طبقة المهمشين في الرواية اليمنية المعاصرة

د. علوي أحمد الملجمي

يمثل المهمشون ثيمة رئيسة أو فرعية في عدد من الروايات اليمنية المعاصرة، تتخذ منهم الروايات وسيلة لكشف المستور وفضح الزوايا المظلمة ونقد الثقافة السائدة في المجتمع اليمني. تصور الروايات التهميش الذي تتعرض له طبقة مسحوقة من المجتمع، وتصور حياتهم المضطهدة والمحتقرة، ويبحث بعضها في أسباب هذا التهميش ومآلاته، وتصور صراعًا كبيرًا بين هذه الطبقة وبقية المجتمع، وصراعات أخرى موازية داخل هذه الطبقة أو داخل المجتمع بشأن التقارب بينها وبين بقية طبقات المجتمع. تصورهم الروايات بلا مأوى ولا وطن، يطرؤون على هوامش المدن والقرى والوديان، ويرتحلون بين المدن والقرى، ويعيشون حياتهم الاجتماعية بشكل مختلف، فيه كثير من التخفف من التزامات المجتمع وأعرافه. وتشير بعض الروايات إلى دور هذه الطبقة -من خلال بعض أفرادها- في الفعل الثوري والسياسي والمجتمعي.


المهمشون في المجتمع اليمني:

المهمشون أو الأخدام -ويطلق عليهم في بعض المناطق أسماء أخرى مثل: الحرافيش أو العبيد- هم طبقة مهمشة في المجتمع اليمني، ويُعدون أدنى الطبقات الاجتماعية في اليمن، بشرتهم سوداء، وتُبْنى أغلب مساكن المهمشين في أطراف المدن من القماش والكرتون أو الصفيح والعلب الفارغة، ويتكون غالبًا من غرفة واحدة يسكنها أكثر من 5 أشخاص، وقد يصلون إلى عشرة أشخاص، ويعملون في المهن المحتقرة من المجتمع كالنظافة والصرف الصحي وخياطة الأحذية. وتتميز حياتهم بالغموض من جانبيين: الأول: أصولهم وتاريخهم، والآخر: طبيعة معيشتهم وطقوسهم في الزواج ودفن الموتى.

لا توجد إحصائيات رسمية عن حجم هذه الفئة، لكن الأمم المتحدة أفادت أن هناك حوالي 3.5 مليون مهمش في اليمن. ويواجه أبناء هذه الطبقة التهميش والاحتقار من قبل المجتمع، ويقعون في أدنى درجات التسلسل الطبقي بغض النظر عن مكان إقامتهم، وتنتشر الأمية بينهم، ولا يلحقون أبناءهم بالمدارس، توجد تجمعات كبيرة من المهمشين في محافظات الحديدة وتعز وإب ولحج والمحويت والمناطق الساحلية في حجة وحضرموت، ما يؤكد حضورهم في جميع المحافظات اليمنية1.

المهمشون وروايات الواقعية الاجتماعية:

يقع عدد من الروايات اليمنية المعاصرة ضمن روايات الواقعية الاجتماعية، وهو الأمر الذي جعل هذه الروايات تطرق القضايا الشائكة والمسكوت عنها في المجتمع، وتسلط الضوء على المناطق المظلمة فيه. فكان مجتمع المهمشين (الأخدام) من أهم القضايا التي طرقتها، واتخذت منها ثيمة رئيسية أو فرعية، وأقلها اتصالًا بهذه القضية لم تغفل عن هذه الطبقة، فكان لها حضورها في عالم الرواية ضمن خريطة الطبقات الاجتماعية في مجتمع الرواية. فطبيعة هذا الجنس الروائي تقتضي رسم معالم المجتمع بكل طبقاته وتوجهاته. تتخذ بعض الروايات من طبقة المهمشين موضوعًا رئيسيًا لها، وتكون الطبقات الأخرى هامشية، فتكشف الرواية عن كثير من التفاصيل الغامضة لهذه الطبقة، وقد تأتي في بعض الروايات ضمن موضوعات وقضايا أخرى، أو يأتي ذكرها هامشيًا.

الطبقة المهمشة: الثيمة الرئيسة:

في رواية "طعم أسود.. رائحة سوداء" لعلي المقري (2008)، تُعدُّ الطبقة المهمشة "الأخدام" الثيمةَ الرئيسة، فأغلب شخصياتها من هذه الطبقة، وللشخصيات الأخرى اتصال بها، وأغلب أحداثها تقع في "محوى"/مخيم يسكنه الأخدام.

تبرز الرواية الصراع بين هذه الطبقة وبقية طبقات المجتمع، وأصول هذا الصراع وآثاره، وتسلط الضوء على كثير من تفاصيل حياتهم، وطريقة تفكيرهم، وطريقة معيشتهم، وكيف ينظر المجتمع إليهم، وكيف ينظرون إلى المجتمع. تستند الرواية في ذلك إلى عدد من النصوص الرسمية (التاريخية على وجه الخصوص) وكثير من النصوص الشعبية، التي تجسد الثقافة الطبقية، فتورد عددًا من الحكايات والأمثال الشعبية، لما لهذه النصوص من سلطة ثقافية.

المهمش البطل:

الشخصيات الرئيسة في رواية "طعم أسود.. برائحة سوداء" من طبقة المهمشين، فـ "الدغلو، وعبد الرحمن"، بطلا الرواية منهم، "الدغلو" من أخدام إحدى القرى، وعبد الرحمن قبيلي، لكنه تحول إلى خادم بعد أن هرب مع "الدغلو" من القرية، والتجآ إلى محوى الأخدام، وعاشا عيشتهم، وأصبح واحدًا منهم.

البطل في رواية "نخلة وبيت" لعيدروس الدياني (2021) هو سعدان، ذلك الطفل الذي تربى على إرث آبائه أجداده من الذل والاحتقار، فهو ابن رجل وامرأة كانا عبدين مملوكين، وأُعتقا مطلع عصر الجمهورية، لكنه ظل يحمل ذلك العبء الثقيل طول حياته.

الطارئون على المكان والرواية:

يتكون المجتمع في رواية "حصن الزيدي" للغربي عمران (2021) من أربع طبقات: 1- طبقة شيوخ القبائل، 2- طبقة السادة (المنتسبون إلى آل البيت) 3- طبقة القبائل (الرعية) 4- طبقة الأخدام. والأخدام في هذه الرواية طارئون على المكان، "تتذكر يوم وصلت مجموعة من الرعايا إلى باب الحصن يشكون توافد غرباء على الوادي وتكاثرهم منذ شهور، استمع إلى شكواهم، أخدام سود غوغاء لا يهتمون بنظافتهم ولا معيشتهم، يهيمون جامعين ما يصادفونه من بقايا ملابس وأحذية وأوان، وقد بنوا مجموعة أكواخ متجاورة تحاذي الطولقة الكبيرة. في البدء لم يهتموا لوجودهم، لكن توافدهم استمر وأكواخهم تكاثرت. ومع الأيام تحوّلت الأكواخ إلى درم، ثمّ انتشرت الأدرام على امتداد حافتي الوادي يهيمون أسراباً يتسولون ممّن يجدون في طريقهم، وقبيل نهاية النهار يعودون إلى أكواخهم يمضغون القات ومع قدوم الليل يشعلون النار ويرقصون على قرع الطبول توالت الأيام وقد تعود الناس على وجودهم على هامش حياتهم، يعاملونهم بشفقة والبعض بازدراء" [ص: 10].

وتطرأ حمامة (فتاة من الأخدام) كذلك على حصن "الشيخ مرداس"، فتتمكن من دخوله، بعد أن شَغُفَ بها ابنه "عنصيف"، وألحقها بخادمات القصر، ويكون لها -ولابنتها زهرة (ابنة عنصيف التي لم يعترف بها أرباب الحصن)- دور في أحداث الرواية، فهما من الشخصيات الفاعلة في الرواية.

في رواية "عقرون 94" لعمار باطويل (2017) يحتل المهمشون مكانًا -هامشيًا وطارئًا- في عالم الرواية. فالمهمشون -الحرافيش كما يُسمّون في الجنوب- مسحوقون طارئون على المكان، جاؤوا إليه بعد الوحدة، "لم نكن نعرف الحرافيش من قبل، فبعد الحرب جاءت وجوه كنا لا نعرف عنها شيئًا". [ص: 28] فهم ينتقلون بين القرى، ويعيشون في أطراف الوديان والقرى في الأكواخ والعشش. وتلعب كذلك إحدى فتيات هذه الطبقة "مريومة" دورًا في الرواية من خلال تعلق "أيوب" (أحد الشخصيات الرئيسة) بها، وحكايتها مع أبناء الوادي، وفي قسم الشرطة.

المهمشون في الروايتين طارئون على المكان، وهم كذلك طارئون على أحداث الرواية، فالسرد لا يعطيهم من الاهتمام إلا بقدر قيمتهم في المجتمع، فهو لا يغوص في تفاصيل حياتهم الخاصة، فلا يذكر منها إلا ما يعرفه الجميع، وينقل وجهة نظر المجتمع تجاههم، ولكنه لا ينقل وجهة نظرهم تجاه المجتمع. يتعلق حضورهم في الروايتين بارتباطهم بغيرهم من الطبقات الأخرى، إذ لا نجد مشهدًا واحدًا خاصًا بهذه الطبقة، بل كل المشاهد التي يردون فيها يكونون طارئين هامشيين لصالح شخصيات من الطبقات الأخرى، فحضور الأخدام في المشاهد الأولى من رواية "حصن الزيدي" مقرون بشكوى الناس منهم، وبتهديد ابن الشيخ بطردهم، وحكاية حمامة مربوطة بشخصيات الحصن، وحضور الأخدام بطقوسهم وأكواخهم في المشاهد الأخيرة من الرواية مرتبط بحضور "قارون". وحضور "مريومة" مرتبط بـ"أيوب" أو في الحقيقة فترة من حياة أيوب أيام طيشه، وهكذا.

المهمشون والوطن والمجتمع:

تصور الرواية اليمنية المعاصرة المهمشين بلا مأوى ولا وطن، ولذلك فهم غير مستقرين، يلوذون بأطراف المدن والقرى، فيشكلون تجمعات، يبنون فيها بيوتهم من الكراتين والنفايات، سكن لا تتوفر فيه أدنى مقومات الحياة، فالخادم "يعيش بين كومة من القاذورات". [طعم أسود.. ص: 118] لا يملكون مكانًا يستقرون فيه، فهم في ارتحال دائم، وإن أرادو الاستقرار، أجبروا على المغادرة والرحيل، فوطنهم معرض للهدم والإزالة في أي وقت، "يحضرها ذلك اليوم حين كلف عنصيف مجموعة من حراس الحصن الطواف على الأدرام وإنذار سكانها بسرعة مغادرة الوادي، مع تهديد من يتخلفون منهم يهدم الأكواخ فوق رؤوسهم". [حصن الزيدي، ص: 11] هذا الهدم والإزالة هو مصير "محوى زين" في رواية "طعم أسود.. رائحة سوداء"، فالبيوت الأسمنتية تزحف على المحوى، وتهدد عشش الأخدام، وهناك قرار بالإزالة. إنه السعي الحثيث لجعل هذه الطبقة بلا مأوى ولا مستقر.

ينظر إليهم المجتمع باحتقار، فهم في نظره طبقة قذرة، دنيئة في أصلها، نجسة في فعلها، يمارسون كل الرذائل، فالخادمة "مريومة" تسببت في إفساد أخلاق شباب الوادي. (عقرون 94، ص32) "وهم يصفون حياة (الأخدام) بأنهم لا يرتادون المساجد ولم ير أحدهم يصلّي قط، أو يُسمع عن عرس في أدرامهم منذ ظهورهم يعيشون حياة بهائمية بعض نسائهم يبحن أنفسهن لمن يرغب ولو بالقليل، ولم تشاهد لهم جنازة منذ وفدوا إلى الوادي، ولا تعرف لموتاهم قبور". [حصن الزيدي، ص: 10].

تحشد الروايات عددًا من النصوص الثقافية التي تصور من خلالها نظرة المجتمع إلى هذه الطبقة، مثل الحكايات التي تصورهم رجسًا ودنسًا في رواية "طعم أسود.. رائحة سوداء"، وتحشد هذه الرواية كذلك عددًا من الأمثال الشعبية التي ترسخ هذه الثقافة، مثل: "الخادم يومه عيده"، "من صاحب الخادم أصبح نادماً"، "الخادم أنجس من اليهودي"، "اغسل بعد الكلب واکسر بعد الخادم"، "لا يغرك حسن الأخدام، النجاسة بالعظام". وتستند رواية حصن الزيدي كذلك إلى الأمثال الشعبية لنقل نظرة المجتمع، مثل: "آكل يهودي ولا تآكل خادم".

المهمشون والفعل الثوري:

بالرغم من حياتهم القاسية والهامشية، فإن رواية "طعم أسود.. رائحة سوداء" تصور انخراط بعضهم في العمل السياسي. ففي "محوى زين" -الذي تدور فيه أغلب أحداث الرواية- نجد عددًا من الشخصيات كان لها توجه سياسي ورصيد نضالي، مثل:
• سرور: شخصية متمردة، له آراؤه الخاصة في العمل السياسي والمجتمعي للأخدام، وفي أصول الأخدام، وله نظرته الخاصة تجاه المجتمع، وله رأي في دمج طبقة الأخدام في المجتمع، فهو يرى أنه ليس على الأخدام أن يتغيروا، ولكن على المجتمع نفسه أن يغير نظرته إليهم.
• الحرتوش: ناشط لحساب الجبهويين السريين، وله آراؤه السياسية الواضحة.
• رباش العبد: ثوري متطرف، وما "الحرتوش" إلا أحد تلامذته المخلصين.
• بهجة: إحدى القيادات الحزبية في عدن أيام سالمين، جاءت إلى شمال اليمن في مهمة سرية لتنظيم الأخدام سرًا إلى الثورة.

ختامًا:
يلف هذه الطبقة كثيرًا من الغموض في الواقع، في أصولها وتفاصيل حياتها؛ لذلك سعت الرواية اليمنية المعاصرة إلى تسليط الضوء عليها؛ لكشف المستور في حياتهم وصراعهم مع المجتمع. غاصت بعض الروايات -كما تقدم- في تفاصيل حياة هذه الطبقة، فأبرزت كثيرًا من خفايا تاريخهم وحاضرهم، فيما اكتفى بعضها الآخر بعرض ما يعرفه الجميع، وكأنها بذلك تعطيهم وضعًا في الرواية يساوي تلك المكانة التي لهم على أرض الواقع.

 


هامش: 1. عائشة الوراق، التهميش التاريخي والممنهج لمجتمع المهمشين في اليمن - مركز صنعاء للدراسات الإستراتيجية، https://sanaacenter.org/ar/publications-all/analysis-ar/7532

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها