فتحت شرفتها المطلة على ركام الأمنيات.. نثار ضوء تسبح فيه ذرات التراب يتسلل أسفل قدميها، في الأرجاء تفوح روائح مختلطة، خبز طازج، أقراص الطعمية والباذنجان تستنشقها في غياب عن الضجيج، محلقة في الفضاء الواسع مع أسراب الطيور المهاجرة، طيور تضرب الهواء بأجنحة أنهكتها مواسم الرحيل ونال منها امتداد المسافات.. تعوق طريقها حواجز تحول بين قدرتها على مواصلة الطيران في خطوط مستقيمة، فينحرفن عن مسار الطريق نحو شباك الضباب.. المترقبون وصولها تدنو منهم مغردة، فتدرك مصيرها المحتوم حين ترقص مذبوحة مرفرفة بأجنحة الشمع.
في زاوية السور المتآكل ثبتت أصص زرعها، يخطف عينيها الصدأ المتوغل في إصيص زهور الفل وقد انفرطت تربته وجفت فراح الهواء يبعثرها. استبدلته بإصيص فخاري كانت تزينه بزهور صناعية، أعادت غرس الأغصان اليابسة وروت ظمأها ثم شربت حتى ارتوت. في ربيع مضى طلت رؤوس الزهور بيضاء تسر الناظرين، تناثر عبيرها بهجة للعابرين.. في الربيع تسمو روحها.
عند منتصف سطوة ليل الخمسين من عمرها المنقضي بلا زوج ولا ولد في عيد ميلادها تتآمر عليها العقارب تلسعها، تتحد وتحاصرها بدقات تنغرس بعذاب يتنامى في بؤرة وعيها، كلما استرقت السمع للباب الخارجي فتتها الخوف. طمأنتها عاهته القديمة حين أعلنت عن مجيئه، صوت احتكاك قدميه بالدرج يقترب مخترقاً سمعها وهو يغمز بقدمه، يركل باب الشقة ركلات متتابعة، نهضت تجرجر جسدها المسكون بالرجفة لاستقباله، أدارت المفتاح فدفع الباب ودخل.
أعدت له وجبة العشاء فأشبع جوعه وألقى بما تبقى للقطط التي تموء أسفل الشرفة كان يسعل سعالًا حادًا، ناولته مشروبًا دافئًا من الليمون والزنجبيل وكعادتها معه قبلما تستأذنه للنوم، قبلت يديه وجبينه متوسلة أن يكف عن اجترار شر خلق الله، متمتمة بأن يجعل الله يومها قبل يومه فيرميها بشرر من عينيه، تكررت تلميحاته برغبته في الزواج فتجاهلته، ثم سكتت مستسلمة لتحد من شجاره معها، فهو الثائر لأتفه الأسباب والمهيّأ دائمًا للانقضاض عليها.
في كل صباح يتصدر عنوة طابور المصطفين في أدوارهم للحصول على نصيبهم من أرغفة الخبز، يفتعل الشجار معهم، يقذف سلة الخبز من يده وهو يقطع الطريق على الباعة الجائلين، يخرس مكبرات الصوت ويحوّل وجهة دوابهم نحو الأزقة والحواري الجانبية حتى كاد الشارع أن يخلو من المارة. استيقظت على أصداء استغاثته، هبطت الدرج وهي تصرخ مفزوعة، لم يعد صراخها ولا استغاثاته يثيرون دهشتهم، تندس بينهم بوجه عابس مهددة وهي تفرقهم من حوله، فتجده مطروحًا على الأرض وقد انحسر جلبابه عن ساقه الضامرة، بعدما دفعوه بالقوة لينقذوا جارهم الذي سالت من أنفه الدماء وأعمته اللكمات.. يتشبث بيديها وينهض مترنحًا وهو يتوعدهم!
في المدخل كان يراقب المشهد كتمثال مكمم وهي بجواره خلف الباب، توسوس له فتغذي مشاعر الحقد إزاءها لمحته، شخص تطفح عليه أمارات السخرية وتثور في نفسه غريزة النفور والاشمئزاز، وجهه أصبح غريبًا عنها.. كانت كلما جمعتهما الصدفة، تتحسس في قهر الشق الغائر في جبهتها والجُرح الذي ينكي فؤادها.. جُرح يندّ كلما أيقنت أنه هو ذاته من سبقها إلى رحم أمها بثلاثة أعوام فأحبته وأخلصت، وهو الذي تقلب قلبه على عدائها وغدر، ينفق عمره قيد انتظار الموت ليرثه ويسعى لهلاكها من بعده. صعدت الدرج عاجزة عن التفوه بالكلمات التي تتزاحم فوق شفتيها، جف حلقها وتأوهت عندما عاجلتها بكلماتها الساخرة: "هو الراجل أذنب لما طلبها منه على سنة الله ورسوله؟ المفروض يحمد ربنا ويشكر فضله إنه حيسترها".
عند الغروب أرجأت الموعد المحدد لمعاودة طبيبها. في المتابعة الماضية خرجت من عنده عازمة على تنفيذ توجيهاته والالتزام بمواعيد تناول العلاج حتى لا تتدهور صحتها أكثر كما أخبرها، قاومت رغبتها الملحة دائماً في الصراخ جاهدت، ولكن الخوف انتصر عليها ولم يتجنبها الانفعال. أزاحت الستارة المسدلة على النافذة الغربية، من خلال خصاصها رأته يراقب شرفتها المغلقة ضحكت في هيستيريا كانت تلمحه أحياناً وهي تروي زرعها يجلس وحيداً في شرفته، تبدو هيئته عجوزًا، أرمل، توفيت زوجته منذ عامين، تخمن أنه يكبرها بأعوام، تتعجب لأمره فهو الرجل الوحيد الذي تجرأ وطلبها للزواج ابتسمت، طار طائر أحلامه وحط على قلبها، ترفع صوت المذياع وتتمايل مع روح الأمل وهي تمزج الحنة مع دم الغزال، تعد طبقة سميكة من البودر لتظلل ندوب وجهها، تشق سترة حاشيتها وتدس يدها بين ندف القطن العتيقة فتلفها رائحة العطن، تلتقط خبيئتها والنقود التي تدخرها لجهازها، تتأمل أصابعها الجرداء وهي تلف معصمها بالسوار، يبهرها بريق قرطها مع العقد الذهبي المتدلي من عنقها. في محيط العتمة تتسلل إليها تواجهها، فتراها كما رأتها منذ عام طويلة ونحيفة، لها عينان واسعتان انطفأ بريقهما في وجه خمري محفور بتجاعيد تجاوزت أعوام عمرها، وشفتان يبتسم عليهما الحزن، تتقهقر للخلف وهي تطفئ الرأس المشتعل شيباً بوشاح أسود، أطفأت المذياع وأسرعت تسدل ستائرها.
في تلك الليلة طال انتظارها له ولم يأتِ، غاب عنها بهاتفه المغلق ساورها الشك في أنها لم تغلق الباب بالمفتاح، دخلت حجرته فتشت عنه أسفل الغطاء المكوم الذي رأته أمامها ممدداً على فراشه كجسده النحيف، دَوّى أنينها فشق الصمت ليلها الموحش، ذرات الهواء تستعصي عليها، تتلاحق أنفاسها في لهاث محموم قبل شروق الشمس، نبض رقمه أسرعت تخطفه، فتلعنها بأنه بين المحتجزين بالحجر الصحي وتطلب بطاقة هويته، صرخة قوية ومكتومة تردد صداها داخل صدرها، ترصدها وهي تنتحب، تستدير فتراها أمامها تصرخ وهي تقترب منها تحطمها فتتناثر الشظايا، تدهسها بقدميها برعب يمتصها، تتقاطر الدماء من قدميها، تنتابها قشعريرة.. بيدٍ مرتعشة تفتش بين أدوية اكتئابها، الضغط والسكر لم تتذكرها منذ أسابيع، تبعثرها ينسحب الوعي منها وهي تتمدد على فراشها متفادية سقوطها، تشبعت وسادتها بالعرق.. وبعيون مشرعة على الحلم راحت تتشبث بالفراغ.