جيمس برايدل James Bridle كاتب وفنان وخبير تقني بريطاني، أصدر كتابه "عصر مظلم جديد" في العام 2018، وقد ترجمه إلى العربية مجدي عبد المجيد خاطر، ونشره المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت في العام 2023، وفيما يلي قراءة وعرض له.

لقد غيّر التسارع التقني إبان القرن الماضي كوكبنا ومجتمعاتنا لكنه أخفق في تغيير فهمنا له؛ إذ يجب ألا يقتصر الفهم على الجوانب العملية للطريقة التي تعمل بها التقانات، بل ينبغي أن يمتد إلى الطريقة التي خرجت بها تلك التقانات إلى الوجود؛ فالمطلوب ليس الفهم بل التثقف الحق الذي يتخطى فهم الاستخدام الوظيفي لنظام ما إلى الإحاطة بسياقه وتبعاته. ومن مخاطر الفهم الوظيفي البحت ما يسميه المؤلف التفكير الحوسبي أي اعتقاد أنه يمكن حل أي مشكلة عن طريق تطبيق الحوسبة، فأي مشكلة عملية أو اجتماعية نواجهها فثمة تطبيق مناسب لها.

◄ الحوسبة

التاريخ الحقيقي للحوسبة سلسلة من الإخفاقات في التمييز بين المحاكاة والواقع؛ إذ طالما استبدل كهنة التفكير الحوسبي بالعالم نماذج معيبة منه معتقدين أنهم يتحكمون في العالم لأنهم صنعوا تلك النماذج. ومثلما ينخدع نظام مراقبة جوي بسرب من الطيور ويتصور أنه أسطول من قاذفات القنابل، تعجز برامج الحاسوب عن التفرقة بين نموذجها الذي وضعته للعالم وبين الواقع. ومع ذلك تأقلمنا مع تلك البرامج لسببين: أولهما أن مركّب عدم الشفافية والتعقيد يجعل فهم أغلب العمليات الحوسبية مستغلقاً، وثانيهما أننا ننظر إلى الحوسبة نفسها على أنها محايدة سياسياً وانفعالياً.

لقد انتصر التفكير الحوسبي لأنه أغرانا بقوته، ثم أربكنا بتعقيده، قبل أن يستقر أخيراً في دماغنا باعتباره أمراً بديهياً. وآثاره ونتائجه وأسلوبه في التفكير تغدو جزءاً من الحياة اليومية، فغوغل أصبح مصدر المعرفة، والفيسبوك وسيلة التواصل الاجتماعي.

◄ المناخ

تغدو أزمة الاحترار العالمي أزمة عقل وتفكير، فاستمرار ارتفاع تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي سيؤدي إلى انخفاض القدرة المعرفية البشرية، وهكذا يصبح تراجع قدرتنا على التفكير في تغير المناخ يعود إلى تغير المناخ نفسه. وكذلك الحوسبة ضحية وشريك في تغير المناخ، فدرجات الحرارة العالية المتصاعدة ستجهد البنى التحتية للمعلومات التي تنضح بالسخونة أصلاً، وستسوء الدقة اللاسلكية، كما أن أغلب الشبكة يتطفل على منشآت لم تصمم لاستعمالاتها المعاصرة، ولا لكي تتصدى لآثار تغير المناخ. بالمقابل تستهلك مراكز البيانات في العالم 3% من الطاقة الكهربائية الموجودة في العالم، وهي مسؤولة عن 2% من إجمالي الانبعاثات العالمية. ومن المتوقع أن تتزايد حدة الاستهلاك والانبعاثات بشكل هائل.

◄ تعقيد

تعقيد التقانات المعاصرة محرك رئيس للامساواة في أغلب القطاعات، فالتقدم الذي تشهده الأتمتة يهدد على نحو متزايد العمالة البشرية، فلا توجد شبكة حماية لأولئك الذين جعلت الآلات من مهاراتهم أثراً من الماضي، وحتى هؤلاء الذين يبرمجون الآلات ليسوا بمنأى عن ذلك الخطر، وأحد مفاتيح هذه اللامساواة هو عدم شفافية النظم التقنية، فداخل أسواق رأس المال المعاصر المتسارعة وغير الشفافة صارت الانهيارات الخاطفة متكررة، لكنها لا تزال غير مفهومة على نحو كاف.

إن ترتيب العالم من منظور الآلة يجعله فعالًا حوسبياً، لكن يجعله غير مفهوم بالنسبة إلى البشر، كما أنه يسرع وتيرة قهرهم. فاختزال العمال إلى خوارزميات من لحم ودم نفعها الوحيد هو قدرتها على الحركة واتباع الأوامر إلى حيث يأمرهم الجهاز الذي يحملونه، وهذا مما يجعل توظيفهم وطردهم وممارسة التعسف ضدهم أسهل.

تركز التقانة السلطة والفهم، ذلك أن تاريخ الأتمتة ليس مجرد تاريخ آلات فائقة البراعة تحتل شيئاً فشيئاً مكان العمال من البشر، بل هو أيضاً قصة تركيز السلطة في أيد أقل، وتركيز الفهم في عدد أقل من الرؤوس. ومقاومة ذلك تتطلب فهماً متشابكاً وتقنياً، وتقتضي قلب منطق النظام على نفسه.

◄ الذكاء الاصطناعي

مهما كان ما سيؤول إليه، فسيصبح مختلفاً وملتبساً بالنسبة إلينا، ذلك أنه رغم التطور المستمر الذي تشهده نظم الحوسبة والتمثيل البصري، فإننا لا نزال بعيدين عن أن نفهم حقاً كيف يفعل تعلّم الآلة بالضبط ما يفعله، إذ لا يمكننا إلا أن نحكم على النتائج. تتسم شركات التقانة والعاملة في الذكاء الاصطناعي بسرعتها في التبرؤ من مزاعمها حين تؤدي إلى صراعات أخلاقية، على رغم مسؤوليتها عن تضخيم التوقعات.

وهذه النظم الذكية لا يقتصر وجودها على الأطروحات الأكاديمية وكاميرات المستهلكين فقط بل هي تحدد بالفعل النطاق الكلي لحيوات البشر اليومية، لاسيما أن الإيمان بهذه النظم كان يطبق على نطاق واسع داخل النظامين الشرطي والقضائي.

يقترح المؤلف نهجاً يستعين بمهارات البشر والآلات عند اللزوم، بدلاً من جعلهما يتنافسان فيما بينهما، فقد يقلل التعاون المدروس أيضاً وطأة الغموض الحوسبي، وقد نكتسب فهماً أعمق للطريقة التي تتخذ بها الآلات قراراتها.

◄ تواطؤ

إن المراقبة الجماعية العالمية تعوّل على السرية السياسية والتعتيم التقني، وكلاهما يتغذى على الآخر. ففي الوقت الذي كانت فيه الحكومات تتجسس دائماً على شعوبها إضافة إلى أعدائها، تحسنت قدرتها جذرياً على التنصت على كل لحظة تمر في الحياة بفضل الشبكة وقوة معالجة البيانات، وبفضل انتشار الحوسبة في كل مكان. تسفر الإمكانية التقنية عن ضرورة سياسية، لأنه ما من سياسي يرغب في أن يوجَّه إليه اتهام بعدم فعل ما يكفي في أعقاب عمل وحشي أو فضيحة ما. فالمراقبة تمارس لأن ممارستها متاحة لا لأنها ناجعة، ولأنها تلقي بعبء المسؤولية والحرج على كاهل الآلة. وهي تسفر عن معلومات هائلة الحجم تكاد تكون بلا فائدة إذ تغرق المحللين في مستنقع وتجعل انتقاء البيانات ذات الصلة أمراً مستحيلاً، وهذا لا يؤدي إلى مزيد من الفهم، بل إلى الحيرة والمزيد من التعقيد.

تتبدى المراقبة باعتبارها مشروعاً ذا طبيعة ذات أثر رجعي بالكامل، يعجز عن التصرف في الحاضر ويخضع كلياً لمصالح السلطة الراهنة، فما كان ينقص في رواندا وسريبرينيتسا ليس الدليل على وقوع عمل وحشي، بل الاستعداد للتصرف بناء على هذا الدليل.

يرى المؤلف أن عملية المراقبة وتواطؤنا معها من أبرز خصائص العصر المظلم الجديد، لأنهما تشددان على نوع من الرؤية الكفيفة، حيث كل شيء مضاء لكن لا شيء مرئي.

◄ مؤامرة

إن اصطلاح نظرية المؤامرة يرتبط بعلاقة الناس بالسلطة أكثر من علاقة الناس بالحقيقة، وهي تؤدي وظيفة ضرورية من خلال تسليط الضوء على أمور يجري تجاهلها عادة، وهي المسائل التي تقع على هامش أي مشكلة. قد تكون أغلب نظريات المؤامرة تكهنات ينتجها هؤلاء الذين لديهم دراية عميقة بالظروف من دون أن تكون لديهم القدرة على الإفصاح عنها بمفردات مقبولة علمية. لكنّ عالماً يعجز عن الاعتراف بمثل هذه الروايات، هو عالم يعاني خطر السقوط فريسة لقصص أسوأ بكثير، ومن خطر الفشل في الإنصات إلى أصوات التحذير الحقيقي.

قد تكون نظريات المؤامرة الملاذ الأخير للمغلوبين على أمرهم؛ إذ يلجأ الفرد إلى سرديات أبسط حين يحاصره التعقيد، ففي الوقت الذي يتبنى فيه العالم كل ما يتعارض مع البساطة تصبح المؤامرة المفروضة أعجب وأصعب وأعنف. وتتفاقم الأمور عندما يبدأ المؤمنون بالمؤامرة في الاستيلاء على الحكومات، مثل دونالد ترامب الذي غرّد في مناسبات عديدة أن الاحترار العالمي مؤامرة ضد الأعمال الأمريكية، وأنه ربما يكون مكيدة صينية.

◄ تزامن

لدى الإنترنت أسلوب خاص في تضخيم وتميكن كثير من رغباتنا الخفية، إذ أتاح ازدهار تقانات الشبكة لكثيرين الإدراك والتعبير عن النفس بطرائق لم تكن متوافرة من قبل.

تفرض نظم المكافآت المؤتمتة مثل خوارزميات يوتيوب الاستغلال من أجل الحفاظ على أرباحها، وتشفير الاستغلال داخل النظم، ما يجعل رؤيته أو مواجهته، أمراً صعباً. ويتدهور البشر على طرفي المعادلة: من يشاهدون الفيديوهات، ومن يصنعونها مقابل أجور زهيدة أو بلا أجر، وبينهما شركات شبه مؤتمتة تستفيد من كلا الجانبين.

النظام متواطئ في إساءة الاستعمال، ويوتيوب وغوغل يتواطآن مع ذلك النظام، فالبنية التي شيداها لاستخلاص أقصى ربح من فيديوهات الإنترنت، يخترقها أشخاص مجهولون من أجل الإساءة. إن أصحاب هذه المنصات يتحملون مسؤولية مطلقة عن التعامل مع هذا الوضع، لكنهم لم يكشفوا حتى الآن عن أي استعداد لتحمل تلك المسؤولية.

◄ سحابة

تمثل السحابة الاستعارة المحورية الخاصة بالإنترنت، ولكن هي بنية تحتية مادية تضم خطوطاً هاتفية، وأليافاً بصرية، وأقماراً صناعية وكابلات في قاع المحيط، ومستودعات شاسعة تزخر بأجهزة الحاسوب.

يرى المؤلف أنّ أي استراتيجية للحياة في العصر المظلم الجديد يجب أن تعوّل على الاهتمام بما يوجد هنا والآن، وليس على الاهتمام بما يبذله التنبؤ والمراقبة والأيديولوجيا والتمثيل الحوسبي من وعود وهمية. فالحاضر هو دائماً حيث نعيش ونفكر، ويقع في الوسط بين تاريخ مستبد ومستقبل لا سبيل إلى معرفته.