الجَامع الكَبير بِصنعاء أكبر مَكتبة لِلمَخطوطات الإِسلاميَّة

د. محمد أحمد عبد الرحمن عنب

يُعدُّ الجَامع الكَبير بِصنعاء مَنارة إشعَاع دِينيٍّ وَعِلميٍّ عَلى مَدى عُصور التَاريخ، وَلَه مَكَانته وَرَمزيته الدِينية وَالحَضارية فِي حَياة أَبناء اليمن مُنذ تَأسيسه وَحَتَّى عَصرنا الحَاضر، وَما يَزالُ شَامخاً يَؤُمه آلاف المُصلين مِن أبناء صَنعاء وَغَيرها، وَتَشهد أروقته حَلقات الدُروس الدِينية بِشَكل يَومي، ويَتميز هَذا الجَامع بِاحتوائه عَلى كُنوز هَائلة مِن أَقدم المَخطوطات الإِسلامية، والتي تُعبّر عَن تُراث وَحَضارة الإِسلام وَالمُسلمين في مُختلف التَخصصات، كَما تَعكس لَنا جَانباً مِن جَوانب الحَضارة الإِسلامية في اليمن.

 

نبذة عَن تاريخ الجَامع الكَبير بِصنعاء

يُعد الجَامع الكَبير بِصنعاء أحد أَقدم المَساجد الإسلامية؛ فَهو يُعتبر ثَالث المَساجد الأولى التي بُنيت فِي الإسلام بَعد مَسجدي قباء وَالمَسجد النَّبوي، وَأول مَسجد شُيّد في اليمن، وَأَجمعَ المُؤرخونَ عَلى تَأسيسه فِي حَياة الرَسول صلى الله عليه وسلم فِي السَنة السَادسة لِلهجرة، وَقَد تَباينت الرِّوايات حَول شَخصية مُؤسّسه؛ فَقِيل إنَّه الصَّحابي الجَليل وَبَر بن يُحنّس الأَنصاري؛ حَيثُ أَرسله الرَسول صلى الله عليه وسلم إلى صَنعاء وَالياً عَليها وَقَال لَه؛ (ادعُهم إلى الإيمان فَإن أَطَاعوا لَك بِه فَاشرع الصَّلاة، فإذا أَطاعوا لَك بِها فَمُر بِبناء المَسجد لَهم فِي بُستان بَاذان مِن الصَّخرة التي فِي أَصل غَمدان واستقبل بِه الجَبل الذي يُقال له ضِين)، وَفِي رِواية أنه الصحابي إبَّان بن سَعيد بن أُمية، وفي رواية أُخرى أنه الصحابي المُهاجر بن أمية، وَقد بُني المَسجد في بُقعة كَانت في الأصل بُستاناً أَهداه مَلك صَنعاء (بَاذان الفَارسي) لِلنبي صلى الله عليه وسلم، وَجَاءت عِمارته في بِدايته بَسيطة تَتماشى مَع عِمارة المَساجد الأُولى في الإِسلام، ثُم تَعرّض هَذا الجَامع لسِلسلة مِن التَجديد وَالتَعمير خِلال العُصور الإِسلامية المُتعاقبة؛ أهمها تِلك العِمارة الكَبيرة التي أُجريت في عَهد الخَليفة الأُموي الوَليد بن عَبد المَلك (86-96هـ/705-715م)، وَقد أَصبح تَخطيطه عِبارة عَن فِناء مَكشوف تُحيط بِه أَربعة أَروقة أَعمقها رُواق القِبلة الشّمالي وَيَتكون مِن خَمسة بائكات، والرِواق الجَنوبي مِن أَربعة بَائكات، أمّا الرِواقان الجَانبيان فمِن ثَلاثة أروقة، ويُعتبر مِحرابه القَديم في مُقدمة المَحاريب الأُولى التي بُنيت في صَدر الإِسلام، ويُشكّل الجَامع بِتَخطيطه الحَالي وَعَناصره المِعمارية وَالزُخرفية أَهمية كَبيرة وَقَاعدة أَساسية لِدِراسة الآَثار الإِسلامية الدِينية في اليمن1؛ فهو يُعد سِجلاً حَياً يَحكي تَاريخ اليمن عَلى مَرِّ الزَمان.

 

مُميزات جَعلت الجامع يَحظى بِمَنزلة كَبيرة بين الآثار الإسلامية في العالم، وهي:

1. أنّه بُني بِأمرٍ مِن النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم وَأنّه هو مَنْ اختار البُقعة التي شُيّد عَليها؛ وَحدّد المساحة لِأول بِناء في المَسجد؛ وَحدّد صلى الله عليه وآله وسلم أوصافه؛ حيث حدّد مَوضعه في صَنعاء، وَحدّد قِبلته بِعَلامة مُميّزة، وَهي جَبل ضِين الذي يَبعد عن صنعاء حَوالي 32 كم، وهنا تَتضح مَلامح الإعجاز في رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لاينطق عن الهوى؛ حيث تُعتبر قِبلة مَسجد صَنعاء كَما حَدّدها الرَّسول صل الله عليه وسلم والذي لَم يَزر اليمن ولم يَرَ جَبل ضِين، فَلو حَددنا ثَلاث نِقاط مِن المَسجد وَجَبل ضِين وَالمَسجد الحرام في مكة نَجدها تَأخذ خَطاً مُستقيماً، الخَط الذي كَانت بِدايته مَا بين عَمودي المَسجد، وَالمَعروفين اليوم بِـ(المَسمورة وَالمَنقورة)، والتي مَرّت بِقِمة جَبل ضِين كَانت نِهايته بِجِدار الكَعبة المُشرّفة2. وكَان ذلك لَه أثر رَوحي ومَكانة دِينية كَبيرة للجَامع في نُفوس المُسلمين عَامة دَاخل اليمن وَخَارجه، وَيُمثل رَمزاً إسلامياً مُهماً لِدرجة تَسميته بـ(المَسجد النَبوي الصَّنعاني).


شَكل تَوضيحي يُحدّد مَوقع الجَامع الكَبير بِصَنعاء مِن جَبل ضِين وَالكَعبة المُشرّفة.
الشكل: http://kuran-icaz.com/ar ©


2. يُعتبر الجَامع مَدرسة وَهِجرة عِلمية مُستقلة بِذاتها مُنذ أن أُنشئ وإلى يَومنا، وَمَا زَالت حَلقات التَدريس قَائمة به حَتى يَومنا، وَيتَحلق طُلاب العِلم حَول مُدرسهم، يَدرسون عَلى يَده القُرآن الكريم وَالحديث وأصول الفقه والتَشريع ومُختلف عُلوم العَصر، ويَلجأون إلى مَكتبته لتزويدهم بَالمَعرفة والعُلوم المُختلفة مِما تَحتَويه مِن أُمهات الكُتب والمَخطوطات النَادرة، وَقَد تَخرّج مِن جَامع صَنعاء عَدد كَبير مِن أَعلام وَأئمة العَالم الإِسلامي لَعل أَبرزهم؛ الإمام الشَافعي، وَالإمام الشَوكاني وَغيرهما، كَما كَان الجَامع مَرجعاً مُهماً لِعُلماء المُسلمين مِن مِصر وَالعِراق وَالشِام3.

3. المِيزةُ الكَبيرة التي يَمتاز بِها الجَامع الكَبير بِصَنعاء هي مَكتبته الكَبيرة، التي تَضم المَخطوطات القَديمة وأُمهات الكُتب في التُّراث العِلميِّ وَالثَّقافيِّ في مُختلف العُلوم؛ وَأقدم هذه المخطوطات المُكتشفة نُسخة قَديمة مِن القُرآن الكَريم تَرجع إلى ق1-2هـ/7-8م، وهي تُعتبر مِن أَقدم النُسخ القرآنية المُكتشفة حتى الآن، وهي مَخطوطة لِلقُرآن الكَريم بِخَط الخَليفة عُثمان بن عفان رَضي الله عَنه، وكذلك من أشهر المخطوطات التي عُثر عليها بالجامع مُصحف صَنعاء الشَّهير المَنسوب لِلإمام عَلي بن أبي طالب -كَرّم الله وَجهه-، ولِهَذه المَخطوطات أَهمية كَبيرة في مَعرفة التَاريخ، وتَطوّر الخُطوط العَربية وَدراسة فُنون تَزويق وَتَذهيب المَخطوطات الإِسلامية.

فضلاً عن عَدد كبير من المَخطوطات المُخبّأة في الجَامع، والتي تَمّ اكتشافها عن طَريق الصُدفة أثناء أعمال تَرميم الجَامع الكَبير بِصَنعاء؛ حَيث عُثر عَلى خَزائن جَدارية على شَكل أقبية كَبيرة تَحتوي على الآلاف مِن المَخطوطات القُرآنية وَالعِلمية المُختلفة، بين السَّقف الدَّاخلي وَالسَقف الخَارجي لِلجَامع؛ وَبَلغ عَددها حَوالي أربعين ألفاً، تَتألف مِن مصاحف قرآنية يَعود تَاريخها للقَرن الأول الهِجري، وحتى القرن التَاسع مَكتوبة عَلى الرِق، وَتتميز هذه المَصاحف بتنوع الخَطوط المَكتوبة بها؛ فَمنها مَا هو بِالخَط الكُوفي الحِجازي المَعروف بِاسم الخَط المَكي، وهو أول الخُطوط العَربية التي استُخدمت في تَدوين القُرآن الكَريم وَيَنعدم فِيه التَنقيط، وَمِنها مَا هُو مَكتوب بِالخَط النَسخي، وتَتميّز بِالتَذهيب وَالتَزويق بِالزَخارف الإسلامية، كَما تَتَميّز مَوضوعات هَذه المَخطوطات بالتّنوّع؛ فَمنها مَخطوطات فِقهية، وَمِنها مَخطوطات عِلمية في الطِّب وَالفَلك وَالتَشريح وغيرها.

 

تَرميم وَتَوثيق مَخطوطات الجَامع الكَبير في صَنعاء

في الحَقيقة ظَلّت هَذه المَخطوطات مَنسية ومُهملة فَترة من الزمن، حتى أَدرك القَاضي إسماعيل الأَكوع والذي كَان رَئيساً لِهَيئة الآَثار اليَمنية الأَهمية التَاريخية لِهَذه المَخطوطات، وَبَدأ في إعداد مَشروع لِصِيانة وَحِفظ هَذه المَخطوطات بِالتَّعاون مَع الحُكومة الألمانية عَام1979م، وبدأ تَنفيذ المَشروع عَام1983م واستمر حتى عَام 1996م، وقد تَمّ تَرميم حَوالي 15 ألف صَفحة مِن نُسخ القُرآن الكَريم4.


أقدم النُسخ القُرآنية التي عُثر عَليها بَالجَامع الكَبير بِصَنعاء
 

أماكن حِفظ مَخطوطات الجَامع الكَبير في صَنعاء

تُوجد أماكن عَديدة تُحفظ فيها هَذه المَخطوطات في الجَامع الكَبير ومن هذه الأماكن؛ مَكتبة مِن مَحاسن الإمام المُتوكل على الله يَحيى ابن الإمام المَنصور بِالله محمد بن يَحيى حَميد الدين، وهي تَقع جَنوب المِئذنة الشَرقية مُمتدة إلى جِهة الغَرب وقد عمّرها عام 1355م، وسُميت بِالمكتبة الغَربية وتَحتوي عَلى 2925 مَخطوطاً5، وَتَمّ إعداد فِهرس دَقيق وَشَامل لِجَميع مُحتوياتها بِأسلوب حَديث، وتَضم المَكتبة عُلوماً شتى في اللغة بِأقسامها، وَالفَلسفة وَالفَلك وَالطِب وغيرها، كَما تُوجد مَكتبة أُخرى في الجَانب الجَنوبي لِلجَامع وَتُعرف بِدَار المَخطوطات تَتبع الهَيئة العَامة لِلآثار وقد أُنشئت عَام 1400هـ/1980م في عَهد القَاضي إسماعيل الأكوع، وتَقع بِالجِهة الجَنوبية مِن الجَامع الكَبير في صَنعاء6.

وَمِن أَهَمِّ الأماكن التي شُيّدت في الجَامع الكَبير بِصَنعاء لِحِفظ المَخطوطات وَالوَثائق المُهمة خِلال العَصر العُثماني؛ قُبة تَقع في وَسط الصَحن الجَامع شيّدها الوَالي العُثماني سِنان بَاشا أثناء تَجديده لِلجَامع الكَبير عام1016ه7، ويُحتفظ دَاخل هَذه القُبة بِمَخطوطة شَهيرة تُعرف باسم (المُسودة السِنانية) نِسبة إلى سِنان باشا، وهو الذي أمر بِكَتابة هَذه المَخطوطة المُهمة لِتَكون دَفتراً جَامعاً لأوقاف مَدينة صَنعاء، وَقَام فيها بِحَصر جَميع مُمتلكات وَأموال الوَقف وَتَسجيلها، وتُعتبر هَذه المَخطوطة أحد الوَثائق المُهمة لِمَعرفة أسماء مَساجد صنعاء وَأوقافها8.


