سرد التغييب.. في منجز القاص عبد الرحيم التدلاوي

أحمد الشيخاوي



إن مقاربة تجربة القاص المغربي المبدع، عبد الرحيم التدلاوي، لا تحيل بالضرورة على ما يفيد رصد المشهدية، أي التقاط المشاهد كما هي وعلى أصولها، وملامحها الأولى، أو الترجمة الحرفية لِلَقْطة المطبوع بحمولات وشحنات مجتمعية ما، أو حالات إنسانية معينة، بقدر ما هي تغلغلاً وتوغلاً في أدغال التفاصيل، وتناولها بلغة مترعة بانثيالات لغة الابتكار والخلق والجدّة، الشيء الذي يمنح المنجز جاذبية وأهمية وفرادة، وتمرداً على قواعد وميكانيزمات القص في حدوده الكلاسيكية والمتقادمة.


ذلك أن تيمة التغييب، تشغل من نصوص التدلاوي الحيز الكبير، وتمثل الخلفية الأساسية في خطاب سردي منتصر لإنسانية الكائن، ومناهض لواقع التهميش والجلد العاطفي، والتغريب الروحي بدرجة أولى.
 

يقول القاص:
"تذهب كل صباح إلى المرفأ تستقبل السفن القادمة بفرح أطفال.. تلوح بمنديل عشقها لحبيبها الذي ضل طريقها.. تظل واقفة إلى أن تغادر السفن ذاكرتها المنسية.. مدججة بالإصرار تكرر الانتظار إلى أن صارت تمثالاً. المرأة التي توفي زوجها حديثاً (لما استيأست من لقائه)؛ بكته في الحانة بحرقة زائدة، شربت جرعة أو اثنتين، وربما أكثر، لتنسى، حملت معها رجلاً في حقيبتها، شربته على فراشها حتى الثمالة، ثم نامت قريرة العزاء"1.

سردية مستفزة بتقمّصها لأبعاد التغييب والنفي المعنوي، ترتقي في رحابها الأسلوبية إلى أعلى مستويات الإدهاش، الذي قلّما يُصطاد في بياضات الخطابة والمكاشفات الإنشائية.

لا نقول عن فن القص لدى التدلاوي، إنه يتدفق وفق تيارات روح الشعرية؛ إنما نكاد نجزم أنه يستمد طوباويته من تلكم القدرة البالغة على احتواء أدقّ التفاصيل في الحياة، وفي دوامة معاناة ومكابدات كائنات الظل. ومن ثمّ بلورتها وتدويرها وإعادة صياغتها وإنتاجها وإبرازها كلوحات سردية، لا تغفل المناحي الجمالية، وإن ناطحت بالمضمون الرّسالي القوي، والمنمّق بمفرداته التي تنم عن حرفية في الانتقاء والترتيب.

يقول أيضاً:
"رسم بابا وولجه، ليجد نفسه في قاعة فسيحة يتوسطها مسبح تحيط به كواعب حسان، بلباس السباحة، أراد العودة فلم يجد سوى حائط صامت ببلاغة. سار إلى حيث النسوة وبدأ في التمسح بالأجساد، لم يعرنه انتباهاً وكأنه لا مرئي، كان في كل تمسح يفقد طاقته، إلى أن بلغ مرآة كبيرة مثبتة على الجدار المقابل، رأى شيخاً منهاراً يكاد يلفظ أنفاسه، شعر برعب، مسح المرآة"2.

إنه ليس من السهل سبر مستنقع الأوبئة المجتمعية، على هذا النحو الراعي لشتات التفاصيل والمتبني للممه، داخل إطار يصون حظوظاً من شعرية الفسيفسائي، بما يضفي التشويق على العملية التواصلية، مغذياً الذائقة والذهن على حد سواء.

إن الشخوص في مثل هذه التجارب، تظل بسيطة جداً، وإن انحدرت من عالم التعقيدات والاضطراب والهشاشة، وهي بذلك تأنس لأضرب التوازي، وتتسربل بما يشبه التوأمة مع سياقات طارئة، تمليها كهذه نموذجية في السرد وهو يتجاوز مفهوم الغياب، ليذوب في معادلات التغييب، يجسدها بكل مسؤولية وجسارة واقتدار.

الاستهلالات أيضاً، في مجملها، كما القفلات، تحقق هذا الغرض، غرض كتابة التغييب، فتأتي مفخخة بأسئلة الإدانة والاتهام والتشكيك. تدين مجتمع إلهاء الكائن بأوجاعه، ومعاناته المركبة، حدوداً تعطّل مشاتل النورانية، وتجور على معطيات الإنسانية.

كما يقول:
"أقام ردحاً من الدهر في مكتبته يقرأ الكتب؛ يقلب أوراقها بتمعن في رحلة عطش محمومة، وتحت سياط أسئلة لاهبة... في لحظة وعي حادة أدرك سر الوجود وحقيقته، لما أراد أن يعبر للناس عن رسالته، خانته الحروف، بدأ يضرب الطاولة بقبضة يده لإبعاد الحبسة إلى أن سالت دماً، فما زاده ذلك إلا اختناقاً، خرج إلى الشارع صارخاً...
كان الناس يمرون قربه مبسملين ومحوقلين.. وكان يرشقهم بكلمات غامضة كالحياة"3.

من النادر أن يمارس القص سحره، جاعلاً المتلقي يتذوق شعرية بلاغة التشفيرات السردية، والتمريرات الرّسالية العميقة، ضمن قوالب الاقتصاد في استدعاء الشخصيات، وتفجير الأحداث.

من يُطالع للقاص التدلاوي، لا بد أن يقف عند ماهية المقصود من طرحنا، وجملة ما ذهبنا إليه، بعد تمحيص متون سردية تتزمل بدوال التغييب، وتنشد إلى متاهاته.

مثلما يقول:
"تجلت له فظنها إلهاماً.. سلم روحه لبندقيته... فأنار روحه يقين التجلي.. على كأس من نبيذ الغياب ربطت حبل ذاكرتي، وجلست أستعرض مجمل الطعنات التي تركت في ظهري ندبات مقززة..."4.

ضمن خرائطية القص القصير والقصير جداً، تنزف هذه السردية، محمولة على رغوة البلاغة والفصاحة الطاعنة في شرعية الانتماءات المرتجلة والعشوائية، لمعجم اليومي بغثّه وسمينه، دِقِّه وجله، صالحه وطالحه.

إننا إزاء سردية تصف وتشخّص، فوق ما تعالج، تجمّل القبح، فوق ما تقبّح الجميل، وتشفّر الرسائل أكثر مما تعرّي فصولها.

خلاصة القول؛ إنها تكتب زمن تغييب الكائن، المُحارَب أصلاً، في انتسابه للإنساني والفطري والروحي.


هوامش: 1. نص "عزاء 2". 2. مقتطف من نص "عتبات". 3. نص "تراتيل الغياب". 4. نص "عناق".

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها