جرجي زيدان.. التاريخ وصناعة الرواية

د. أحمد يحيى علي


يعد اسم علم الشخصية علامة تتكون من طرفين، دال: اسمها الظاهر الذي يعد أداة اتصالية بينها وبين فضائها.. ومدلول: يحتضن ما يمكن أن نسميه عطاءها الذي يمنحها حضورًا مميزًا ومؤثرًا بالنسبة إلى المعنيين بنشاطها.
ويعد جرجي زيدان اللبناني المولد مرجعاً بالنسبة إلى الرعية الثقافية العربية بالنظر إلى ما قدمه للسياق المعرفي لها من إسهامات فكرية تدل عليه، وتعكس مشروعه الثقافي الذي اتخذ أبعادًا عديدة، الحديث عنها يأتي تالياً لبطاقة تعريفية لا بد منها:
◅ الاسم: جرجي زيدان.
◅ الميلاد: في ديسمبر من العام 1861م.
◅ المكان: بيروت، لبنان.
◅ الأسرة: مسيحية، كان عائلها يمتلك مطعماً متواضعاً ينفق منه على عائلته.
◅ جرجي والمؤسسة التعليمية: كانت علاقة جرجي زيدان بالمؤسسة التعليمية متوترة، تنم عن شخصية قلقة لا تعرف استقرارًا في المكان؛ فما إن يلتحق بمدرسة حتى يغادرها.. وبقي هذا الأمر معه لحقبة زمنية ليست بالقصيرة، لكن الشيء الذي بقي ثابتاً معه طيلة حياته حبه للقراءة والاطلاع، خصوصاً للمصادر العربية في مجالات اللغة والأدب والتاريخ، يعززها تمكنه من اللغات: الإنجليزية، والفرنسية، ومعهما العبرية والسريانية.
◅ الوفاة: 1914م1.

أيقونة شامية في القرن التاسع عشر

هناك عناوين عدة يمكن أن نعرف هذا الرجل من خلالها:
- جرجي زيدان والصحافة.
- جرجي زيدان وحقل التأليف في مجال التاريخ.
- جرجي زيدان وحقل الرواية التاريخية.
- جرجي زيدان بوصفه شامياً يسهم مع نظرائه في إثراء الحياة الثقافية العربية.

وعن الصلة بين جرجي زيدان وحقل التاريخ؛ فإن معالجتها تبدأ بأول دراسة أعدها حول فقة اللغة المقارن، وتحمل عنوان: "فلسفة اللغة العربية"، صدرت في العام 1886م، من هذه المعالجة التي تتصل بلهجات العربية منذ القدم، وعلاقة أنساقها الأدائية (الاستخدام اللغوي) بغيرها من اللغات القريبة، يتطور تناول زيدان ليمنح لحقل التاريخ مساحة أفقية في أنشطته التأليفية تتحدد بهذه العناوين:
- تاريخ التمدن الإسلامي، الذي ظهر في خمسة أجزاء مطلع القرن العشرين.
- تاريخ اليونان والرومان.
- طبقات الأمم.
- تاريخ آداب اللغة العربية، الذي صدر في أربعة أجزاء مطلع القرن العشرين، الذي يعد من المراجع المهمة للمشتغلين بالأدب العربي، وكانت بداياته عبارة عن فصول نشرت منجمة في مجلة الهلال في السنة الثالثة من ظهورها؛ أي في 1894م.

والحديث عن هذا المرجع لزيدان يجعل من هذا الرجل مشتركاً ثقافياً – بالإفادة من مصطلح المشترك اللفظي في الدرس الدلالي للغة – إذ؛ إن دراسة الأدب العربي مرتبطاً بعصوره الزمنية المتتالية بدءاً من العصر الجاهلي وما تلاه.. يأخذنا من جرجي زيدان إلى:
- المستشرق الألماني كارل بروكلمان، صاحب "تاريخ الأدب العربي".
- مصطفى صادق الرافعي، صاحب "تاريخ آداب العرب".
- شوقي ضيف، صاحب "تاريخ الأدب العربي"2.

إذن؛ فإن جرجي زيدان من هذه الناحية يعد حلقة في سلسلة، أو حبة في عقد، أو عضوًا في أسرة تمرس أصحابها في هذا الحقل، تماماً كما كان حاله بالنظر إلى نشاطه في عالم الصحافة.

أما عن جرجي زيدان والسرد الروائي التاريخي؛ فإن تناوله يحيل إلى رائد أوروبي أسس له في اسكتلندا، ألا وهو الأديب والتر سكوت مؤسس الاتجاه التاريخي في كتابة الرواية، الذي يقوم على إحياء مرحلة تاريخية لم يعد لها وجود وبعثها من جديد من خلال شخصيات ذات شهرة، وشخصيات موضوعة متخيلة يبتكرها الكاتب ويحملها بما يراه.

وقد استهل زيدان نشاطه السردي في هذا الحقل بـ"المملوك الشارد" 1891م، ثم تتابعت أعماله وجاء معظمها معالجاً لفترات في التاريخ العربي الإسلامي، مثل "أرمانوسة المصرية"، "الحجاج بن يوسف"، "العباسة أخت الرشيد"، "الأمين والمأمون"، "أحمد بن طولون"... وغيرها3.

والاقتراب من جرجي زيدان في هذا الجانب يأخذنا إلى أسرة كان لأبنائها باع في هذه المعالجة التاريخية المشحونة بالخيال، مثل:
- محمد فريد أبو حديد، صاحب "ابنة المملوك".
- علي الجارم، صاحب "فارس بني حمدان"، و"شاعر ملك"، ويعالج في هذه الأخيرة سيرة المعتمد بن عباد الأندلسي حاكم إشبيلية.
- علي أحمد باكثير، صاحب "وا إسلاماه" التي يعالج فيها انتصار المسلمين على التتار/المغول في معركة عين جالوت، في رمضان 658هـ.
- عبد الحميد جودة السحار، صاحب "محمد رسول الله".

وما من شك في أن هذا البعد المميز للرواية التاريخية الذي يجعلها مزيجاً بين الحقيقة من جانب والخيال من جانب آخر يسافر بنا إلى الجذر التراثي العربي الذي يمكن القول: إن منه خرج هذا اللون الأدبي في عصرنا الحديث، ألا وهو الخبر القصصي الذي يعد القوام البنائي لعدد ليس بالقليل من المصنفات التراثية العربية التي اتخذت من الحكي مادة لها؛ فالخبر القصصي الذي يتكون من سلسلة سند، ونص للمتن يحمل هذا البعد المزجي بين ما هو حقيقي وما هو متخيل يبرهن على ذلك جملة السند التي تأتي في أوله، وكأن صاحبه يقدم مستنداً يؤكد به على مرجعية مادته بغض النظر عن تدخل مخيلته القاصة في صياغة محتوى ما يعرضه4، نلمح هذا النهج المميز عند عدد من التراثيين العرب، مثل:
- عبيد بن شريه الجرهمي، صاحب "أخبار ملوك اليمن وأشعارها".
- وهب بن منبه، صاحب "التيجان".
- الجاحظ، صاحب "البخلاء".
- الأصفهاني، صاحب "الأغاني".
- ابن قتيبة، صاحب "عيون الأخبار".
- التنوخي، صاحب "نشوار المحاضرة".
- ابن منقذ، صاحب "الاعتبار"5.

إذن؛ فنحن أمام أسرة ثالثة ينتمي إليها معرفياً جرجي زيدان تنضاف إلى الأسرتين السابقتين، أسرة الصحافة، وأسرة المهتمين بحقل التاريخ المحض.

أخيراً: جرجي زيدان بوصفه شامياً أسهم مع نظراء له في إثراء الحياة الثقافية العربية، إن القرن التاسع عشر على وجه التحديد يمثل قرن النهضة بالنسبة إلى الأدب العربي الحديث، وقد كان للعنصر الشامي الذي أتاحت له أسفاره في داخل عدد من بلدان عالمنا العربي، وفي خارجه، إلى فرنسا وإنجلترا على سبيل المثال حضور في مجال فني أدبي يميز الحقبة الحديثة في أدبنا العربي، ألا وهو فن المسرح الذي شهد نشأة وازدهاراً على يد رفقاء لزيدان، هما يعقوب صنوع ومارون النقاش.

نخلص من هذا إلى القول بأننا؛ بصدد شخصية مفتاحية إحالية، تُعد بمثابة مشترك ثقافي يأخذنا من فضائها الخاص إلى فضاءات معرفية تمت لها بصلة، في إطار بنية عنقودية تتكون من عدد من الحقول الفكرية التي يستحق كل واحد منها درساً رأسياً مفصلاً يستقصي جُل جزئياته.

 


مراجع المقالة: 1. د. أحمد يحيى علي وآخرون، أعلام القصة العربية، الجزء الأول، الطبعة الأولى، 2014م، مكتبة الآداب، القاهرة.┋2. انظر: السابق.┋3. د. محمد عبد الحليم عبد الله، الواقعية في الرواية العربية، طبعة 2005م، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.┋4. د. أحمد يحيى علي، سيرة الجماعة العربية في القصة التراثية، الطبعة الأولى، 2018م، مؤسسة الوراق للنشر، عمان.┋5. د. سيد محمد السيد، بناء الخبر والحكاية، إصدار 1993م، مطبوعات جامعة عين شمس، القاهرة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها