شقاوة قديمة

أحمد مصطفى علي حسين

على الجسر الذي صنعه الإنجليز لعبور القطارات فوق الترعة الإبراهيمية، يوجد ممشى خشبي صغير ملاصق لشريط القطار، إنه بالكاد يكفي لشخصين متجاورين أن يمرا عليه، كنت أنا هناك أسير في طريق عودتي إلى المنزل، والمعتاد وفق القواعد المتبعة أن الجهة الأخرى إذا ما كان بها شخصان يسيران معًا ويقابلانك، تجدهما على الفور يتقدم أحدهما على الآخر ويسير الآخر خلفه.

في هذه المرة لم يحدث ذلك، لقد كان كل منهما يحظى بمنصب رفيع، إن الرجلين كليهما بدرجة مدير عام، وتم تعيينهما في يوم واحد حيث لا يوجد أقدمية في القرار، ولم يستطع الموظف أن يتعرف على الورقة التي وقعها رئيس الهيئة أولاً.

توسلت إليهما، وصرخت قائلاً: إن المسألة هي حياتي، أو حياة أحد منكما، لنرحم أو نتعقل.

نظر كل منهما للآخر، وقالا معًا: نحن على الدرجة نفسها إذن، وأنت الشاذ هنا.

قلت لهما في خنوع: إذن، لترحما أولادي الصغار عسى أن يكون منهم من ينفع الوطن.

كأنهما لم يسمعا شيئًا، وفجأة بعد أن كانت المشكلة هي عدم تنازل أي منهما لزميله ليتقدمه، صار هناك اتفاق بينهما للتماسك ودفعي إلى أسفل، حيث قاع الترعة الكبيرة في بداية جريانها وانطلاقها من مدينة أسيوط.

كان جسداهما قويين، ومنظرهما مرعباً للغاية وأيديهما الأربع تمسك بي، وأنا بكل قوة أسعى لأدفع أيديهما عني، ولكن بلا جدوى، بل وربما لو كانت يداً واحدة منهما لكانت كفيلة بإغراقي وأسرتي معاً.

قلت وأنا أبذل قصارى جهدي سدًا: أرجوكما، اتركاني لوجه الله، افعلا خيرًا للحياة الآخرة.

لم يتأثرا، وفجأة هب زميلي في العمل الحكومي الذي يطلق على نفسه "شقاوة قديمة"، ووجدته يطير من خلفي لمواجهة الأيدي، ويقول: لأنه طيب وعلى الدرجة الثانية، أليس في قلوبكما رحمة!

تراجعا خطوتين، وبدآ يفكران، لقد صار العدد اثنين في مقابل اثنين، أو لنقل "شقاوة قديمة" يساوي اثنين وأنا أساوي ربعاً فقط؛ لأن "شقاوة قديمة" معروف عنه أنه لا يخاف.

نظر كل منهما للآخر، وعادت الحيرة، أيهما يتقدم على الآخر، أما بالنسبة لي ولشقاوة قديمة فهذا الأمر لا يمثل أدنى مشكلة الآن، فأنا كنت سأموت وعدت للحياة، وصرت مؤمنًا مع صديقي بأننا خلقنا من تراب.

بدأ كل منهما يذكر الآخر بتاريخ الميلاد وتاريخ التعيين، واسم العائلة، والواسطة التي عينته في المنصب، وفي كل جملة يختلفان كثيرًا، فمثلاً يصر كل منهما على أن واسطته أكبر من الآخر، فيقول أحدهما: أتريد أن تساوي عضو مجلس الشعب بالثري المعروف الذي عينك وجميع أبناء الشعب تعرف بأنه تاجر مخدرات، أتساوي وساطتي النبيلة بوساطتك تلك!

فيقول الآخر: أليس تاجر المخدرات هذا هو الذي بنى الجامع والمستشفى لأهل قريتك الفقيرة، هل فكر عضو مجلس الشعب أن يبني لهما، ألم يقم عضو مجلس الشعب بأخذ موافقة على 5 مدارس، و3 مستشفيات بقريته وحرمان قريتك وغيرها، فلا تعايرني بتاجر المخدرات الذي يحترمه الجميع.

فيتفقان أن يختارا شيئاً آخر ليتفاهما عليه، فيقول أحدهما: إن لدي 3 عمال بوفيه وسكرتيرتين وهذا يجعلني أهم.

فيقول الآخر: أنا أعلم بحال مركزكم الحكومي الذي بلا سيارة منذ عشرة أعوام، أما أنا فلدي عامل بوفيه وسكرتيرة حسناء تساوي سكرتيرتيك، وامتلاكي لسيارة حكومية فارهة أنت لا تمتلكها يجعلني أعوض خسارة العاملين؛ إنها تعاون العامل ليجلب لي لبن العصفور، ويشتري لي خضار المنزل، وهذا يجعلني أهم.

كنت أنا وشقاوة قديمة نضحك بشدة، وسريعًا طرأت لشقاوة قديمة فكرة ليخلصنا من الجدال العقيم الذي لن ينتهي، خصوصًا وأن الشمس بدأت تسحب أشعتها استعدادًا للرحيل تاركة لون السماء أحمر وكأنها قطعة من نار.

وإذ بشقاوة قديمة يقفز لأعلى فتهتز الأخشاب المخصصة للمارة فوق الجسر الإنجليزي الذي تجاوز القرن والنصف، وبهذا نهتز جميعًا، يقفز شقاوة قديمة مرة أخرى وأخرى حتى بدأت تظهر شقوق في الخشب، ويضحك شقاوة قديمة معلنًا: إنها النهاية للجميع ها هنا، سأريحكما يا...

حينها هرول المديران بشدة وراء بعضهما البعض، لا نعرف أيهما الذي سبق الآخر، ولكنهما كانا يقولان بصوت واحد: سنموت يا شقاوة قديمة، ستقتلنا وسوف ينتقمون منك أشد انتقام، سنموت يا ابن...

ضحك شقاوة قديمة وهو يرافقني ويقول لي: أتعلم، أن الأخشاب التي بها شقوق لم تكن لتقع لأنها صناعة إنجليزية قوية، والإنجليز لديهم جدية كبيرة في صناعتهم.

قلت: ولكنهم على أية حال صنعوها لأجل سرقة البلاد.

شقاوة قديمة: هل كان لديهم مديرو عموم من أبناء بلدتنا؟ أو هل يمكننا معرفة أسماء مديري العموم لديهم وعائلاتهم؟

قلت: بصراحة يا شقاوة قديمة، يمكنك ولكن ليس بسهولة، وأنا شخصيًا لا أعرف، فهذه أمور قديمة للغاية، ولا أحد يهتم، ولكن لماذا؟

شقاوة قديمة: كنت أرغب بمعرفة شيء ما.

اتفقنا ألا نهتم بعد أن اكتمل عبورنا للجسر الخشبي بأمان، ونظرنا للضفة الأخرى فوجدنا السلام قد عاد للمديرين وصارا وكأنهما لم يتنازعا ولو للحظة واحدة ويسيران معًا، يضحكان وكأنهما لم يكونا خصمين للحظة واحدة، حيث الطرق المتسعة والتي بلا عبور.

ضحك شقاوة قديمة، وضحكت معه، لم تكن الضحكات على ما حدث فقط؛ وإنما لأننا وللمرة المائة نعود إلى المنزل ليلاً بدون القدرة على شرح أسباب التأخير المتشابهة لأسرنا، خوفًا من اهتزاز مكانتنا كموظفين في المكان العريق.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها