انتباه!

رهام محمود عيسى

لم تعرِ الأمر في البداية اهتماماً يذكر، كانت أشياء، مجرد أشياء تختفي فجأة ثم تعود للظهور مرة أخرى. قضت مرّة نصف نهارها تبحث عن قشارة البطاطا، وبعد أن يئست من إيجادها باتت مقتنعة أنها رمتها بالخطأ مع النفايات ونست أمرها تماماً، حتى فتحت في ذلك الصباح البراد وتفاجأت بقشارة البطاطا على الرف الثاني.

بدا الأمر غريباً جداً، فهي تفتح البراد كل يوم عشرات المرات، ورغم ذلك لم تلحظ وجود قشارة البطاطا، حتى إن الرف الثاني هو المكان المخصص لوضع الخبز وهذا ما يجعلها تكاد تجزم أن القشارة لم تكن هنا قبلاً، لكن مع وجود طفلين صغيرين في المنزل يبقى باب الاحتمالات كلها مشرعاً.

تكرر الأمر كثيراً، فقد اختفى شالها الرمادي المنقط بالأصفر لأشهر، ثم ظهر من جديد على رف كتبها، وكذلك فردة حذائها الأسود، المخصص للمناسبات الرسمية.

كانت قصة اختفاء فردة الحذاء الأسود الأطرف، روتها على مسامع أمها مرات عديدة، ضحكتا كثيراً، وهي تشرح كيف وجدته بعد أيام تحت وسادتها. كان منظره تحت الوسادة مثيراً للضحك ومنفراً بنفس الوقت.

تأقلمت مع هذه الظاهرة الغريبة في منزلها، استطاعت دائماً خلق مبررات لاختفاء الأشياء وحجج مقنعة لعودتها، حتى جاء ذلك اليوم الذي اختفت فيه طفلتها الصغيرة.

مرت أيام عصيبة عليها، واجهت فيها الخوف والقلق والحزن. لم تترك مكاناً لم تبحث فيه، حتى داخل الدروج، وداخل الغسالة، العلية، كل مكان مهما بدا غريباً بحثت فيه.

 لم تعرف طعم النوم ولم تضع لقمة طعام في فمها كانت منهارةً تماماً، تلوم نفسها طوال الوقت على إهمالها وتقصيرها، حتى استدارت ذات يوم على إثر شد أحدهم لثوبها نحو الأسفل.

- ماما عماذا تبحثين أنا جائعة؟ قالت طفلتها.

ضمتها كثيراً وقطعت وعداً على نفسها ألّا تفارقها وأخوها لحظة أخرى في كل حياتها.

لكن الخوف سكن قلبها بعد تلك الحادثة، فلم يعد الأمر مسلياً، بل صار مثيراً للشك، فهي الآن بدأت الشك بعقلها وبإدراكها لما يجري حولها، كما أن الحديث بالأمر حتى مع نفسها، صار مخجلاً جداً.

هل هي تحت تأثير سحر ما؟ أو ربما لعنة؟

فكل شيء في منزلها تحت طائلة لعنة الاختفاء الغريبة هذه، زوجها الذي اختفى من حياتها فجأة، تاركاً وراءه المئات من الأسئلة والأجوبة التي تحتاج من ينسقها معاً.

لقد قضت الشهور الأولى بعد سفره تعد الأيام وتحصي الليالي، وتنتظره، تورم قلبها كما تورمت عيناها من البكاء، احتاجت فترة طويلة لتتأقلم مع وضعها الجديد، امرأة وحيدة، بقلب مريض وعينين دامعتين وطفلين صغيرين.

جمعتهم في البداية رسائل كثيرة، وحجج أكثر عن استحالة لمّ الشمل قريباً، وأن كل ما هو متاح لها الآن هو التأقلم، وأن ما ترويه عن حالتها النفسية السيئة ومشاعرها المتقلبة وخوفها من الفقد ليس أكثر من ضعف، عليها أن تعالجه بأن تصبح أكثر قوة وأكثر قدرة على الصبر والتحدي. مسألة وقت ويلتم شمل العائلة من جديد، ونحل قصة البعد تلك من جذورها، هذه العبارات هي آخر ما قاله قبل أن يختفي من حياتها فجأة.

كان صباحاً شتوياً عادياً، لكنها استغرقت بالنوم على غير عادتها، استيقظت على صوت صراخ طفليها ولعبهما، نزلت عن سريرها متذمرة، بدأت تحصي كل الأشياء التي عليها أن تفعلها، الأشياء التي تؤجلها كل يوم إلى يوم آخر تكون أقل انشغالاً، أحست أن كل ما يحيط بها لا يخصها ولا يعنيها، وأن هذه الحياة حياة امرأة أخرى لا تعرفها.

نظرت باتجاه المرآة لتلقي نظرة عابرة على شكلها، لكنها لم تر أي انعكاس لصورتها في المرآة، رجحت مباشرة أنها ما زالت مخدرة بسبب نومها لفترة طويلة.

غسلت وجهها نظرت في مرآة الحمام، لم تر أي انعكاس لصورتها، أيضاً، ركضت مذعورة باتجاه غرفة الطفلين، حاولت الحديث معهما، لمسهما، لكن لا جدوى، هما لا يريانها أبداً. الواضح أنها اختفت من حياتها فجأة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها