هل حان الوقت لتأخذ الرواية التربوية مساحتها في الساحة الأدبية؟ هل معنى الرواية التربوية أن تكون تعليمية؟ وهل تتنافى الجودة الفنية مع القصدية؟ هل مصطلح الرواية التربوية حديث أم قديم؟ ما دور الأديب في المجتمع؟ هل الأديب يكتب ما يعن له ويأتي في خياله، أم أنه يعمل عقله وفكره ويكتب ما يريد فعلًا بإرادة ووعي من أجل تحقيق أهدافه وإيصال رسالته؟
لا شك أن الأدب في عصور مضت كان له تأثيره القوي على الحياة الاجتماعية والاقتصادية بل والسياسية أيضاً، كما كان له دوره المهم في حراك المجتمعات بقوة، حتى جاء وقت ليقول بعضنا إن الأدب يجب أن يكون وظيفياً.
ونرى أنفسنا أمام سؤال يلح علينا في زماننا الحالي، لحاجتنا الشديدة للقيم وللقراءة وللمعرفة وهو: هل الأدب له دور اجتماعي وتربوي بالإضافة لدوره الجمالي؟
وتعود للظهور إشكالية هل الفن للفن أم الفن للمجتمع وللحياة، يؤلمنا ما يجري في هذه الأيام وما نراه من انهيار لسلم الأخلاق ولمنظومة القيم، وتغير المعايير واختلافها عما كنا نراه صغاراً، وعمّا كان يؤمن به آباؤنا، بالإضافة إلى فقدان الأجيال الجديدة للثقة في الخطابات، وفي الشخصيات والرموز المجتمعية والفكرية، وما تبع ذلك من عزوف كبير عن كل ما ينتمي
لحقبة زمنية مغايرة أو قديمة عن زمانهم. كما نلاحظ انخفاض الإقبال على القراءة والمعرفة والعلوم والأنشطة بشكل عام، رغم ما تبديه وتنفقه الدول من اهتمام في تلك الاتجاهات.
الفن حياة وليس للحياة:
نحن بحاجة دائمة ومستمرة لبعث الحياة في الأجيال الشابة بالوسائل المختلفة، والفنون المتنوعة: الموسيقى والأدب بأجناسه المختلفة، من شعرٍ ومسرحٍ، ورواية وقصةٍ، ولغةٍ وأدب ومقالٍ...إلخ.
الفن يساعد الفرد على استقراء طريقه نحو مستقبله، ويشارك بفاعلية في محيطه ومجتمعه، لما للفن من دورٍ مهمٍ في مساعدة النّشْء على رهافة الحس وجمالية الذوق، وأيضاً تقوية مناعته ضد سلبيات ثقافات وأفكار شاذة أو هادمة.
الرواية التربوية هل بالضرورة أن تكون تعليمية:
لقد اصطلح البعض على أن الرواية التربوية هي رواية تعليمية.. مما يجعلنا نقوم باستعراض تقسيم المهتمين بالأدب وفق موضوعه: فهناك رواية بوليسية وواقعية، وتاريخية واجتماعية، وهناك رواية تربوية أيضاً، ويرى أنها هي التي تنتهي بتجدد ذاتي إرادي، وتعرف بأنها هي الرواية الجسر: أي التي تسعى لأن تكون جسراً بين مرحلة الشباب ومرحلة الكبار؛ فتأخذ بيده إلى عالم من المعرفة المؤهلة.
وهناك من ينظر إليها على أنها منتج تعليمي، له أهداف علمية معلوماتية أو تربوية، وينعكس هذا المنتج على متلقيها ومستواه الثقافي والمعرفي، وقد جاء هذا التعريف في المعاجم العربية بأن الرواية التعليمية هي منتج معد لأهداف تربوية أو معلوماتية. ويكون حصيلة ناتجها منعكس على متلقيها ومستواه الثقافي والتعليمي.
عن كاتب الرواية التربوية:
الكتابة لليافعين وللأطفال مهارة لا يتمتع بها الكثير من الكتاب، فهي تحتاج إلى وعي لما تتطلبه تلك المراحل العمرية من حاجات نفسية، ومن مشاعر دقيقة، وما تتسم به من تقلبات وصفات اجتماعية ونفسية، فلهم سماتهم المميزة والمختلفة، والتي يتعين على الكاتب أن يعيها ويدرسها بشكل كامل. وليس صحيحا أن الرواية التربوية هي مقدمة رواية لليافعين أو الصغار في السن. فهذا الفرض قاصر عن تبيان أنها روايةٌ لكل الأسرة، فهي حين يقرؤها الكبار تخبرهم كيف يتعاملون مع المراهقين، وكيف يفكر الشاب، وكيف يكون رد فعل الصغير في موقف معين.. هي رواية الفضيلة في كل مستوياتها.
وقد قام كتاب عالميون بالكتابة في الرواية التربوية، وإن لم يصطلح عليها بهذا المصطلح تحديداً، فكم من كاتب اعتنق فكرة المقاومة السلمية والإصلاح المجتمعي. ومن أهمهم الكاتب الروسي الكبير ليف تولستوي وبوشكين من قبله.
ويعد تولستوي من أهم الأدباء الذين أثروا الحضارة الإنسانية بأعماله كأديب أخلاقي ينتصر للفضيلة، ومفكر أتقن العديد من اللغات. وقد تناول في أعماله الأدبية موضوعات أخلاقية واجتماعية، وله اهتمام خاص بالتربية، وقد اتضح اهتمامه التربوي جلياً في رواية: "ملكوت الله في داخلكم"، وفي رواية "الطفولة"، وفي رواية الحرب والسلام، والتي تعد من أشهر وأهم أعماله والتي تبنى فيها فكرة المقاومة السلمية. وقد سعى تولستوي دوماً لتطبيق أفكاره ومبادئه التربوية.. مما جعله ينشئ مجلة تربوية، كما أسس مدرسة. ولتحقيق أهدافه سافر للتعلم والتعرف على مدارس التربية الحديثة، ومناهج وطرق التدريس بها، وقد لاقت إعجابه مدارس التربية في لندن، وعاد لبلاده ليطبقها في مدرسته، وينشرها في مجلته.
ومن أهم كتب تولستوي Tolstoy: الناسك، الملاك، المستنيرون، ما هو الفن، وكتاب حكم النبي محمد. وكان يعشق اللغة العربية ويجيدها، ويقرأ في آدابها، وأعجب بها وقرأ للعديد من الكتاب والمفكرين.
الرواية التربوية والفضيلة:
هذا النوع من الرواية يمجد الفضيلة والأخلاق؛ إذْ يتم بثُّهما من خلال الأبطال بديماغوجية القدوة، وعبر أفكارهم أو حديثهم أو المبادئ التي يتبناها عبر الراوي، وتلح عليه ويبينها من خلال العمل.. وإما عبر كل تلك الطرق معاً، فالفضيلة هنا مستمدة من مشكاة الإيمان العميق والراسخ. وتتنوع القيم والفضائل في هذه الرواية من فضائل: دينية "كالصبر والتراحم، والعفة والتواضع والتسامح والحياء والصديق.. إلخ، فكلها مما حث عليها ديننا الحنيف. كما تتبنّى فضائل إنسانية مثل: التعاون بين البشر، وبين الرجل والمرأة خاصة، ومساهمتها في المجتمع مثلًا، تشجيع الأطفال على التفاعل والعطاء والفاعلية في المجتمع.. والتعقل وتغليب الصالح العام وتغليب العقل ونبذ الحقد، وغيرها من فضائل تؤدي لنجاح وتطور المجتمعات وسلامها، وتساهم الرواية التربوية في الأخذ بيد الناشئة "المتلقي الحدث" لتلقينه الدروس الخالدة، ليفيد بها في مستقبله، ولتعبر معه للحياة المقبلة؛ ولذا أسموها الرواية الجسر.
والرواية التربوية كما تحثُّ على الفضائل، هي أيضاً صوت ضد الفساد وضد القبح، وهي سور بين المتلقي، وبين الرذائل والأحقاد التي انتشرت في مجتمعاتنا في العصر الحديث: كالأنانية، والتواكل والعنصرية، ونبذ الآخرين وعدم احترامهم، والكسل والنميمة والتعالي ومعها جميع الشرور.
وهنا نسأل عن مناهج الكاتب في جذب همة القراء، وعن طرقه لتشويق النشء، وهل تنتهج الرواية التربوية نهجاً مميزاً في ذلك؟
للرواية الحرية الكاملة في اختيار منهجها، وفي استثمار كل وسائل التشويق، واتخاذ كافة الأنساق وطرق البناء لتحقيق أهدافها، ولجذب القارئ نحو المواصلة في القراءة، ومن خلالها يمكنه أن يشارك في بناء تلك المعاني العظيمة. ولذا يمكننا أن نقول: نحن في أشد الحاجة للمزيد منها، للعودة لذلك النوع من الروايات والذي فعلا يحتاج إلى جهدٍ فنيٍّ مضاعف من الكاتب.. ولكنه يحقق الكثير من الفوائد التي نسعى لتحقيقها مع مجتمعاتنا، ومنها يبقى ويستمر دور الأدب الوجداني والثقافي كمؤثر في الحراك الثقافي والاجتماعي، وفي تطهير وجدان الشعوب.