بين الذكريات والواقع

حوار مع الشاعر "مؤمن سمير"

حاوره: ممدوح عبد الستار


تشكّل قصيدة النثر لدى الشاعر "مؤمن سمير" تجربةً أدبيةً مُتميّزةً، تجمع بين عمق التجربة الشخصية، وبراعة الأسلوب الشعري النثري. يمزج مؤمن سمير في شعره ما بين تيار الوعي، والذاكرة، والخيال، مُقدّماً رؤيةً للعالم وللذات.
 


أصدر الكثير من دواوين الشعر، منها: بورتريه أخير لكونشرتو العتمة 1999، هواء جاف يجرح الملامح 2000، غاية النشوة 2002، بهجةُ الاحتضار 2003، السريون القدماء 2003، ممر عميان الحروب 2005، تفكيك السعادة 2009، تأطير الهذيان 2009، يطل على الحواس 2010، عالق في الغمر كالغابة كالأسلاف 2013، رفة شبح في الظهيرة 2013، إغفاءة الحطاب الأعمى 2016، حيز للإثم 2017، بلا خبز ولا نبيذ 2017، سلة إيروتيكا تحت نافذتك 2020، أصوات تحت الأظافر 2020، أبعد بلد في الخيال 2021، ببطء كأنه كبرياء 2022، ذاكرة بيضاء 2023، شوكة الراوي العليم 2023، خلف الجبل الكبير 2024، وأخيراً ديوان "أنت لا تخصني وأنا لا أخصك". في هذا الحوار، نستكشف مع الشاعر أبعادَ قصيدة النثر لديه، ومُكوِّناتها الفنية، ونناقش معه -أيضاً- فلسفته ورؤيته للعالم.
 



 تتميّز قصيدة النثر -وفي كل إصداراتك الشعرية- بتنقّلات سلسة بين الذكريات، والواقع، والخيال. كيف تُحققُ هذا التناغم بين الأزمنة والمُستويات الأدبية المختلفة؟

ربما يكون انحيازي لكتابة الشِعر وفق هذه الطريقة المسماة بقصيدة النثر عفوياً في البداية، بعد فقداني لذاتي الفنية الخاصة عبر الشكل العمودي والتفعيلي، لكنه صار اختياراً جمالياً واعياً بعد ذلك، وربما تكون الحرية التي تتيحها هذه القصيدة أحد أسباب هذا اليقين الفني الذي تشكَّل واستمر.. وبالنسبة للواقع العام من حولي وكذا واقعي الشخصي النفسي والاجتماعي الخاص، فمن الصعوبة بمكان وصفهما بالشفافية وظهور الفواصل والفوارق بين الأشياء بشكل صريح، بل على العكس، الأمور الظاهرة والباطنة مختلطة بالفعل والفوضى مضمرة طول الوقت.. والعجيب أنه ربما ما جاء الشاعر إلا ليكشف زيف الترتيب والتنميط والحَدِّيَّة ويعيد لهذه الفوضى حقها في الظهور، ومن ثم نعيد الترتيب من جديد وفقاً للمعطيات الإنسانية الأحدث.. الثباتُ في الرؤى والمواقف وتجميد المنظور الذي نلج عن طريقه للأشياء وَهْمٌ وخطأٌ على طول الخط، وما أنا كإنسان إلا نتاج اندماج قيم مع بعضها وتصارعها طول الوقت، وما أنا كشاعر إلا نتاج رمزي لهذا التعبير عن الاندماج، عبر لغة وبلاغة تنتقل بسهولة وعفوية بين البعد السيري الشخصي الخاص، وبين التعاطي اللاحق مع الواقع الخارجي، ووسط التمني الدائم والحلم وتخيل صيرورات جديدة طول الوقت. إن التناغم بين المستويات الفنية والنفسية والرؤيوية التي تتشكل منها النصوص هو أمر شاق لا يمكن العثور عليه إلا في نصوص الشعراء الذين لا تجد افتعالاً في لغة نصوصهم، والذين يكونون هم ونصوصهم كتلة أحاسيس ومشاعر وتعبيرات واحدة، وأتمنى أن أكون منهم، لتنجو روحي.

▣ يظهر في قصائدك ترددٌ بين التفاؤل والإحباط، بين الأمل والخيبة. هل يُعبّر هذا عن موقفٍ فلسفيٍّ مُحدّد، أم هو انعكاسٌ لِلتّجاربِ الحياتيةِ المُتَضَارِبة؟ وكيف تُؤثّر التجارب الشخصية في عملكِ الشعريّ، وخاصةً في ديوانك الأخير "أنت لا تخصني" الصادر حديثاً؟

الحالة الشعرية سابقة على فلسفتها ومن ثَمَّ يقترح النص فلسفته كفضاء مفترض نحاول عن طريقه سبر أسرار الكتابة والتسلل من خلف جدرانها وفك جمالياتها والكشف عنها، ومن ثم فلم يكن عندي أبداً تصورٌ خاص وجاهز وسابق لقماشة فكرية ونفسية وفلسفية كي تمتح منها النصوص شعريتها، ولكني تكونتُ ككائن يحمل وجهات نظر فنية بعد الكتابة وليس قبلها.. صدقني أنا لم أكتشف أنني أخاف من غالبية مفردات الوجود إلا من خلال الكتابة ولم ألامس العبث إلا من خلال الكتابة، ولم ألج طريق التصوف إلا عبرها ولم أثمل إلا في القصيدة.. تساهم الكتابة إذن في بلورة الشخصية عبر وضعها أمام مراياها المتعددة.. وبعد هذا العمر الطويل مع الشِعر أستطيع أن أدرك أنني كتبت تحت حالات نفسية ومؤثرات ضاغطة أو رقراقة، عديدة ومتباينة جداً لا أستطيع حصرها في قيمة بعينها، مثل الحزن والتشاؤم، أو الحب أو السعادة... لقد كانت حياتي هي كل هذا ونصوصي الشعرية كذلك.. كل نص يعبر عن حالات شتى وأسئلة، عبر إحالاته المتعددة وقراءاته المتوالية.

▣ يُعتبر نصّ "حفائر تحت مقبرة بيسوا" من أهمّ النصوص في ديوان" أنت لا تخصني". ما هي أهمية هذا النصّ في السياق العامّ لِلدّيوان؟ وما الدلالة الرمزية لِشخصية "بيسوا"؟

أنت واحدٌ أم كثير، كان هذا هو سؤال الذاكرة دائماً.. وربما كانت إجاباتها وإجاباتي تنحو بسرعة نحو التعدد والتشظي، لكنَّ التعاطي مع هذا الأمر ربما لا يكون بهذه البساطة أبداً، بل يكون مرهقاً دائماً عبر كشف التمايزات بين الشخصيات والتعاطي مع طبائع وأوهام وأحلام كلٍ منها على حدة.. إذا كان هذا هو الإنسان بشكل عام فإن "فرناندو بيسوا" هو التمثيل الحي له ولنا.. لكنَّ الفرق أنه لما اكتشف تعدده أخرج كل بطل وألقاه في الحياة، لقد أعاد خلق ذاته الضيقة لتتسع وتتسع.. في هذا النص حاولت أن ألعب معه وأعاقبه على دخوله هذا المضمار الصعب.. لقد غيرت له خططه وقتلته ليرى نهاية ألعابه الخطرة، وربما هي خطرة على الدوام لأنها تكشفنا؛ ولأن الراحة ربما لا تكون إلا في إغماض العينين ومحاولة ضم كل الأشباه والأنداد تحت جفون كأنهم كلابات حديدية.. وفي هذه المحاولة، لقتل كل أذرع وأشباح وتماهيات الذاكرة، التي فُتحت في بداية نصوص الديوان كلها، ربما تكمن هذه الأهمية التي تقترحها لهذا النص في السياق العام لديوان "أنت لا تخصني وأنا لا أخصك".

