, la Différence, 1981.
6. يورده " دولوز"، الرسم ومسألة المفاهيم، أبريل 1981، مرجع مذكور.