القُبة التي بَناها سِنان بَاشا بِوَسط صَحن الجَامع الكَبير بِصَنعاء، تصوير الباحث.
 

وأخيراً؛ يَمتلك اليمنُ إرثاً حَضارياً عَريقاً وَكَبيراً، يَمتازُ بِالأصالةِ وَالعَراقة وَالإبداع وَالتميز وَالعَالمية، ويُعد الجَامع الكَبير بِصَنعاء أَحد أهم مُقومات الحَضارة الإسلامية بِاليمن؛ فَهُو مَنارة العِلم وَالثَّقافة بِما يَحتويه مِن نَفائس المَخطوطات، التي لا تُقدّر بِثَمن وَتَقف شَاهداً عَلى عَظمة تُراث وَحَضارة اليمن القَديم.


الهوامش
1. للمزيد انظر: الرازي (أبو العباس أحمد بن عبد الله ت406هـ/1067م)، تاريخ مدينة صنعاء، تحقيق حسين عبد الله العمري، دار الفكر المعاصر ببيروت، دار الفكر بدمشق، ط3، 1989م، ص130-132، الحجري (محمد بن أحمد 1380هـ/1960م)، مساجد صنعاء عامرها وموفيها، إصدارات وزارة الثقافة والسياحة بصنعاء، 2004م، ص: 27-29، مصطفى شيحه، مدخل إلى العمارة والفنون الإسلامية في الجمهورية العربية اليمنية، وكالة اسكرين، القاهرة، ط1، 1987م، ص: 36-144، غازي رجب محمد، الجامع الكبير بصنعاء دراسة تاريخية أثرية، مجلة كلية الآداب، جامعة بغداد، العدد: 28، 1980م.
2. الإعجاز في تحديد قبلة جامع صنعاء.
3. عبد الرحمن الحداد: صنعاء القديمة المضامين التاريخية والحضارية، مؤسسة العفيف الثقافية، اليمن، صنعاء، ط1، 1992م، ص: 65-66.
4. إسماعيل الأكوع: جامع صنعاء أبرز المعالم الحضارية الإسلامية في اليمن، مقال منشور في كتاب مصاحف صنعاء، دار الآثار الإسلامية، متحف الكويت الوطني، جمادى الآخِرة/شعبان 1405هـ، ص: 18-22.
5. الحجري: مساجد صنعاء، ص: 33، محمد عبد العزيز يسر، الموروث الحضاري لصنعاء القديمة، إصدارات جامعة صنعاء، 2004م، ص: 286، العرشي (حسين بن أحمد ت1329هـ/1911م)، بلوغ المرام في شرح مسك الختام في من تولى ملك اليمن من ملك وإمام، تحقيق الأب أنستاس ماري الكرملي، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، د.ت، ص: 95، إسماعيل الأكوع، جامع صنعاء، ص: 19، شيحه، المدخل، ص: 32، غازي رجب، الجامع الكبير بصنعاء، ص: 66؛ منظمة العواصم والمدن الإسلامية، أسس التصميم المعماري، ص:294-295.
6. محمد يسر: الموروث، ص: 290-292.
7. البكري: (محمد بن أبي السرور ت: 1060هـ/1650م)، المنح الرحمانية في الدولة العثمانية وذيلة اللطائف الربانية على المنح الرحمانية، تحقيق ليلي الصباغ، دار البشائر، ط1، 1995م، ص: 204، عبدالملك المروني، الوجيز في تاريخ بناية مساجد صنعاء القديم والجديد، مطابع اليمن العصرية، اليمن، ط1، 1988م، ص: 43.
8. الجرافي: (عبد الله بن عبد الكريم ت: 1401هـ/1980م)، المقتطف في تاريخ اليمن، مؤسسة دار الكتاب الحديث، بيروت، ط2، 1984م، ص: 69-70.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها