شُعراء الرّفض!

من الخُصوصيّة إلى التميُّر

د. سعيد بكور


الرفض موقف من الحياة والناس والقيم والسنن والأعراف، وتعبير عن الذات والوجود والفكر، وخلخلة للخط المستقيم الراكن إلى الاتفاق والثبات والاستقرار، وهو بعد ذلك فلسفة تبنى على تصور نقدي مستقل للأشياء بعيداً عن التبعية والنمطية الفكرية، وغالباً ما يكون متبني فلسفة الرفض ذا رؤية وشخصية وأسلوب.

 

◅ تيمة الرفض في الشعر القديم 

أبرز شعراء الرفض امرؤ القيس صاحب المعلقة، تمرد على نداء أبيه الذي اشترط عليه ترك الشعر إذا رغب في تسلم مقاليد الملك، واختار الحرية، وأصاخ لنداء الذات وصوت الشعر بداخله، وهو اختيار ضمن له الخلود والسيرورة. لقد أيقن أنه برفضه للملك الوراثي سيحقق ملكاً شعرياً عابراً للأزمان، وقد كان.

كان امرؤ يتعهر في شعره، وهو بذلك يُصنّف في دائرة الرافضين للقيم الاجتماعية والأخلاقية التي تربط المرأة بالحياء والعفة، ففي شعره يطلق العنان لمخيلته الجامحة لترسم بريشة اللغة مغامرات العشق الماجنة دون تورّع.

بعد امرئ القيس يأتي عنترة الذي كانت فلسفته في الرفض مغايرة، إذ أيقن منذ البداية أن الروح التي بين أضلعه لا يمكن أن تركن للعبودية، وانقلب رفضه إلى تحدّ للأب والقبيلة والقيم الثقافية التي تميز بين البشر على أساس اللون والنسب.

تجلى رفض عنترة وتحديه في بطولتين: بطولة ميدانية أثبت بها شجاعته الباهرة، وصار أيقونة للإقدام المقترن بالمروءة والأخلاق، وبطولة شعرية ما تزال تروى تفاصيلها، وما يزال مطلع معلقته شعاراً للتجديد والرفض.

يشكل الصعاليك الوجه الأبرز للرفض الاجتماعي في الجاهلية، حيث تمردوا على تقاليد القبيلة وقيمها ونظمها الموروثة، وساحوا في الأرض يطلبون الحرية المفقودة، فقد كان توقهم إلى تكسير هيمنة السادة دافعاً إلى الرفض والثورة، ومحفزاً على التمرد ومغادرة القبيلة، منطلقين من فلسفة تقوم على البعد الإنساني المتمثل في نشدان الحرية والعزة والإحساس بالضعفاء، لقد كان هروبهم احتجاجاً ورفضاً.

من ناحية أخرى كان رفضهم فنياً، إذ لا نجد عندهم الإخلاص الكامل للقيم الجمالية التي فرضها السياق أو التقيد بالسنن الإبداعية السائدة عند شعراء الدرجة الأولى من أصحاب المعلقات، فقصائدهم، في الغالب، ذات نفَس قصير، تقوم في بنائها وصورها ومضمونها على خرق الأعراف الشعرية المعهودة. لقد كان الرفض بحثاً عن التميز الذي يفضي إلى الوجود المستقل والشخصية الفنية والخروج من التبعية وتجنب العيش في ظل شعراء الطبقة العليا.

سلك الرفض في العصر الإسلامي مسلكاً آخر، وتجلى عند الشعراء ذوي الانتماء السياسي والعقدي المختلف عن الأغلبية، إذ خرجت أشعارهم عن الأغراض السياقية المعروفة، وصارت تتغنى بالدعوة إلى الحزب السياسي، والدفاع عنه ضد الخصوم أو الافتخار بالعقيدة الدينية، كما عند الخوارج وشعراء الشيعة، وكان صوت الرفض عند هؤلاء صادحاً قوياً مؤثراً، ولم يقتصر على المضمون الذي التبس بالسياسة والدين، بل شمل الجانب الفني ذي العلاقة ببناء القصيدة، والمضموني المتمثل في سلوك طريق هجاء الخصوم بأسلوب مغاير للسائد.

في الوقت الذي كان فيه أغلب شعراء بني أمية لا يخرجون عن الأغراض المركزية المعروفة، كان غيلان ذو الرمة يخلص في شعره لمحبوبتين، ملكتا عليه قلبه وعقله هما الصحراء وميّ، فكان أن جعل لهما أغلب شعره وعصارة فكره، وهو في مذهبه هذا يرفض الاتجاه الشعري السائد والقيم الفنية المهيمنة، وفي خضم هذا السياق ذي الشروط المعلومة غرقت أصوات شعرية كثيرة، خاصة في ظل هيمنة الثالوث المعروف، لكن ذا الرمة كتب له الذيوع بشعره المخلص للفن والطبيعة والحب، ولهذا السبب ما يزال يعد من كبار شعراء العصر بفضل فلسفته القائمة على الرفض.

اتخذ الرفض في العصر العباسي شكلاً مغايراً مع زمرة شعراء الخمرة الذين اختاروا الصعلكة الماجنة، ومثل النواسي رأس هذا الاتجاه فنياً، فقد عدّ أيقونة الرفض والثورة والتمرد، خاصة في خمرياته التي يُعلي فيها من شأن المقدمة الخمرية ويزري من شأن المقدمة الطللية، ويغض في الآن نفسه من أسماء النساء، ويعوضها بأسماء الخمرة موظفاً المعجم الغزلي في وصفها وتزيينها، فهي محبوبته الأثيرة التي تمنحه جرعات السعادة، وتحلق به في عوالم لا حدود لمداها.

وبعد أبي نواس كان أبو تمام أكبر الأصوات الشعرية المخالفة للسائد، فقد أحدث لنفسه فلسفة شعرية تقوم على إقحام المنطق والفلسفة، وأخلص لروح العصر، وابتعد قليلاً أو كثيراً عن القيم الفنية الموروثة، وقد لامه اللغويون والنقاد المتعصبون للقديم على مخالفته لطريقة العرب وعدّوا ما يقوله خارجاً عنها، وهو بذلك يُدرج في سلك الرافضين المتمردين، وقد أحسن أبو تمام عندما سلك بالشعر طريقاً مغايراً للسائد فتح أمامه عوالم شعرية جديدة تلقفها المتنبي بعده.

ومن الأصوات الشعرية الرافضة الساخطة على الواقع، أبو الشمقمق الذي احترف الهجاء واتخذه وسيلة لكسب المال، وكان يلقي بشعره على ألسنة الصبيان ليذيعوه في المدينة، وكان الشعراء يخافون من غضبه، لهذا كانوا يرسلون له الجزية وهم صاغرون إذا حصّلوا نوالا من المدح، وعلى رأس هؤلاء بشار بن برد الذي ذاق من هجائه الكاريكاتوري المضحك، وقد كان سوء حاله وفقره سبباً في تبرمه بالناس، وداعياً إلى تبنيه فلسفة الرفض والسخط.

◅ تيمة الرفض في الشعر الحديث

في العصر الحديث، أعلن الرومانسيون رفضهم لتقليد القديم، على الأقل نظرياً، لكنهم لم يستطيعوا تنزيل الرفض على أرض الواقع، وسبب ذلك أنهم عولوا على الحماسة أكثر مما عولوا على التخطيط البعيد والرؤية الواضحة، وقد أخلصوا أشعارهم للتغني بالذات والتفلسف في الوجود والهروب إلى الطبيعة، وحاولوا تجاوز الأغراض الموروثة لأنها لا تعبر عن ذات الشاعر ووجدانه.

بعد الرومانسيين، جاءت حركة التفعيلة برؤية أوضح، وتبنى شعراؤها فلسفة الرفض متمردين على البنية الشكلية الموروثة القائمة على نظام الشطرين، وتجاوزوا المضامين المستهلكة، وصاروا أكثر ارتباطاً بالواقع والتصاقاً بنبض الحياة واقتراباً من الذوق السائد، فعلى سبيل المثال تحول الرثاء والهجاء عندهم إلى موقف من الواقع والسياسة والتاريخ، وهكذا كان رفضهم الفني ينطلق من رؤية ناضجة واضحة تسترفد من التجربة الثقافية والفكرية والواقعية والشعورية أكثر مما تنطلق من الحماسة العاطفية.

يعد أمل دنقل أمير شعراء الرفض في العصر الحديث، فقد كان أبرز صوت شعري رافض للواقع السياسي، ومثلت قصيدته (لا تصالح) شعار الرفض الذي تجاوز الحدود، فأصبح نشيداً للثائرين يسري على الألسنة كما كانت تسير الأمثال، ومثله كان أحمد مطر رافضاً للواقع السياسي العربي، حيث حرص في أشعاره المنتقدة للسياسة والواقع العربي على السخرية اللاذعة اللاسعة، فالتبس هجاؤه بالسخرية السوداء مما أعطاه نكهة بروح العصر، ولا شك أن الشاعرين انطلقا من رؤية نقدية للواقع والتاريخ، شكلت شخصيتهما الشعرية المتبنية لفلسفة الرفض.

ولا يمكن ونحن نتحدث عن ظاهرة الرفض في الشعر الحديث، أن نغفل صوتاً شعرياً ثورياً من نوع خاص، هو أدونيس الذي تبنى فلسفة الرفض إبداعاً وفكراً ونقداً، فشعره الرؤيوي التجريدي تعبير عن رفض القيم الشعرية الموروثة، ومدونته النقدية كانت موجِّهة لفلسفته الشعرية الثورية، ولا أدل على ذلك من تأسيسه لتيار الحداثة التجريدي الرافض للتيار الواقعي، وقد كان رفضه سبباً في منح الشعر الحديث طابعاً فسيفسيائياً قائماً على التعددية الجمالية.

شكل الرفض عند الشعراء الذين أتينا على ذكرهم قناعة وعقيدة مكنتهم من تبني فلسفة جمالية مغايرة للمألوف، أسهمت في وسم شخصيتهم الشعرية بالخصوصية والتميز، وهو ما جعل كل واحد منهم أيقونة شعرية لها أثرها الشعري الممتد.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها