رواية المغاربة: القارئ وإنتاج المعرفة

سعيد الفلاق


يُجمع الباحثون والروائيون على أن عملية الكتابة مرتبطة أشدّ الارتباط بالقراءة، فمن لا يقرأ لا يكتب، فالقارئ الذكي والفطن هو كاتب جيد قادر على توظيف مختلف مقروءاته في كتابة نص قوي ومؤثر. أما القارئ الرديء الذي لا يحتك إلا بالنصوص الضعيفة، فإنه لن يكون قادراً على تجاوز مقروئه. وإذا أردنا الاختصار يمكن القول إن الكتابة نتاجُ القراءة. هي انتقال من استهلاك النصوص إلى إنتاج نصوص أخرى، هي امتصاص للمعرفة، وإعادة تدويرها وفق رؤية ذاتية مختلفة. على أن الروايات بدورها جسّدت تفاعلاً هاماً مع القارئ، بل إننا نجد روايات تدور حول القارئ، لعل أهم ما يمكن ذكره في هذا السياق رواية القارئ للألماني برنهارد شلينك، ورواية ظل الريح للإسباني كارلوس زافون.
 

وسنروم فيما يلي إلى دراسة رواية المغاربة للروائي المغربي عبد الكريم جويطي بالتركيز على ثيمة القراءة، وإنتاج المعرفة التاريخية والأدبية والدينية.



تحكي الرواية قصة بطلين؛ الأول اسمه محمد الذي أصيب بالعمى في سن العشرينات. إذ تعمد الرواية إلى تتبع هواجسه الأولى وهو يسير في طريق العمى الكلي، فرغم كل المحاولات التي سيقوم بها لتلافي عدم الرؤية، إلا أنه سيستسلم لقدَرِه أخيراً، فلا الجَدّ ولا الأضرحة ولا "بازوف"، ولا "دليل الخيرات" بقادرين على إنقاذه. أما القصة الثانية، فهي حكاية العسكري أخ الأعمى الذي يعود من حرب الرمال معطوباً، وبنفسية مضطربة، وذاكرة مكتنزة بما رأته من عمى الحرب والصراع والقتل. انطلاقاً من هذين القصتين تنشأ حكايات أخرى اجتماعية وتاريخية تتداخل فيما بينها.

تكشف لنا الرواية انطلاقاً من تحليلها السوسيولوجي والنفسي عن عوالم غنية، ومستورة من تاريخ المغاربة عبر محاولة تفكيك الكثير من القضايا الشائكة، مثل: القبيلة، المخزن، الدين، التاريخ، الهوية. لما لهذه القضايا من دور في صنع الماضي، وتوجيه الحاضر. ولم يعد خافياً ذلك التداخل الراسخ بين الرواية والمعرفة على اعتبار أن الرواية خطاب يقدم معارف متنوعة تتأسس على مدى ثقافة الكاتب وعمق رؤيته للتاريخ والذاكرة والمجتمع والحاضر والمستقبل. يرى محمد برادة في كتابه أسئلة الرواية، أسئلة النقد بأن الرواية "لا تنفصل عن المعرفة" (ص: 17) وحين نتحدث عن المعرفة المقدّمة، فإننا نحيل مباشرة إلى القارئ الكاتب. حيث إن المعرفة لا تُنتج من العدم، وإنما من الحوار المباشر مع الكتب والمدونات التاريخية والفلسفية والاجتماعية. ويمكن النظر إلى رواية المغاربة عبر المستويات التالية: مستوى القارئ التاريخي، مستوى القارئ الأدبي، مستوى القارئ الديني.

1 . مستوى القارئ التاريخي

يأتي هذا المستوى في رواية المغاربة في طليعة المستويات الأخرى، حيث يلاحظ أن المعرفة التاريخية المبثوثة في الكتاب تشكّل مساحة هامة، يمكن تقسيمها إلى شقين اثنين؛ الأول يقدّمه الكاتب بطريقة غير مباشرة في سياق السرد، أو ضمن الحوارات بين الشخصيات، وهنا نجد المعرفة التاريخية تبتعد عن لبوسها المرجعي، وتتحوّل إلى أحداث مسرودة بتواريخ مضبوطة بعد أن يتم استعادتها وتطعيمها بالتخييل. لأن مهمة الكاتب ليست هي التأريخ، وإنما إعادة كتابة ما جرى وفق تصور يعيد خلخلة الأحداث التاريخية عبر الإيمان بعدم صِدقية التاريخ المكتوب. تتحول الرواية بهذا المعنى كما ألمع إلى ذلك خوان غويتيسولو إلى "مملكة الشك" حين يقول: "إننا نعلم من سرفنتيس أن الرواية هي مملكة الشك، فادّعاءات تاريخ مؤسّس عادة على حكايات وأفعال خرافية (مصطنعة) تعارضها الرواية بحقيقة الخيال الخلاق، وأمانة العمل المتحرّى من الأقنعة ومن مهازل كل أسطورة مرفوعة إلى سدّة الحقيقة الدوغمائية المتفشية".

ولعل هذا ما أشار إليه جويطي في مرجع آخر بقوله: "هبة الرواية الإنسانية تكمن في قدرتها على تهديم كل الحقائق والأنساق، وعلى تقليب تربة اللغة النائمة بالسخرية، واللعب، وبناء احتمالات جديدة فوق أنقاضها". ومثال ذلك حديث الكاتب عن حرب الصحراء وتاريخ قبيلة مسفيوة والباشا التهامي الكلاوي وتاريخ القبائل والسلاطين الذين حكموا المغرب.

أما الشق الثاني وهو الغالب، فيحضر من خلال الاقتباسات ذات المنحى التاريخي التي تم تسجيلها من عدد كبير من المصادر والمراجع، بحيث بلغ عددها أربعة وثلاثين اقتباساً، وتبدأ من فصل هذيانات مغربية، ثم تتواصل إلى نهاية الرواية. ويلاحظ أنها تتسم بتوجّه سياسي بالأساس، يركّز على تشخيص نفسية المغاربة وطبيعة الحكم والحكّام، بهدف تقديم سرد تاريخي بديل بمعزل عن صوت الكاتب. هذا الصوت تُصدره المقتطفات، إذ يتوارى المؤلف خلفها، يتحجّب بقناع التاريخ للتأكيد على أن هذا الأخير أعمى، ويظل يكرّر نفسه دون ملل. ومن المهم القول بأن العسكري بطل الرواية الثاني هو من يتقمص دور المثقف الذي ينقّب في كتب التاريخ، ويكتب الشذرات وينتقد الأوضاع المتردية الهشة. ففي فصل الكتابة يفصح العسكري عن جدوى التأليف، فيقول: "الكتابة هي فعل المقاومة الوحيد والمتبقي في بلد صمتت طيوره عن الغناء، وصارت أزهاره ترفض أن تتفتح في الصباح، وتوقفت أشجاره عن النمو" (ص: 145). ولئن كانت الكتابة تتّصف بهذا الفعل، فإن القراءة أيضاً لا تبتعد عن كونها مقاومة في زمن تفشي الجهل والرداءة.

سعى الروائي عبد الكريم جويطي إلى جعل شخصية العسكري -المحارب الذي نثر دماءه في الصحراء- بطلاً يحمل الكثير من الثقافة والوعي والإحساس بضرورة التغيير والبحث في التاريخ عن الداء الذي أوصل البلاد والعباد إلى يأس يكاد يكون مستفحلاً. فالتاريخ كان ولا يزال خزّاناً للمعارف والحِكم، لكن القليل من يتعلّم من أخطاء الأمس، ذلك أننا نكرر نفس الهفوات وننتظر نتائج مغايرة. على أن جعل العسكري رجل ثقافة ينم عن توفره على مكتبة هائلة من الكتب النادرة في مختلف المجالات التاريخية والفلسفية والأدبية ترفد ثقافته وتوسّع مداركه، وتدفعه إلى تقديم تصوّر خاص عن البطل الإشكالي المسكون بجراحات الحاضر، وبتشريح الواقع تشريحا تاماً، بغرض فهم الداء ومحاولة البحث عن الدواء.

ومهما يكن؛ فإن الرواية تقدّم ما يمكن تسميته بـ"أدب مقاوم" يسير في اتجاه تثقيف القارئ، ونقله من عتبة الاستهلاك إلى الفهم. لذلك لم يكن نقده الجارح للشخصية المغربية نقداً عارضاً ولا استعراضاً، بل رغبةً في إيقاظ النفوس الغافية منذ زمن طويل.

2 . مستوى القارئ الأدبي

يحضر القارئ الأدبي داخل النص الروائي -على الأقل- من خلال أربعة جوانب نعرضها فيما يلي:

أ . التناص الشّذْري: نقصد بالتناص الشذْري إقامة ترابطات بين نص شذري سابق ونص لاحظ، فأما النص الأول فهو شذرات فرناندو بيسوا المعروف بهذا النوع خاصة في كتاب اللاطمأنينة، وأما النص الثاني، فهو الذي يندرج ضمن الرواية تحت عنوان: شذرات النهايات؛ على خطى بيسوا. ونسجّل أن هذا الفصل تضمّن ثلاث عشرة شذرة قصيرة مكتوبة بلغة شعرية، كما أن الإحالة إلى الكاتب البرتغالي بيسوا صريحة وواضحة، تقود إلى أن الروائي أراد اقتفاء أثر الكتابة الشذرية والاستفادة مما تتيحه من تكثيف حاد للمعاني.

ب . التناص الروائي/ السّيري: ويتجلى هذا الضرب بواسطة استحضار الأديب المصري طه حسين، ففضلا عن استثمار عماهُ فنياً على اعتبار أن البطل يتقاسم مع حسين هذا الابتلاء، استثمر سيرة الرجل التي بسطها في كتاب الأيام. نقرأ في الرواية: "قلبتُ الكتاب، فألفيته سيرة طه حسين الذاتية: الأيام ... لذا بكيت يومها بحرقة واختناق وأنا أضع يدي على الكتاب، كأني أضعها على صكّ إعدام" (ص: 45). اتخذ البطل من هذه السيرة دليلا عملياً له في مسيرة العمى الصعبة، يسترشد بما تتحدث عنه من تجارب وآلام.

ج . التناص المسرحي: يتمثل هذا التناص بالعودة إلى الإرث المسرحي للكاتب الإنجليزي ويليام شكسبير عبر الاستفادة من مسرحية هاملت التي اعتُبرت أحد أقوى المآسي، ومن أكثر المسرحيات تمثيلاً وإنتاجاً. ويأتي استحضارها في الرواية بعد واقعة الجماجم والتحقيق الهزلي الذي جرى انطلاقاً من توظيف الجمل ذاتها الواردة في مسرحية هاملت، ثم الانتقال منها بشكل سلس إلى موضوع الجماجم والسياسة بما يخدم مسار النص.

د . التناص الشعري: تنفتح الرواية على عالم الشعر مستفيدة من المدوّنة الشعرية العربية الهائلة، ويحضر هذا المستوى سواء من خلال القصائد المغناة من لدن أم كلثوم وعبد الوهاب، أم عبر بعض الأبيات الشعرية، ومن ذلك قول المتنبي (ص: 350):
ممّا أضر بأهل العشق أنهم ... هووا وما عرفوا الدنيا وما فطنوا

وقول المعتمد بن عباد (ص: 109):
من بات بعدك في ملك يسرّ به ... فإنما بات في الأحلام مغرورا

إضافة إلى ما سبق، نجد الإشارة إلى عدد كبير من الروائيين والكتاب أمثال: تولستوي، شولوكوف، هيمنغواي، ريماك (ص: 61)، هوميروس، بورخيس، جون ميلتون، أبو العلاء المعري (ص: 265)، جورج أورويل (ص: 278). إلخ.

3 . مستوى القارئ الديني

يبرز القارئ الديني في النص في مرحلة أولى من زاوية ذكر بعض الأدعية الدينية، ذلك أن العسكري حين علِم أن أخاه محمد على وشك العمى الكلي بدأ يقرأ على مسامعه نصوصاً من دلائل الخيرات ظنّاً منه أنها ستُذهب ما به. (ص: 35/36). ثم في مرحلة ثانية من زاوية التناص القرآني القائم على استثمار الآية الكريمة: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} (الأنفال/17)، انطلاقاً من تقسيمها إلى ثلاثة مقاطع (وما رميت/ إذ رميت/ ولكن الله رمى)، ثم إدراج الجزء الأول في بداية الفقرة، والثاني في الوسط، والثالث في النهاية (ص: 218).

نستخلص مما سبق، أن الرواية غنية جداً بالتناصات التاريخية والأدبية والدينية، وحضور الشخصية القارئة التي تنهل من المعارف والفنون المتنوعة، ومردّ ذلك إلى ثقافة الروائي وبعده الموسوعي، وبحثه المُضني والشاق قبل الإقدام على كتابة الرواية، لذلك نلاحظ أنها تتأسس على المقروء في علاقته بالمتخيّل الاجتماعي والتاريخي، لبناء نص مرجعي قادر على الصمود أمام الزمن ومنافسة النصوص الكبرى. بهذا الفهم تحاول رواية المغاربة أن تجعل من التاريخ أفقاً غنياً للتخييل، فهي لا تكتب أحداثاً تاريخية توثيقية بقدر ما تهضم هذا التاريخ، لتحوله إلى نص سردي منفتح على الماضي دون نسيان الأسئلة الملحة للحاضر والمستقبل.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها