سردية الكتابة والمرأة في رواية

"يوميات روز" للإماراتية ريم الكمالي

عبدالله المتقي



تعتبر الكاتبة والباحثة ريم الكمالي، من الأصوات النسائية الإماراتية التي مارست فعل الكتابة، كشكل من أشكال التعبير الإنساني، ولا يخفى ما أضافته تجربتها في المجال الروائي من تنويع على المعنى والمبنى، ولا يسع القارئ المتتبع لمسيرتها الإبداعية سوى أن يستحضر روايتيها "تمثال دلما" الحائزة على جائزة الشارقة للإبداع، ورواية "سلطنة هرمز" الحاصلة على جائزة العويس للإبداع، ثم روايتها الأخيرة "يوميات روز" الصادرة عن دار الآداب ببيروت، والتي تقع في صفحة من القطع المتوسط، تزين غلافها لوحة دالة، وتشتمل على 88 نفساً روائياً متفاوت الأنفاس والأطوال.
 

والأهم من هذا، أن المنجز الروائي، جاء معززاً بجودة إبداعية في مسار الرواية الإماراتية النسائية التي بدأت تعرف حركية ملحوظة على مستوى الإنتاج والإبداع.
 

 في العنوان

من المعلوم أن العنوان "رسالة لغوية تحدد مضمونها، وتجذب القارئ إليها، وتغريه بقراءتها، وهو الظاهر الذي يدل على باطن النص ومحتواه"1، وهو أول ميثاق بين الكاتب والمتلقي، والمفتاح الأول الذي يلج بنا إلى مغاليق النص.

وعليه؛ فإن المقبل على الدفة الأولى لغلاف الرواية يلاحظ أن عنوانها جاء جملة اسمية مكونة من لفظتين: يوميات ثم روز، فاليوميات هي مَا يَحْدُثُ خِلاَلَ الْيَوْمِ وَمَا يُفَكِّرُ فِيهِ يُسَجَّلُ للِذِّكْرَى وَالتَّذْكِيرِ، أما "روز " فاسم علم الساردة وبطلة الرواية.

وفي حال ربط العنوان المركزي بالمحكي الروائي؛ فإن المقصود باليوميات هي تلك الكتابات المدونة لـ"روز"، هذا الاسم العلم الذي يعني الرزانة والتعقل.

وعطفاً على ما سبق، تفشي عتبة العنوان بنية الرواية، التي لن تكون سوى محكياً عن الكتابة والمرأة، فما الذي تحكيه رواية "يوميات روزة"؟ وما الجديد الذي جاءت به؟

 المتن الحكائي

تحكي الرواية "روزة" التي فقدت كلا من أبيها "عبدالله" وأمها "غاية " ليتكفل بها عمها، ويفرض عليها ترك بيت أخوالها ومتابعة دراستها وصديقاتها؛ لأن ابنة التجار الأثرياء لا يليق بها أن تذهب إلى دولة عربية وتكمل تحصيلها العلمي، كما لا يليق بها أن تقص شعرها أو ترتدي ملابس عصرية ولا تظهر وجهها، وحتى الرسائل المتوصل بها من صديقتها ممنوعة من قراءتها، والأكثر منه أن حتى اسمها لم يعد كما كان، وخسرت أيضاً حبيبها ولتتزوج في النهاية رجلا كهلا.

وهكذا، تتحول "روز" من فتاة طموحة وموهوبة، إلى أخرى صامتة أو هامسة دون أن ترفع صوتها، لا تجد ملاذها سوى في محراب الكتابة: "كنت امرأة كاتبة على الرغم من خضوعي لمن حولي" [ص: 218].

وبذلك تصبح الكتابة ملجأ ونافذة إغاثة تطل من خلالها على أحلامها، تدون ورؤاها بعيداً عن المنع وعيون الرقابة ليستمر معها فعل الكتابة، حتى وهي قلعة زوجها الكهل.

 سردية الكتابة

كانت الكتابة وما تزال، هي الطريق المثلى للتعبير عن الذات، والملاذ في وقت الضيق، والملجأ حين يتفاقم الوجع، والمآل الوحيد حيث لا مؤنس سواها في رحلة الألم والضجر والضيق، وهو ذات الملاذ الوحيد الذي التجأت إليه "روز" بطلة الرواية وفتح شهيتها للبوح.

وتبعاً لهذا، يحضر فعل الكتابة في كل الفصول وبشكل ملتفت من قبيل القاموس اللغوي: "يومياتي، أكتب، الكتابة، كتب، ملكة الأدب، التأليف، روايات، اكتبي، دونتها، الشعر، دفتري، لقصتي، النص، لكتبي، المفكرة...".

هذا الحضور المكثف لفعل الكتابة، لم يأت من فراغ أو سقط مظلياً على أرضيتها، بل موهبة واستعداد فطري، وهو ما يشهد به محيطها الأسري: "وأنا ما زلت في سنتي الثانوية الأولى، كنت أصحح لجدي قصائده وخطاباته" [ص: 15]، وأيضاً تشهد به تشريفها بـ"روزة ملكة الأدب" في المدرسة، وهي الموهوبة كما جاء في رسالة معلمتها "آبلة شريفة": "عزيزتي روزه، لم أتخيلك سوى شاعرة تؤلف لا من أجل القافية والوزن بقدر تأليفها لمنطوق جديد تزيلين عنه الإبهام" [ص: 106].

هكذا تغدو الكتابة لدى "روز" تعويضاً وتنفيساً عن الفراغ، وسلاحاً للمقاومة وعناداً يقطر منه الأمل ضد ما آلت إليه أمورها: "وليس لي سوى موهبتي في الكتابة، وهذا لن أسمح له بالصدأ، سوف أقاوم هذا الفراغ الذي وضعوني فيه" [ص: 92]. وتعزز الكتابة، لتبدع "روز" مجموعة من المقالات المدونات القصصية والنصوص، لكن يبقى هاجس المنع والخوف من الكتابة حاضراً: "منعتني الرهبة إلى إتلاف يومياتي من أجل النجاة بنفسي خشية اتهامي بالمس لما احتوته تلك اليوميات من كتابات وتفاصيل ملتوية عن كل ما رأيت" [ص: 7].

ولا شك أن هذه الشواهد النصية تتقاذفها ثنائيتان ضديتان تجسدهما المكاشفة والمحو، البوح والمنع، وتشي بغياب الوعي الاجتماعي إبان مرحلة تاريخية قديمة بلحمها ودمها، تحيل على زمن حركات الاستقلال وتداول فكرة القومية العربية وقبل قيام دولة الإمارات الحديثة، ومع ذلك يشكل المحكي الروائي نافذة إغاثة من هذا الوضع، ويبدو من خلال انتصار "روز" للنهضة الحديثة وللحلم بالعودة إلى الحلم، مسلحة بمواقف واختيارات جديدة بغاية ترميمه: "فياله من حلم، وليتني أعود إليه، وإن عدت، سوف أكتب لأكمل، أكتب لأسد الثقوب، أكتب فوق المزالق دون السقوط، أكتب بشجاعة، ولن أتخلص مما كتبت" [ص: 223].

 سردية المرأة

تتناول رواية "يوميات روزة" صورة المرأة الإماراتية الاجتماعية والثقافية بتنوع انشغالاتها وأصواتها، ما بين شخصيات رافضة وإشكالية: "تعاني من صراع داخلي عنيف نتيجة رغبتها العميقة في تأسيس قيم أصيلة"2، وشخصيات مندمجة "تبتهج بالحياة، وتعيشها بامتلاء دونما إحساس بشرخ في كينونتها"3.

وعليه، تتشكل صورة المرأة الرافضة من خلال المرأة الجديدة كما تجلت في البطلة والكاتبة "روز" وصديقتها "هند بنت سالم"، فمن خلالهما يتبين أن الرواية تعرض لهموم المرأة في مجتمع تقليدي لا يعطي قيمة اعتبارية للمرأة، وليس لديه أي تقبل اجتماعي لذاتها المبدعة، فـ"روز" عانت في أحضانه كثيراً من أشكال المنع والحصار والإلجام، لكنها تحدته وتجاوزت ثقوبه عبر فعل الكتابة الذي ارتضته لأحلامها وعنادها، ومن ثم، تغذية صورة المرأة كنبض للإبداع، وتتكرر هذه الصورة الرافضة في الكتابة الدؤوبة لليوميات والعودة إليها بعد كل محو وإتلاف.

كما تجلت في "هند" التي تتابع تعليمها العالي بإحدى جامعات بغداد، وفي طموحها الحالم، ويظهر هذا من خلال رسالتها لـ"روزة"، وحديثها عن الطالب والشاعر الذي تعلق بها ودعوته لها لحضور قراءاته الشعرية: "بعد أن أصبح معلقاً بحبال شعري الفلفلي الغزير، كاتباً كل ذلك على أوراق صغيرة ينظم أبياتاً قصيرة غزلية يعبر فيها عن جاذبيتي" [ص: 87]. أما الشخصيات المندمجة فتمثلها كل من جدة "روز" وزوجة عمها، فالجدة يكشف لنا الحكي عنها موغلة في عليائها وتقاليدها الموروثة البالية، وأدائها للدور الأقدم، نقرأ في الصفحة 57: "أنت محسودة يا ابنتي، تتثاءبين كثيراً، وأعتقد أن هذا ما يؤخر زواجك"، ونقرأ في نفس الصفحة: "اندلقت القهوة من الفنجان على ثوبي.

جدتي: خبر خير، فرحت لك، ثمة رزق بحجم ضئيل، فبقعة القهوة صغيرة"، في حين تبدو زوجة العم امرأة خانعة ومطيعة، ولا حرية لها لرفع صوتها أو الاحتجاج على دونيتها أو حتى الرد على الجدة حين تقزيمها وإهانتها، بل وتتقبل هذه الدونية بصمت ورضى وامتلاء.

هكذا نستشف من خلال ملامستنا لصورة المرأة أننا أمام جيلين، جيل قديم يشخص نفس التقاليد الموروثة ولا يقبل بتجاوزها، كما يشكل امتداداً لمجتمع الذكوري، وجيل ثان يحاول تمزيق هذه الشرنقة التي تضيق عليه أحلامه واستشرافه للمستقبل.

 تركيب

"يوميات روز" لريم الكمالي، منجز روائي بصيغة المؤنث، يجمع بين متعة الحكي وثراء المحكي، مما يفتح شهية القارئ لاستقبال أشجان وأحلام وطموحات شخصياته المتخيلة، والخارجة من جبة المجتمع الإماراتي في منتصف ستينيات القرن الماضي، وقبل قيام دولة الاتحاد في الإمارات.

وليس "روز" في مسك الختام، سوى صورة للمرأة الإماراتية المبدعة والطموحة والحالمة بقران لطيف بين الجمع المذكر والجمع المؤنث في أفق أكثر إشعاعاً وتنوعاً.

 


هوامش:  1 - بشرى البستاني، قراءات في الشعر الحديث، دار الكتاب العربي العربي، بيروت، ط 02،2001، ص: 34.2 - أحمد فرشوخ، جمالية النص الروائي مقاربة تحليلية لرواية " لعبة النسيان " دار الأمان، الرباط، ط 1996، ص: 69.3 - نفس المرجع، ص: 69.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها