
يُعَدُّ المَسرح واحداً من أهم الإشكاليات التي تواكب كل زمن وحين، وبسبب التطور الكبير الحاصل في كل مجالات الحياة، كصعود الإنسان إلى القمر في ستينيات القرن الماضي، وصولاً إلى اختراع الإنترنت، والتحول الرقمي الكبير في شتى مناحي الحياة، والتطور المتسارع في وسائل التواصل الاجتماعي، كل هذه الأمور جعلتني أضع عنوان (المسرح والمريخ). والذي أتمنى أن يكون فاتحة لمواضيع أُخَرى، وشُعلةً للبحث العلمي المستقبلي لدى طلبة الدكتوراه والماجستير في تخصص الفنون المسرحية للبحث المعمق فيه.
المسرح لم يكن يوماً متخلفاً عن ما يمر به زمنه، فهو ملاحق فذ، وفارس متقدم في مواكبة كل تطور. فالمسرح بتقنياته الثابتة المتمثلة بوجود الممثل والمتلقي في فضائه الواسع الممتد من الخشبة وحتى الشارع؛ فإنه لا يمكنه أن يواكب التقنيات الحديثة فقط، بل هو نفسه أساس التقنيات؛ لأن المشتغلين فيه هم من البشر الذين يصنعون التقنيات ويواكبونها في كل زمن، والإنسان بفكره الممتد والمتطور يُحَدِث المسرح ويجعله منفتحاً على الوجود المعاصر في الكون.
تتضح حقيقة التقنيات التي تواكب أي عرض مسرحي بوصفها جزءًا لا يتجزأ مما يحصل من تطور واضح في العالم المحيط بالمسرح؛ ولأن التطور أصلا يعد جزءاً من إشكاليات الزمن الحديث، فالقراءة المسرحية لأي عرض تأتي من لدن الإنسان، الذي يعمل على تمكين التقنيات من الوصول إلى المسرح ليكون مواكباً للكم الهائل من التسارع في التطور بكل الأشكال، ما أعنيه أن أي تطور في أي مجال حياتي لا بد أن يوظفه المسرح في خدمة معالجته لموضوع حياتي معين، فطرح أي موضوع على المسرح يواكبه توظيف لما هو موجود في العالم من تقدم، فالمخرجون الآن في العالم بدأوا بدراسة الهندسة والفضاء، والاطّلاع على أحدث ما هو في الوجود من تطور ليعملوا على توظيف ذلك في أعمالهم التي يقدمونها.
غَدَت وسائل التواصل الاجتماعي جزءاً من حياتنا اليومية، التي لا نفتأ أن نطمئن فيها على مسار يومنا عبر الاطلاع على كل مايدور بنا من أحداث ووقائع عبر هذه الوسائل، وهنا سيكون للمسرحيين اليد الطولى في إحاطة المسرح بهذا التقدم المتسارع في الحياة، ومشاركة معلومات كل شخص مع الآخر أصبح شيئاً عاماً ووارداً في وسائل التواصل كـ(الفيس بوك)، و(الانستغرام)، و(تويتر/X)، ألا يكفي ذلك في أن يوظف المخرج المسرحي هذا التقدم في معالجته لنص قديم مثل نص (أوديب الملك)، والذي يمتلك مواهب كبيرة في حل أي أحجية تقابله، وهنا يمكن لـ(أوديب) كشخص مميز في زمنه أن يعتمد على محرك البحث كوكل -كمعالجة حديثة- في بحثه عن حل الأحجية التي تمنح جائزة لمن يحلها، متمثلةً بأن يتزوج الفائز من الملكة الأرملة، ويكون ملكاً على المملكة. وهنا يسهم كوكل بحلها بكل سهولة ويستلم (أوديب) مفاتيح مدينة (ثيبة-طيبة) ويكون ملكاً عليها، هذا الربط المفترض لمسرحية أوديب الملك مع تقنيات العصر الحديث يجعل الممثل كائناً زمنياً معاصراً، فالمكان ممكن أن يكون في المريخ حين يصعد إلى الفضاء؛ ليجد أن هناك أناساً جدداً يمتلكون صفة قراءة الآخر والمستقبل بكل سهولة، ألا يكفي هذا في جعل المسرح مواكباً للزمن المعاصر في كل وقت وحين. هذه المعالجات المفترضة للمسرحية تجعلها حديثة، وإن كانت قد كتبت قبل الميلاد بخمسة قرون وأكثر.
المسرح حاضنة واسعة لكل تقنية تأتينا وفي كل زمن، وأكبر دليل على ذلك أن المشتغلين في المسرح هُم أساس تشغيل وتطوير وابتكار أية تقنية مهما كانت في العالم، هذه التقينة تدخل حيز التفنن والاشتغال الحر في المسرح عبر المعالجات المتعددة لها في فضاء هذا الابتكار (الأب للفنون). عملت تقنيات الإضاءة في تفعيل وجودة الديكورات المستحيلة وإمكانية تنفيذها وجعلها واقعية على المسرح عبر تقنية الهولوغرام والضوء الثلاثي الأبعاد، فالمسرح يحتاج هذه التقنيات لتأثيث فضائه الواسع، وجعل الممثل أكثر مصداقية في تعامله مع الجانب المعنوي والمادي في العرض المسرحي.
تختلف مقومات بناء العرض عن الآخر، لكن بمجموعها، تتفق على أن أي تحديث في توظيف الحداثة، هو واجب ملح لتفهم النمط الحياتي المعاصر لزمن العرض. فالعرض المسرحي هو مكنون حياتي معاصر للإنسان، والأخير بحاجة إلى مواكبة كل التطور الحاصل في زمنه سواء عبر القراءة أو الاطلاع عليها في التلفاز، أو وسائل التواصل الاجتماعي، ورؤية ذلك جلياً في فن قديم وأب الفنون (المسرح)؛ لأن ذلك سيجعل المتلقي أقرب للحقيقة في تلقيه المعلومات التي تأتيه تباعاً من مشاهدته للعرض.
إن المسرح يضارع وسائل التواصل الاجتماعي عبر خصلتين مهمتين:
◅ الأولى؛ اتصاله المباشر مع المتلقي، في لحظات يختارها المتلقي لحاجة ملحة على الانضمام للعالم الذي يخلقه المسرح، هذا الانضمام يكون في لحظات مشوقة تجمع الطرفين القديمين (لأنهما أقدم مُتَصِلَين مُباشرين) على مساحة واحدة مباشرة وممتعة.
◅ الثانية؛ تتمثل في أن كل ما يجب أن يراه على المسرح عليه أن يكون حديثاً في معالجته للمشكلة المطروحة؛ لأن المسرح يكون حلاً للكثير من المعضلات التي تواجه الإنسان، ولاسيما الحلول النفسية التي تتمثل في التطهير (الكاثرسز) التي عرف بها المسرح الإغريقي. هذا التطهير يجعل المتلقي ينأى بنفسه عن الحدث الحاصل أمامه؛ أي أن المسرح هو رهان المشتغل فيه يأخذه إلى محيط الخطر والموت دون أن يتسبب بإيذائه، بل يحفظه سليماً لحين العودة للحياة المعتادة.
يقع على عاتق المخرج والمؤلف التواصل مع كل حَدَث في العالم لتبني صورة مختلفة لأي واقعةٍ، ولأي مشكلة، ولأية قصة يريدان طرحها عبر المسرح، فالصحفي يراقب الحدث ويكتب عنه، لكن المسرحي يراقبه ويكتب عنه، ويعالج المشكلات التي تواجهه في خضم عملية فنية متكاملة، تتطلب الخوض في غمار النفس البشرية والتطور العلمي المرافق لكل شيء، والحيلولة لوضع الحلول الممكنة، والوصول إلى النتائج المرضية التي تتفق مع حجم الموضوع المطروح والفائدة منه تربوياً وعلمياً ونفسياً واجتماعياً.
إن المسرح والمريخ يُعدان فصيلةً متشابهة؛ لاحتوائهما على الغموض الذي يدعونا إلى الاهتمام بمسألة التوظيف العملي للتقنية الحديثة، والقراءة المتواصلة لكل ما هو جديد، لجعل المسرح مسايراً لدوامة التطور والحداثة التي تتقدم كل ثانية في عالمنا الرقمي الحديث.