▣ كيف تُفسّر ظهور الأنداد والأشباه في هذا النصّ؟ وما العلاقة بينهم وبين هُوّية الشاعر نفسه؟

يلعب النص على فكرة التماهي بين أنداد "بيسوا" وأشباه بطل النص.. ومثلما تخرج شخصيات "بيسوا" من عقله ووعيه ويقينه الشعري، تطلُع أشباه بطل النص من ذاكرته المتخمة بالمواقف والأحداث والأفكار والخيالات والأمنيات والهلاوس.. لقد ظلت الذات تنظر للبطل الذي يذكرها بانقساماتها وجولاتها في الحياة عبر أقنعة وأنفاس تختلف في حرارتها كل لحظة وهي تُضمر فكرة أن خلاصها لا يكون إلا في قتله، ربما لتجرب فكرة قطع أذرع الأخطبوط حتى يظهر جسده الخام للعلن، وحيداً واحداً بلا ضجيج، وربما بلا حماية أيضاً.. القتل هنا كشف.. وإنهاء اللعبة بالعودة للبداية، ربما كان علامةً وإشارة وتوثيقاً لما لاقته الأشباه من ألم وتغريب عبر رحلتها الوجودية الطويلة والمتشابكة.

▣ كيف تصف أسلوبك الشعري في قصيدة النثر؟ وما التحديات التي واجهتها في كتابة هذا النوع من النصوص؟

تعرض شعراء قصيدة النثر للكثير من محاولات نفي الشاعرية عبر نفي شعرية هذه الكتابة ذاتها، وللتهميش وللرفض والاغتيال المعنوي، العفوي الصارخ العنيف المستند على ذائقتنا الممتدة عبر السنوات الطويلة مع الشكل العمودي حيناً، والممنهج حيناً آخر بالمحاولات الثقافية عبر المؤسسات المختلفة، الصحافية والإعلامية، والأكاديمية في الرسائل والنقاشات وما إلى ذلك من حراكٍ اعتاش عليه الكثيرون لفترات ممتدة.. لكن النظر المنصف اليوم يجد أن متعاطي هذه القصيدة في الدول العربية المختلفة أكثر من الحصر وأن أصحاب المشاريع الشعرية الكبيرة وسطهم كثيرون حقاً.. وبالنسبة لتجربتي فقد عانيت الكثير من الرفض والقتل المعنوي في واقعي الصغير في المنتديات الأدبية الرسمية والخاصة في بلدتي الصغيرة المحافظِة، حيث كنت صاحب أول ديوان ينتمي بكامله لقصيدة النثر في محافظتي وهو ديوان "كونشرتو العتمة" الصادر في العام 1999.. ثم بعد انتمائي فنياً لجيل التسعينيات الشعري الحداثي المصري، شاركتُ مع بقية شعراء هذا الجيل والجيلين السابقيْن عليه في الاعتراكات والمناوشات متعددة الأشكال، التي دارت وما زالت رحاها تدور حتى اليوم في الواقع الثقافي المصري بمناسبة هذه القصيدة.. لقد حسمتُ أمري منذ اللحظة الأولى واخترت هذه الطريقة في الكتابة، وأحرقت كل ما كان سابقاً عليها بعدما أحسسته لا يخصني.. أما أسلوبي الشعري فلا أستطيع أن أصفه إلا بالحرية التامة في اللعب مع كل قيمة جمالية تصلح لإنتاج الشعرية.. وبهذا يكون كتابة نص جديد هو بمثابة تحدٍ جديد بعدما أصبحتَ يا صديقي الشاعر محاطاً بتاريخ كبير من الشعر العظيم، لهذا فالرهان دائماً على البصمة الفنية، وخصوصية طرحها وسط السائد وإلا فالصمت هنا هو الأمان.

▣ لاحظتُ حضوراً قويّاً للذكريات الشخصية في ديوانك. هل تعتقد أن الكتابة الشعرية هي وسيلة للمصالحة مع الماضي أم لمواجهته؟

الشِعر يكشف الذاكرة ويعري قوتها ويتعاطف مع هشاشتها.. لقد تحسن حظ الذكريات الشخصية مع الشِعر إذ تحلَّت بحلل جديدة فظهر النور المختبئ فيها تحت الجلد السميك وكذلك ظهر الموت الماكر الذي يشبه الحرباء صاحبة الدهشة الدائمة.. ربما لا يصالحني الشعر مع الماضي أو يدعوني لمواجهته بقدر ما يعيد الشعر ترتيب القوى ليكون هو المهيمن الذي يستخدم الذاكرة لمصلحته، فيعيدها لمنابعها الأولى، ويعيد التصرف فيها من جديد.. الشعر الحقيقي نفعيٌ جداً مع كل شيء أياً ما كان ولا يروم إلا مصلحة الفن.

▣ ما دور الحلم واللاوعي في قصائدك؟

منذ اللحظة الأولى تسللت الأحلام والكوابيس إلى نصي الذي كان يفتح لها الباب بلا ضجة وبكل بساطة.. دائماً ما اعتبرتُ الأحلام قصائد مكتملة، بدمجها بين ما لا يُجمع، وجمعها بين الأضداد، وسرياليتها وشجاعة لعبها وفتحها لكل النوافذ.. والنص الثري الذي له مستوى ظاهر ووجه آخر باطن وطاقة كامنة تصلح لتفجير المعاني والتأويلات، يكافئ الإنسان ذاته، صانع المستويات الدلالية المتعددة لحياته وصاحب القدرات العظيمة في صنع واقعه وتغييره وصاحب الموت كذلك.. ربما لا أجازف إن قلت إنَّ اللاوعي في نصوصي له نفس أهمية الوعي، والمخبوء هنا هو ظَهر العملة بالنسبة للواقع الذي يظن أنه الكاشف وحده وصاحب الرسائل.. الواقع والخيال والظاهر والباطن مجرد صور فيلمية لا تكتسب الحياة إلا عبر اللغة، عبر الشِعر.

▣ يظهر في ديوانك اهتمامٌ بالأساطير والحكايات الشعبية. ما مصدر إلهامك لهذه العناصر؟ وما الدلالات التي تحملها في كتاباتك؟

مثل الكثير من البشر دائماً ما كانت تستهويني الحكايات، وساهمت فترات حياتي الأولى التي تكونت فيما يشبه الصحراء، في تربية الشغف بالخيال الذي يكمل كل ما ينقص الدنيا من حولي لتدب في مشاهدها الحياة.. وعندما التحقنا بمكان آخر، كان النقيضَ في كل شيء، تلونت الصور الباهتة، وتحدث كل ما هو صامت، وفوجئت بالجميع يحكون حكاياتهم بمشاركة الطبيعة من حولنا فازددتُ محبة في أفعال الكفاح بالجمال لمواجهة الجدب والفناء.. ومع القراءة فُتنت بالأساطير باعتبارها علامة على عظمة المخيلة وقدراتها غير المحدودة، وكنت أبيت فيها لأعيد اكتشاف إنسانيتي المهدرة في العمل الشاق والقسوة فيما بين البشر.. ومع إدراكي لمركزية الأسطورة في حياة الكون وفي وعيي الشخصي كذلك، كان من الطبيعي أن تنسرب إلى نصوصي لتشكل متناً أو هامشاً أو مرجعية وفضاءً، أياً كان شكل هذه الأسطورة وموقعها وتاريخها.. لقد حكت لي جدتي وحكت الصحراء، وحكى صمتها، وحكت النخلات والحيوانات والطيور.. كل الطبيعة تحكي والنصوص تسجل وتنقض وتؤيد، وتلعب لتصنع دلالاتٍ وقصصٍ تدحرج بها موت النص كما أجلت الحكايات موت الأجساد طول الزمن.

▣ ما دور الموسيقى في قصائدك؟ هل تعتبر الإيقاع والوزن ضروريين لتحقيق التأثير المطلوب؟ أو أنك تُركز على البعد الدلالي أكثر؟

دائماً ما كنت أجد رابطاً بين الموسيقى الخام، الغُفل، وبين الشِعر.. كلاهما يجرد القيم إلى المفردات الأولية، ويقشر الزيادات والترهلات التي تربت مع الزمن والموت المستمر والمتكرر.. ورغم هذا كنت قبل القراءة والوعي والإدراك، أحس أن موسيقى الشِعر لا تأتي فقط عبر الإيقاع والوزن، اللذيْن يصنعهما الشاعر؛ وإنما تسري الموسيقى عبر العلاقات بين الكلمات والجمل والمعاني، قبل أي تأطير.. لهذا كتبتُ قصائد تنتمي لقصيدة النثر دون أن أعي أو أدرك ماذا أسميها.. ربما يصح القول مع تجربتي أن ميلي وتوجهي لهذه الكتابة العارية التي تختبر نفسها طول الوقت بخلق موسيقى خفية بديلة عن الموسيقى الواضحة، كان عفوياً وطبيعياً يشبه تناغمي مع موسيقى الصحراء الخالية من صراعات الألوان وضجيجها.. وبالنسبة لتأثير الموسيقى في تشكيل القصائد، فلربما كانت مفردة الموسيقى من المفردات الهامة في تجربتي حيث لا يخلو ديوان منها حتى إني أفردت نصف ديوان "عالقٌ في الغمر كالغابة والأسلاف" لتجليات الموسيقى في الموجودات.

▣ ما دور اللغة العامية في قصائدك؟ وهل تعتبرها وسيلة لإضفاء طابع محلي على كتاباتك أم أنها أداة للتعبير عن تجارب معينة؟

قد يلاحظ المتلقي قيماً فنية وجمالية تتمظهر في النصوص أو تتكرر، وربما لا يتقصدها المبدع أو يقرر وجودها الفادح قبل لحظة الكتابة، لكن المؤكد والصحيح أن تكرارها يكشف عن وجود مهيمن لها داخل الوعي أو اللاوعي.. بالنسبة لي، لم أفرق أبداً في العَظَمة والقدرة على تخليق الإبداع بين النصوص الفصيحة والنصوص العامية، وبما أن حواراتنا في الحياة وفي تفكيرنا هو مزيج بين هذين المستوييْن اللغوييْن، كان من الطبيعي انسراب هذا التوجه للكتابة.. الأكيد كذلك أني لم أفرِق أبداً بين إمكانات الفصحى وفخامتها، وبين سلاسة العامية ومرونتها كما يقال، لأني لا أَفْرِق بينهما بالأساس بهذا الخط الغليظ، لكني أتعامل مع التعبير الذي هو مزيج من الاثنيْن في حد ذاته، بهيئته المستجدة تلك، وأثمِّن نجاحه في توصيل معنى ما أو خلق دلالة وأشكره ببساطة وبلا احتفال.

▣ هل تعتقد أن الشِعر يمكن أن يكون أداةً للتغيير الاجتماعي أو السياسي؟ وكيف؟

أظن أننا نظلم الشِعر، الذي اعتمدت البشرية عبر أحقابها المختلفة أهميته وصعوبة حياتنا من غيره، فنحمِّله فوق طاقته التعبيرية والجمالية لنُسقط عليه كل ما نتمناه أو ينقص مجتمعنا من أسباب ومناسبات للتحرر والتنوير والتغيير الاجتماعي والسياسي.. الشِعر مع غيره من الفنون، يصنع ذلك بالتراكم وعلى المدى البعيد حين يصنع نقطة رهيفة وشفيفة في دفتر الوعي والتحضر.. فمن الطبيعي إذن، مع هذا المجنون الطيب، وباعتباره من أقدم وأرقى وأعظم الفنون وأثراها بالإمكانات الدافعة للجمال، أن يظهر في كل حراك وكل تغيير، ووجوده بمصاحبة كل نشاط إنساني دليل أساسي على مركزية دوره لا باعتباره الصانع لكن باضطلاعه بدور الرفيق والشريك الحقيقي.. الشِعر أجمل درجة يضيفها الإنسان في سلم وعيه وحضارته، الشِعر حامي حياة الأرواح من الفناء ومعطف الإنسانية الواقي من المطر الأسود.

▣ كيف ترى المشهد الشعري المعاصر في بلدك وفي العالم العربي؟

أراه هادراً ومترامياً ومواراً.. كل الأجيال ممثلة وكل الحركات والأشكال الفنية، وكل الاتجاهات تضع بصمتها بقوة.. صدقني أنا ألهث كي أتمكن من متابعة الأصوات الجديدة في مصر والدول العربية، جنباً إلى جنب مع المشاريع المخضرمة التي ترفد نصها بالجديد كي لا يصدأ أو تتكلس روحه.. ورغم سيادة مصطلحات أثبت الزمن عدم دقتها مثل مصطلح "زمن الرواية" وما سوى ذلك، ورغم إحجام بعض دور النشر عن نشر الشِعر إلا أن الإصدارات كثيرة جداً في المؤسسات والدور، والدوريات والمواقع والمنصات تنشر الشعر.. لا يجب أن نقلق على الشعر وجودياً ولا يليق بإنسانيتنا، علينا أن ندرسه ونُقَعِّد القواعد لمحاولة قراءته واقتراح مداخل للتأويل، وندعو دائماً لتشجيع حركة الترجمة لتوسيع دوائر تلقيه تحت سماوات أخرى، وما شابه ذلك.. لا أن نؤجر يافطات للأوهام مثل موت الشعر مثلاً.. الشعرُ حيٌّ طالما الإنسانية التي ترعى داخلنا حية.

▣ كيف تصف رحلتك الأدبية من بداياتك حتى إصدار هذا الديوان؟ وما أهم المحطات التي شكّلت مسيرتك؟

لم يكن هناك مفر من هذه الرحلة.. لم يكن ليُقَدَّر لي التواصل مع النفس ومع الآخرين إلا عبر الكتابة والتلقي.. ومع جفاف حياتي وسكونها أصبحت الرحلة هي العلامة وهي الدليل الوحيد على كينونتي ووجودي الفيزيقي حتى.. أنا لا أحد بدونها، غريبٌ بالنسبة لي، شبحٌ منسيٌ في زوايا طريق ضيق ومظلم.. منذ الصغر كنت أدرك طريقي لهذا ظللت أتصارع مع الشِعر باعتبار أنه فعلٌ مؤسس يضمن لي، أنا الوحيد لأقصى درجات الوحدة، أخوة في الإنسانية، حتى حسمتُ أمري في نهاية الحياة الجامعية بحرق كل ماضي الكتابة ومن ثمَّ إصدار ديواني الأول "كونشرتو العتمة" المنتمي لاختياري الجمالي، قصيدة النثر، وأنا في إجازة العام الدراسي الجامعي الأخير، ثم فوجئت بالروائي الكبير محمد مستجاب يكتب عنه في جريدة "أخبار الأدب"، فبدا وكأنه حملَ ساقيَّ المرتعشتين إلى لوحٍ خشبيٍ سميك وسط الماء.. كذلك أعتبر ديواني الثاني "هواء جاف يجرح الملامح" محطة هامة حيث ألحقني بالمجايلين لي من جيل التسعينيات، وبعده ديوان "غاية النشوة" الذي أكد الأمر، ثم توالت الدواوين حتى تجاوزت العشرين ديواناً وحظيت جميعها بالدرس النقدي عبر مقاربات العديد من الأسماء النقدية المحترمة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها