اليوم الثالث بعد المائة، الحرارة مائلة نحو الجحيم، تتسرب إلى جسدي فتُبخِّر دمي، سمعتُ عن المُناخ في دول الخليج، لكنني لم أتوقعه قطّ. الشمس قاسية لا تُحتمل، اغتصبت نافذتي منذ الدقائق الأولى من النور، حين سكنت هذه الغرفة مع فتاتين أخريين طلبت أن يكون سريري إلى جوار النافذة، تبادلتا النظرات بدهشة لم أفهمها وقتها، لكنني كنت أُحب التطلع إلى السماء، أن يراني الله في هذه المساحة منكمشة على نفسي أدعوه كل ليلة، أردت وصلًا مباشرًا بالله.
كان السرير بجوار النافذة خاليًا، ترفض أي فتاة أن تأخذه وربما غادرتْ السكن تمامًا. في الأيام الأولى كان النور يوقظني، ثم صارت الشمس تسلط عليّ سياط لهيبها، فأصحو فزعة، لا أستطيع النوم مجددًا، وكانت هذه ميزة؛ إذ إن الحمام الذي تشترك فيه نحو 10 فتيات غيري يكون خاليًا ولم يزدحم بعد، فأدخل الحمام وأغتسل، وأخرج إلى المطبخ، أحيانًا كنت أجد طعامي ناقصًا، ولم أكن أتضايق، أقول لنفسي ربما إحدى الفتيات جاعت وليس لديها ما تأكله، وربما اشتهت إحداهن شيئًا من طعامي، ولقد تعلمت إن نظر أحد إلى ما آكل أن أُقاسمه إياه أو أعطيه له كله، فالعين أشد فتكًا من كل أمراض الدنيا.
جهزتُ ساندويتش وفنجانًا من القهوة، وبعد الإفطار ارتديت ملابسي وانطلقت إلى عملي، تقول فتاة تايلاندية إني محظوظة؛ لأني وجدت عملًا سريعًا، فهناك من يبحث شهورًا طويلة حتى يجد فرصة ولو غير مناسبة. لا تعرف أني حذفت درجة الماجستير من سيرتي الذاتية، وعددًا من المهارات حتى أُقبَل موظفة استقبال في مركز تدريب، لكنني فعلت ذلك بإرادتي، فلم أكن سأجد وظيفة بدرجة الماجستير في علم اجتماع الريف؛ أي ريف وأنا أقصد بلدًا صحراويًا بالدرجة الأولى، ورغم ذلك فقد رأيت هنا الحدائق والأشجار وتنوعًا في خضار الأرض، وإن كانت كلها زراعات تجميلية فهي أيضًا لا تحتاج إلى دراستي.
خمس عشرة دقيقة أقضيها سيرًا من الشقة التي أسكنها حتى محطة الحافلات، أحاول أن أتصل بابنتي الكبرى، أطمئن منها على إخوتها، أسألها عن جدتها وهل تُراعيهنّ، وأسأل نفسي هل لو كان والدهم موجودًا كنت سأضطر إلى السفر للعمل؟
قدمي تؤلمني بشدة، عرفت أني أُصبت بالشوكة العظمية، كل خطوة يصحبها عناء، عليّ اليوم بعد أن أستلم مرتبي أن أرسل ثلثيه للأولاد، قسط المدرسة لا بدّ من سداده، وأدوية أمي، ودروس الابن الأوسط، وحضانة الصغيرة، وإيجار الشقة، كدت أنساه، لكن المبلغ لن يكفي، أخذت أحسب في ذهني، وجدت أنه ينبغي أن أرسل المرتب بأكمله، لكن كيف أعيش؟ أُحصي احتياجاتي في أقل مستوى لها؛ إيجار السرير، الطعام والمواصلات، مئتا درهم للطوارئ، تشقق حلقي فتذكرت أني نسيت زجاجة المياه، لمحت عيني بقالة، فكرت أن زجاجة الماء بدرهم، اعتبرت نفسي صائمة حتى أصل إلى العمل وأشرب هناك.
تأخَّر الراتب هذا الشهر أيضًا، أخبروني أنه ربما تمر أيام ثلاثة حتى أتسلمه، وإن لم يحدث فسيكون في بداية الأسبوع، نصحني كثيرون ألا أُبالغ في طلب المال، أو أتحدث عن الأمر كثيرًا، ولذا حين عرفتُ بالتأخر، رددتُ بابتسامة وأن الأمر غير مهم.
دعاني زميل لتناول الغداء، للدقة لم يكن زميلًا، المفترض أنه مديري، شكرته وقلت إني مرتبطة بموعد مع صديقة، فكرت للحظة أن أقبل وأُوفّر ما سأدفعه في وجبة الغداء، لكنني فكرت في ما بعد الدعوة، هل ستتكرر؟ وهل ستكون هناك مساحة أكبر من مساحة العمل؟ ربما هو يُفكر فيَّ هكذا، وأنا غير مستعدة بعد، ولا أُفضِّل علاقات العمل، العلاقات أيضًا تُكلف النساء، أحتاج إلى مزيد من العناية بنفسي، عطور ومستلزمات نظافة شخصية، وملابس داخلية لا تعكس حالتي الرثة، وكل ذلك أنا بعيدة عنه، ثم كيف أكون في علاقة دون زواج! وكيف أسأل الله الرزق وأنا أعصاه!
نفضت عن رأسي كل الأفكار، وحاولت إحسان الظن بمديري. فكرت أنها فرصة لولوج أماكن جديدة، التعرف إلى أماكن لن أدخلها فترة، وربما لن أدخلها نهائيًا، أكلتني الهواجس والتردد، أوافق أم أعتذر؟ وفي النهاية اعتذرت وظللتُ طيلة يومي مُشبَّعة بالندم.
تُجاور سريري فتاة باكستانية، شعرت أنها أقربهنّ إليَّ، وكنا قد بدأنا نتبادل الحكايات عن عوائلنا فحكيت لها ما حدث من يومي، أجابتني بصمت مشوب بقلق، فهمتُ قلقها حين وصلتني رسالة عبر البريد الإلكتروني تُعلِمني أن أجر الوظيفة التي أقضي فيها شهور الاختبار الثلاثة قد تقلص، وأن راتب الشهر المنصرم سيُدفع حسب الاتفاق، أما إذا رغبتُ في الاستمرار فسيقل الراتب بنحو 20%. وقفتْ المفاجأة في حلقي، حاولتُ ابتلاعها.. فشلت، شربت أكثر من زجاجة ماء، انحبس الهواء بداخلي، انزويتُ في سريري وتطلعتُ نحو السماء المُعتِمة وحاولت أن أنام.