مآذن دمشق.. فرادة وتنوّع في العمارة الإسلامية

هشام إسماعيل عدرة


في النصف الأول من القرن التاسع عشر زار الشاعر الفرنسي "لامارتين" مدينة دمشق سائحاً، وقد أدهشته معالمها التاريخية الفريدة، حيث جاءت زيارة لامارتين إلى دمشق في أبريل 1833م في أول زيارة له للمشرق العربي، برفقة زوجته وابنته جوليا وطبيبه الخاص. وكانت دمشق إحدى أهمّ المحطات في زيارته المشرقية، حيث قدّم لها وصفاً رائعاً، تحدث فيه عن نهرها وسورها وأبراجها ومآذنها، وكرم سكانها، ومما ذكره عن مشاهداته في دمشق "ليس هناك مكان في الأرض يشبه الجنة كما تشبهها دمشق، كل شيء يشير إلى أن دمشق كانت إحدى أولى المدن التي بناها أبناء البشر"، كما وقف متأملاً مآذن مساجدها وجوامعها الكثيرة التي تتفرد بتنوع هندستها المعمارية، حسب العهود التي بنيت فيها فقال عنها: (تحيط بدمشق أسوار الرخام الأصفر والأسود، وتحصنها أبراج مربعة لا تحصى، وتسيطر على المدينة غابة من المآذن المختلفة الأشكال، وتخترق فروع نهرها السبعة والسواقي التي لا تعد).
 

وبالفعل؛ فإن (لامارتين) كان دقيقاً عندما لاحظ عشرات المآذن في دمشق، والتي تشكل أهم العناصر المعمارية في مساجد دمشق، حيث تفنن المعماريون بإنشائها بأشكال وطرز مختلفة، حسب العصر الذي بنيت فيه المساجد، ومنها مآذن العصر الأموي، والعباسي، والأيوبي، والسلجوقي، والمملوكي، والعثماني، حيث يوجد في مدينة دمشق (350) جامعاً ومسجداً، تنتشر في حاراتها وأحيائها وأسواقها، القديمة منها والحديثة، ويعود تاريخ بناء هذه الجوامع إلى عصور تاريخية مختلفة، من العصر الأموي إلى العصر الحديث. وتتميز هذه الجوامع بمآذن ذات تنوع معماري جميل، تعود في هندستها إلى النمط الإسلامي بمختلف فنونه المعمارية وطرزه الشهيرة، وأشكاله التراثية الجميلة، بحيث تبدو هذه المآذن وهي شامخة في السماء كأنها منارات مضيئة تدعو الناس لعبادة الله عز وجل. وقد حرص البناؤون والمهندسون على أن تكون مآذنها متميزة بهندستها المعمارية لتتماهى مع جماليات البناء الخارجي والداخلي لهذه المساجد والجوامع، وقد قسّم المؤرخون والباحثون نمط المآذن المعمارية في الجوامع والمساجد حسب العصور التي بنيت بها.

طرز معمارية متنوعة

يؤكد الباحثون أن هناك تسعة عشر طرازاً معمارياً للمآذن الدمشقية، ومن أجمل المآذن الدمشقية تلك التي يزيد عمرها على مئات السنين، وما زالت محافظة على شكلها الخارجي وهندستها المعمارية، وقد جرى ترميمها في أوقات مختلفة لتبقى مكتملة. فقد قسم الباحث الدكتور قتيبة الشهابي المآذن الدمشقية إلى تسعة عشر طرازاً، وذلك وفق العصور المختلفة التي تعود إليها والطرز والاشتقاقات وهي: مآذن العهد الأموي، النوري، الأيوبي، المملوكي، الشامي المملوكي والمعاصر بطراز مملوكي، العثماني، الشامي العثماني، الطراز الشامي، الطراز الشامي المختلط، الطراز الرمزي، الطراز الهجين، الطراز الحديث.

مآذن العهد الأموي:

إن أشهر مآذن العهد الأموي هي مآذن جامع دمشق الأموي الثلاث وأهمها: مئذنة عيسى، وهي من المآذن الفريدة في أسلوبها المعماري -كما يقول الشهابي- فجذعها مقسوم إلى كتلتين لا رابط بينهما من الوجهة الفنية، الكتلة السفلية مربعة الأضلاع، وقد شيدت فوق برج المعبد الروماني القديم أيام الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك عام 96هـ (715م)، ومئذنة العروس وهي واحدة من المآذن المميزة بتكويناتها المعمارية. ويذكر الباحث الدكتور عبد القادر ريحاوي: أن مآذن العالم الإسلامي كلها شيدت على نسق مئذنة العروس طوال قرون عديدة. ولم يتغير شكل المآذن إلا بعد القرن الثاني عشر الميلادي، حيث أخذت تظهر مآذن مضلعة وأخرى مستديرة. أما تسمية مئذنة العروس فنسبة إلى مظهرها عندما كانت تتلألأ بأنوار الفوانيس في المناسبات، مما يجعلها تشبه العروس ليلة زفافها. وهناك مئذنة قايتباي، وهي من مآذن الجامع الأموي الثلاث، شيدها الوليد بن عبد الملك عام 96ه، وجددت في العهد الأيوبي، وتعرضت بعد ذلك لكوارث، فقام بتجديدها السلطان المملوكي الأشرف قايتباي المحمودي عام 893هـ.

مآذن العهد النوري السلجوقية:

لقد دخل نور الدين محمود زنكي الملقب بالشهيد إلى دمشق عام 459هـ - (1154م)، ودخلت معه عناصر العمارة السلجوقية في الجوامع والمآذن التي سميت بالطراز النوري، ومن أشهر هذه المآذن: مئذنة الباب الشرقي التي بنيت في القرن السادس للهجرة، وقد تم ترميمها عدة مرات في عصور عديدة في ما بعد، لذا يلاحظ فيها تأثير العمارة الأيوبية والمملوكية والعثمانية، والمئذنة تتميز بجذع مربع، متقشف، خالٍ من العناصر التزيينية أو الزخرفية، وكذلك الشرفة البسيطة، وتغطي رأسها قلنسوة مخروطية كثيرة الأضلاع ترتفع فوق جوسق مثمن. ومن مآذن هذا العهد مئذنة جامع حسان في حي السويقة، وتعود لعام 557هـ. وهي ذات جذع مربع وشرفتها مثمنة الأضلاع، ويعلوها جوسق مثمن.

مآذن العهد الأيوبي:

تتميز مآذن دمشق في العهد الأيوبي بأنها ذات جذع مربع بسيط، ومتقشف في عمارته وشرفتها وحيدة ومربعة، ومظلتها مربعة أيضاً، وهي خالية من المقرنصات وبقية العناصر التزيينية والزخرفية، وينتهي رأسها غالباً بخوذة. ومن أبرز مآذن هذا العهد: مئذنة المدرسة الأتابكية، ومئذنة جامع التوبة وهي ذات جذع مثمن تزينه مداميك حجرية ذات لونين متناوبين (وهو ما يعرف بالأبلق)، وشرفتها مبنية على غرار الجذع في عدد أضلاعه، أما الجوسق فهو ثماني الأضلاع بطبقتين، ويحمل ذروة مثمنة على شكل هرم.

وهناك مئذنة الجامع الجديد، وقد أشار المؤرخ ابن طولون إليها بقوله: "مئذنة الجامع الجديد، وهي من حجارة صغيرة، وكانت بطبقة واحدة، فجددت لها طبقة أخرى في حدود التسعين"، وهي مئذنة قصيرة مشيدة من الحجر قاعدتها مربعة أيوبية الطابع، وجذعها مثمن الأضلاع. ومن مآذن هذا العهد: مئذنة جامع جراح التي أمر ببنائها، وكذلك جامع السلطان صلاح الدين الأيوبي عام 578هـ - (1182م). وهناك مئذنة جامع الحنابلة في حي الصالحية، ومئذنة المدرسة الشامية البرانية، ومئذنة المدرسة الماروانية، ومئذنة المدرسة المرشدية، ومئذنة جامع المصلى.

مآذن العهد المملوكي:

في عام 658هـ ـ (1260م) صارت الشام ولاية مملوكية بعد الاستيلاء عليها، وقد بُنِيَ العديد من الجوامع في العهد المملوكي، وتميزت مآذن هذا العهد بالخصائص التالية: ظهور الشكل المثمن لأول مرة في الجذع والشرفة والجوسق، مع استمرار بقاء الشكل المربع والأسطواني، تنوع أشكال الجذع في بعض المآذن عند تعدد طبقاته، تعدد الشرفات في المئذنة الواحدة، كثرة استعمال العناصر التزيينية والزخرفية والمقرنصات، ظهور الذروة الصنوبرية لأول مرة في دمشق، وانتشارها بعد أن انتقلت إليها من ذرى مآذن القاهرة المملوكية، وعودة الجذع الأسطواني للظهور.

ومن أبرز مآذن هذا العهد، هناك مئذنة جامع الشحم الذي يقع عند النهاية الشرقية لسوق مدحت باشا، وشيدت عام 770هـ - (1368م)، وهي ذات جذع مربع مشيد بالمداميك الحجرية ذات اللونين المتناوبين (الأبلق)، ويرتفع في رأس هذه المئذنة جوسق أسطواني بطبقتين تحملان ذروة هي أشبه ما تكون إلى نبتة «البصلة» منها إلى الذروة الصنوبرية. ومن مآذن هذا العهد هناك: مئذنة جامع البزوري، مئذنة جامع تنكز، مئذنة جامع التوريزي، مئذنة جامع الجوزة، مئذنة جامع الحيوطية، مئذنة المدرسة السيبائية، مئذنة المدرسة الصابونية، مئذنة جامع القلعي، مئذنة جامع مسجد الأخصاب، مئذنة الجامع المعلق، مئذنة جامع منجك، مئذنة مسجد هشام، ومئذنة جامع الورد.

مآذن العهد العثماني:

في عام 922هـ - (1516م) دخل السلطان سليم الأول دمشق، فانتهى بذلك العهد المملوكي وبدأ العهد العثماني. فنشأت خلاله مشيدات عمرانية ما زالت ماثلة إلى اليوم في دمشق، ومنها الجوامع العديدة ذات المآذن المبنية على الطراز العثماني، حيث تميزت مآذن هذا العهد بما يلي: النحول والارتفاع والرشاقة، كثرة أضلاع الجذع بشكل يقترب من الأسطوانة، أو قد يكون أسطوانيا كاملا، أحادية الشرفة وثنائيتها في دمشق، غياب الزخارف بشكل عام مع بقاء بعض الجذوع مشيدة بالمداميك الحجرية المتناوبة (الأبلق)، بقاء المقرنصات مستعملة في معظم المآذن، ظهور القلنسوة المخروطية (السروة) المصفحة بالرصاص في معظم مآذن العهد العثماني.

ومن أبرز مآذن هذا العهد هناك مئذنتا جامع التكية السليمانية، وهما مئذنتان متشابهتان ترتفعان فوق التكية السليمانية، حيث شُيدتا في عام 967هـ - 1552م، وتتميز هاتان المئذنتان بكثرة أضلاع الجذع بشكل يصبح معها أقرب إلى الدائرة، وتحول الجذع وارتفاع المئذنة إلى علو كبير، بالمقارنة مع ارتفاعات المآذن الأخرى، واعتماد القلنسوة المخروطية ذات الرأس المؤنف.

ومن المآذن الجميلة في هذا العهد والقائمة حتى الآن مئذنة جامع السنانية في ساحة باب الجابية بدمشق، وهي مئذنة فريدة بعمارتها، فجذعها كثير الأضلاع لدرجة أصبح معها أقرب إلى الأسطوانة منه إلى الجذع المضلع. وتؤكد هذا التفرد ألواح القاشاني الزنجارية (الخضراء الضاربة للزرقة) التي تكسوه بأعداد كبيرة. وتعلو الجذع شرفة أسطوانية ذات مقرنصات بسيطة، يحيطها درابزين اسمنتي مفرغ، وتغطيها مظلة على غرارها، وفوقها جوسق وقلنسوة مخروطية تُصَفِّح أضلاعها الكثيرة ألواح التوتياء المسطحة، وتتميز هذه القلنسوة بقدها الممشوق، ورأسها المؤنف بشدة، بحيث تصبح معه قريبة من شكل «السروة»، أو رأس قلم الرصاص المبري جيداً، كما يقول المؤرخ الدكتور قتيبة الشهابي.

وهناك أيضاً مئذنة جامع الشيخ محيي الدين، وتعتبر المئذنة «الأم» للعهد العثماني، وشيدها السلطان سليم الأول عام 929هـ - (1518م) مع الجامع فوق ضريح الشيخ محيي الدين ابن عربي، في حي الصالحية بدمشق، وهي تتميز بفن زخرفي حتى اعتبرها الكثير من المؤرخين والمعماريين بأنها واحدة من أجمل المآذن المقامة في دمشق.

ومن مآذن العهد العثماني أيضاً هناك مئذنة جامع الدرويشية، وجامع مراد باشا ومئذنة جامع الباغوشية. إضافة إلى ذلك هناك جوامع العصر الحديث التي تتميز بمآذن ذات طراز شامي متأثر بالعهود السابقة، إضافة إلى تميزه بالطراز المعماري الحديث وهي تعد بالمئات.

المئذنة البيضاء: وقصة البناء

لعلّ الزائر لمدينة دمشق القديمة، وتحديداً في الشارع المستقيم الممتد ما بين باب شرقي، وباب الجابية (الباب الغربي)، وهو بطول كيلومترين سيتوقف عند مئذنة تاريخية، تتوسط الشارع بشكل فريد ومتميز، ودون وجود مسجد بجانبها، وهي كما يطلق عليها اسم (المئذنة البيضاء)، والتي اهتم بها المؤرخون كثيراً لسببين الأول: تاريخها وسبب إنشائها والثاني: هندستها المعمارية الجميلة.

كيف بنيت هذه المئذنة النادرة ومتى؟ يؤكد المؤرخون أن مكان المئذنة الحالي، وهو أقرب لباب شرقي بالقرب من قوس النصر الروماني الأثري، كان لقاء القائدين الإسلاميين خالد بن الوليد، والذي دخل مع جيشه دمشق من الباب الشرقي، وأبو عبيدة بن الجراح الذي دخل مع جيشه من الباب الغربي (باب الجابية)، وفي هذه النقطة تبادلا التحيات والتهاني بإنجاز الفتح الإسلامي لمدينة دمشق، وحسب المؤرخ (عيسى معلوف)؛ فإنه في هذا المكان الذي نُظِرَ إليه على أنه موقع هام، اتفق شيخان مفتيان شافعيان مشهوران ببلاد الشام، في النصف الأول من القرن الحادي عشر الهجري (القرن السابع عشر ميلادي)، وهما إسماعيل النابلسي وشهاب الدين أحمد بن يونس بن أبي بكر العيثاوي، وأصله من قرية (عيثا) الواقعة في السفح الغربي من جبل لبنان الشرقي، مما يلي سهل البقاع، وتشتهر القرية بصناعة الفخار وقد اختلف الرجلان بالإفتاء بجواز بناء هذه المئذنة أم لا، وكانت الغلبة للعيثاوي، وبنيت بنفقة التاجر علاء الدين ابن الحجيج، وكان المهندس والمعلم الباني واحداً وهو عيثاوي أيضاً رفعها على عضادتين شرقية وغربية، تؤلفان قنطرة يتكون تحتها مدخل إلى بطريركية الروم الأرثوذكس، وكنائسها والحي الممتد منها شمالاً.

ولكن ما سبب تسميتها بالمئذنة البيضاء ووجودها وحيدة فقط وسط الشارع؟ يوضح المؤرخ معلوف أن المفتي العيثاوي الذي أشرف على بنائها سماها (المنارة البيضاء) أولاً؛ لأن حجارتها كانت بيضاء كما قصد هو، وثانياً تشبهاً وتيمناً بالمنارة البيضاء إحدى مآذن الجامع الأموي، والمسماة إلى اليوم مئذنة عيسى، وتشكل المئذنة الشرقية من الجامع، حيث يعتقد المؤرخون أنها أول مئذنة بنيت في الديار الإسلامية وهي على شكل مربع يوحي بالرصانة والتقشف. وبسبب ضيق مكان بناء المئذنة؛ فقد تعذّر إقامة مسجد بقربها، فقرر المفتي العيثاوي مع التاجر الممول ابن الحجيج بناء مصلّى صغيراً سمي (زاوية الخراب)، وأتبعوه للمئذنة بإمام خاص، وبقي إلى أن هدم سنة 1946م عند توسيع الساحة، وبقيت المئذنة البيضاء قائمة كمعلم تاريخي معماري فريد، في وسط المدينة القديمة التي تعج بالكثير من المعالم والأوابد التاريخية والأثرية والسياحية الهامة.

 


المراجع:
1. كتاب (مآذن دمشق تاريخ وطراز)، الدكتور قتيبة الشهابي، إصدار 1993م، وزارة الثقافة السورية.
2. كتاب (مدينة دمشق - تاريخها - أوابدها)، الدكتور عبد القادر ريحاوي 1969.
3. كتاب (الشام الحضارة)، الدكتور عفيف بهنسي - وزارة الثقافة السورية، دمشق 1987.
◂  الصور: مقدمة من الكاتب

 

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها