عاشت الشعرية العربية مرحلة من الانحطاط والتردي، فعملت مدرسة البعث مع البارودي وحافظ والجواهري على انتشالها من المأزق التاريخي الذي ظلت تتخبط فيه، فكانت العودة إلى التراث القديم معجماً وصورة من الأدوات الفنية التي وظفتها مدرسة البعث والإحياء، مستدعية مجد القديم وما فيه من روح نابضة استطاعت أن تعيد للقصيدة العربية شيئاً من بريقها المفقود، فاستطاع المتن الشعري أن يعبر عن واقع الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية، دون أن يقتحم باطن الذات الشاعرة التي حملت نفسها مسؤولية التعبير عن روح الجماعة في منطوقها القومي والشعبي، ما جعل شعراء الرومانسية يتخطون هذا التصور الشعري في اتجاه التعبير عن الذات معتبرين أن الشعر وسيلة لنقل الأحاسيس المختلجة في الباطن الإنساني، وأنه طريق للإفصاح عما يجيش في وجدان الشاعر، فتشكلت رؤية فلسفية جديدة أرست الرومانتيكية قواعدها الجمالية والفنية، فتحول الشاعر العربي متأثراً برومانتيكية الغرب في شخص روادها الكبار كبودلير وغارسيا لوركا، وبابلو نيرودا وشيللي، وورزودت وكوليريدج وغيرهم ممن جعلوا الشعر طقساً للتعبير عن الذات، فتشكلت مدرسة شعرية كبيرة في العالم العربي، تفرعت إلى فروعها الثلاثة، وهي مدرسة أبولو والديوان والمهجر، وكان لها جميعها نفس التوجه الفلسفي مع بعض التباين في الإخراج الفني للمتن الشعري.
الاتجاه الرومانسي الجذور والفلسفة:
رأى الرومانسيون أن الشعر ينبع من الشعور، لذا يلزم أن يرتبط بوجدان الشاعر وفلسفته في الوجود، معتبرين أن العاطفة هي منبع التجربة الجمالية لذا كانت الرومانسية رد فعل عنيف يخالف الاتجاه العقلاني الذي ساد لقرون في الغرب، مما ضيق الخناق على الملكة الإبداعية لذا آمنت الرومانسية بأهمية المشاعر الذاتية أو الحدوس في فهم الواقع والوجود الذي لا يتأتى في منظورها إلا من الباطن، ولا بد أن الجذور الفلسفية التي ضربت في عمق التربة الغربية متخطية حدود الكلاسيكية العقلانية التي سادت في أوروبا زمن العقل الذي عد جوهراً منذ عقلانية أفلاطون إلى ديكارت، ثم أداة ينبغي أن تفهم من حيث الاشتغال في جواب عن سؤال (كيف يعقل العقل) مع كانط؟ ورد الفعل العنيف ضد التجريبية مع دافيد هيوم وجون لوك، والوضعية مع أوغست كونت، مستفيدة من السياقات التاريخية الجديدة التي غذتها حركة التنوير مع جان جاك روسو وديدرو وفولتير ومونتسكيو، وما أحدثه فيلسوف الرومانسية الألماني فريديرش شليجل من تجديد فلسفي أقام رؤية مغايرة لفهم الوجود من خلال الذات معتبراً أن النظر إلى الطبيعة غير ذي جدوى لأنه لا ينقل الحقيقة التي تفهم من خلال تفاعل التجربة مع الذات، مما جعل الرومانسية تمتد لمعانقة مختلف أنماط الفنون من أدب وموسيقى وتشكيل وغيرها، فنظرت إلى الأعراف نظرة إعظام لا كقوانين قديمة متآكلة، كما فعلت العقلانية وجعلت من الخيال سلطة عليا، فاستطاعت الرومانسية أن تسيج فلسفتها من التصور العقلاني الذي آمن أن العقل وحده هو الطريق للحقيقة في حين اعتبرت الرومانسية الفن بمختلف أنواعه الوسيلة المثلى لبلوغ الحقيقة؛ لأن الطريق المخفي يتجه نحو الداخل كما قال بذلك الفيلسوف الألماني "نوفاليس"، فأخرج الرومانسيون الشعر من دائرة الجماعة، وتحرروا من ربقة النزوع القومي والاجتماعي الذي تجلى كثيراً في شعر الكلاسيكيين فاسحين المجال للخيال والعواطف، ما يمنح المبدع مساحات جمالية أوسع للتعبير لا خارج أسوار الوزن؛ وإنما خارج أسوار الموضوع الشعري الذي غدا أكثر تحرراً، لأنه نتاج للتفاعل مع الوجود الكاسر للقيود، ولا يعني -البتة- أن الرومانسيين أحدثوا قطيعة مع الواقع؛ وإنما تفاعلوا معه بصورة تنطلق من الذات التي تمتص التجربة، وتعيد تركيبها برؤية وجودية تعكس تفاعل الذات مع الواقع في المتن الشعري.
جبران واختراق الحدود:
وسط هذا الزخم الشعري المشحون بفلسفة جديدة، كان جبران خليل جبران رائد مدرسة المهجر الأمريكي، يمتلك وعياً حداثياً أكبر من غيره، ظهر بجلاء لا في فلسفته الوجودية فحسب؛ وإنما في أنساقه التعبيرية وأبنيته اللغوية التي اخترقت حدود المألوف التعبيري عند غيره من الرومانسيين، فتشكل معمار فني جديد في الكتابة استطاع أن يلغي الحدود بين النثر والشعر، حيث ظهر المتخيل الشعري في منثوره واضحاً ليتم عصره في قصيدته "المواكب"، ويصهر فيها كل فلسفاته التي احتضنتها أعماله النثرية بدءاً من "دمعة وابتسامة" إلى رائعة "النبي"؛ إن جبران وهو يشيد عالمه اللغوي المتفرد الذي أعلن عنه بقوله: "لكم لغتكم عجوزاً مقعدة، ولي لغتي صبية غارقة في بحر من أحلام شبابها، وماذا عسى أن تصير إليه لغتكم، وما أودعتموه لغتكم عندما يرفع الستار عن عجوزكم وصبيتي؟ أقول لكم إن لغتكم ستصير إلى اللاشيء.
أقول إن السراج الذي جف زيته لن يضيء طويلًا.
أقول إن الحياة لا تتراجع إلى الوراء.
أقول إن خشب النعوش لا يزهر ولا يثمر.
أقول لكم إن ما تحسبونه بياناً ليس بأكثر من عقم مزركش وسخافة مكلسة.
أقول لكم إن النظم والنثر عاطفة وفكر، وما زاد على ذلك فخيوط واهية وأسلاك متقطعة1.
لقد أبان جبران عن وعي جمالي وفني للمعمار اللغوي باعتباره الأداة التي تشيد العالم والمضمار الذي يرسي معالم حداثية تتجاوز الأنساق المألوفة الميتة، إنه ببساطة أراد أن يبني عالماً لغوياً جديداً ينبض بالحياة ما دام أنه ينبع من الوجدان، ويسمح للخيال المجنح بالانعتاق بعيداً في كل الأنحاء، ومن هذا الوعي بقيمة اللغة كأساس لا محيد للحداثة عنها، استطاع جبران في قصائد النثر ومقطوعاته وشعره أن يشيد متناً لغوياً فريداً من نوعه، ملغياً الفواصل بين النثر والشعر، في تأكيد على أن البلاغة والبيان لا تتحدد في واحد دون الآخر، وإن كان المذهب الأدبي يرجح مكمن البلاغة في النثر أكثر من الشعر؛ فإن جبران مزق الحدود بين البلاغتين ونحن نعلم أن قاعدة الفصل بين النثر والشعر عبر التاريخ الأدبي تعد مسألة جمالية في حقل الأدب، مع ما حظي به الخطاب الشعري من مركزية دالة في الثقافة العربية رغم مجاورته للنثر بمختلف تشكيلاته الفنية فعد كما هو معلوم ديوان العرب، وظل نفس التصور الذي أرْسته المفكرة الثقافية ساري المفعول في العصر الحديث، فمنح الشعر هالة من التفوق والتقديم على النثر، فالناظر مثلًا في مبايعة شوقي سيجد أن شوقي بويع بإمارة الشعر، وإن كان النثر جزءاً من منتجه الإبداعي في أسواق الذهب وفي مسرحياته، حتى إن كتابة الشعر في العرف الأدبي امتازت عن الإتيان بالنثر من حيث الصناعة والقريحة، فهي محاطة بنوع من الرعاية الإلهية والتوفيق الرباني أكثر من كتابة المنثور، هذا التصور ظل موجوداً في أذهان كثير من الناس فوهب الشعر والشاعر ما لم يحظ به النثر والناثر، ومن هذه التصورات حمل جبران برؤية الفنان المرهف والفيلسوف البصير والناقد المحلل على عاتقه مسؤولية جسيمة شق فيها الطريق نحو إرساء معالم الحداثة الشعرية من بوابة اللغة، باعتبارها جوهراً للحداثة الأدبية تتغيى تحطيم الأنساق التقليدية.
إلغاء مركزية الشعر عند جبران:
تمكن جبران من إلغاء مفهوم المركزية التي حظي بها الخطاب الشعري منذ التاريخ في الثقافة العربية عبر صهره الشعرية في المتن النثري الذي توالف فيه الخطابان معاً وانصهرا فيه داخل بوتقة لغوية واحدة يستشعرها قارئ جبران في كل أعماله بلا استثناء، فالمتخيل الشعري عنده كان شديد التحليق في عوالم لم تتحقق لغيره من الرومانسيين، أسعفه في ذلك حسه الفني مجسداً في الرسم، وولعه بالموسيقى والتهامه النهم لأشعار الغربيين الرومانتكيين بدرجات أكبر، وبذلك تشكلت القصيدة المنثورة بأسلوبية فريدة يقول جبران: "وعظتني نفسي فعلمتني أن أشرب مما لا يعصر، ولا يسكب، بكؤوس لا ترفع بالأيدي، ولا تلمس بالشفاه وقبل أن تعظني نفسي، كان عطشي شرارة ضئيلة في رابية من رماد، أخمدها بغبة من الغدير، أو برشفة من جرن المعصرة، أما الآن فقد صار شوقي كأسي، وغلتي شرابي، ووحدتي نشوتي، وأنا لا ولن أرتوي ولكن في هذه الحرقة التي لا تنطفئ مسرة لا تزول"2. فالناظر في مثل هذا الأسلوب سيلمس سيلًا جارفاً من ماء الشعرية تتدفق عبر كل تعبير، وفي نفس كل وقفة بما يجعل النثر شعراً والشعر نثراً، يقول جبران:
"ماذا تريدون مني يا بني أمي؟ أتريدون أن أبني لكم من المواعيد الفارغة قصوراً مزخرفة بالكلام، وهياكل مسقوفة بالأحلام، أم تريدون أن أهدم ما بناه الكاذبون والجبناء، وأنقض ما رفعه المراؤون والخبثاء. ماذا تريدون مني يا بني أمي؟ أأهدل مثل الحمام لأرضيكم أم أزمجر كالأسد لأرضي نفسي"3؟ إنها صور قائمة على البيان العربي بصنوفه مجازاً واستعارة وتشبيهاً، وهذه كلها أدوات الشعر بها ينزاح الكلام ويتخطى لغة الخطاب المألوف في سياقاته المعتادة الموسومة بالوضوح، ومثل هذه التعابير تتردد كثيراً في كل أعمال جبران يقول: "إن الله قد بعث أرواحكم في هذه الحياة كشعلات مضيئة تنمو بالمعرفة، وتزيد جمالًا باستطلاعها خفايا الأيام والليالي، فكيف تلحقونها بالرماد لتبيد وتنطفئ؟ إن الله قد وهب نفوسكم أجنحة لتطير بها سابحة في فضاء الحب والحرية، فلماذا تجزونها بأيديكم وتدبون كالحشرات على أديم الارض"4؟
إن الأمثلة التي سقناها تمثل شريحة مصغرة من مجموع الأنساق التعبيرية التي تحطمت فيها جدران النثر والشعر، واتحدا معاً في نفس البناء ليمكن هذا الإلغاء من إرساء معلم حداثي جديد سيظهر أثره في قصيدة المواكب التي ستشيد بنيانها وفق نظام مقطعي اخترق شيئاً من نظام الخليل، الذي أعلن جبران نفسه أنه رافض لمقاييسه حين قال: "لو تخيل الخليل أن الأوزان التي نظم عقودها، وأحكم أوصالها ستصير مقياساً لفضلات القرائح وخيوطاً تعلق عليها أصداف الأفكار لنثر تلك العقود وفصم عرى تلك الأوصال"5، ذلك أن بنية المواكب تأسست عددياً على تسعة عشر مقطعاً، ومعلوم أن المقطع كنموذج أدبي منفصل بشكل كلي عن العالم المحيط به، وكأنه لوحة فنية مصغرة تنتظم داخل المعمار الفني الكلي شكل القلب النابض للرومانسية الغربية، خاصة لدى ما يعرف بجماعة "يِينّا" الذين ارتبط اسمهم بالنظام المقطعي في الكتابة، مما يجعل المقطع نفسه الصنف الرومانسي بامتياز.
المقطع جسر إلى الحداثة الشعرية:
من طبيعة التحول أنه لا يتسم بطابع الفجأة؛ وإنما يحتاج إلى تعبيد الطريق وتهيئة، وهذا نفسه ما حصل مع الحداثة الشعرية، إذْ كانت محتاجة ما بين الكلاسيكية التي متحت من روح التراث العربي القديم، وأعادت نسجه وتركيبه في بنيتها الشعرية، والوصول إلى اختراق حدود النسق التقليدي الذي دأبت عليه الشعرية العربية لقرون طويلة رغم ما عراها من محاولات تحديثية أفرزتها سياقات تاريخية جديدة، كظهور المخمسات والمربعات والمسمطات وأبنية الموشحات لدى أهل الأندلس؛ فإن النظام العمودي والوزن الخليلي ظل سائداً في الشعرية العربية إلى أن اتخذ الشعر العربي مساراً جديداً له في سياق المعاصرة بتحولاتها التي أنتجتها روافد متعددة وعوامل مؤثرة، أخذت الشاعر العربي إلى مسلك جديد يصد عن التقليد الشعري واضعاً لبنات الحداثة الشعرية بشكل رسمي في التاريخ الشعري العربي، ولم يكن ذلك ليتحقق لولا ما صنعته الرومانسية العربية من تجديدات اخترقت فيها النظم البنائية للقصيدة العربية، قائمة على نظام المقاطع والمزج بين البحور والتخلي نسبياً عن وحدة الروي، ليجد الشاعر العربي نفسه متحرراً إلى حدود معينة من ربقة القواعد التي يفرضها نظام الخليل، مثلما فعلت المواكب المكونة من مئتي وثلاثة أبيات انتظمت في تسعة عشر مقطعاً، تراوح الوزن الشعري فيها بين البسيط ومجزوء الرمل لتعصر كل فلسفة جبران في الحياة، وتقطر أعماله النثرية جميعها في صناعة شعرية بديعة دلت على الإلغاء الفعلي للحدود الفاصلة بين الشعر والنثر.
لقد شكل النظام المقطعي جمالية جديدة في الشعرية العربية خلقت مفهوماً جديداً للشعر يتجاوز حدود كونه وزناً منتظماً، وفق عروض نمطي سابق على الإبداع كشأن النحو بالنسبة للسان، وإنما تشكلت رؤية جديدة للشعر تقوم على مفهوم الإيقاع الذي يكبر الوزن والعروض يقول هنري ميشونيك: "إن الإيقاع أهم بكثير في اللغة من أن نتركه للعروض"6، وعلى مفهوم الخيال الذي تغيرت نظرة الشاعر الرومانسي إليه معتبراً أن الشاعر القديم لم يكن له نصيب من خيال، وأن هذا الأخير ضروري للإنسان ولا غنى له عنه يقول الشابي: "إن الخيال ضروري للإنسان لا بد منه ولا غنية له عنه، ضروري كالنور والهواء والماء والسماء ضروري لروح الإنسان وقلبه، ولعقله ولشعوره، ما دامت الحياة حياة والإنسان إنساناً"7، مما يجعل الجدار بين النثر والشعر مهدما مثلما يتهدم عن طريق إلغاء أدوات البيان من تشبيهات واستعارات ومجازات وكنايات، شكلت الأسس الجمالية للمتن الشعري في القديم، تصير الآن بهذا التصور الجديد للشعر خارج أسواره؛ لأنه صار كياناً خارج العروض وأشكال البيان، وهما معياران كان الشعر يقاس بهما في الذائقة الشعرية التراثية.
لقد استطاعت الرومانسية العربية أن تبني رؤية جديدة من العالم وتحقق وجودها الجمالي الذي تلقاه القارئ العربي بشغف، مدركاً أن هذا التيار وهو يشكل مرحلة حاسمة من تاريخ الشعرية العربية استطاع أن يستجيب لطموحات النفس الإنسانية، ويحقق رغبة فنية تذوقها الجمهور العربي بشغف شديد، وترسي دعامات التحديث التي كان القارئ العربي في أمس الحاجة إليها معبدة الطريق نحو خوض مغامرات شعرية جديدة، ما دام أن النظام المقطعي شكل بداية التمرد على كلاسيكية الشعر العربي التي ظلت جاثمة في ذائقة المتلقي لقرون طويلة.
الهوامش: 1. محمد محمد حسين: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، مؤسسة الرسالة، ط: 6 بيروت 1983، ص: 275.┋2. جبران خليل جبران: البدائع والطرائف، دار الأندلس بيروت د.ت، ص: 23.┋3. جبران خليل جبران: العواصف، دار إحياء العلوم - الدار البيضاء، ط: 1، سنة 2000، ص: 43.┋4. جبران: الأرواح المتمردة، دار الجيل بيروت، ضبط وشرح ومداخلة سامي ج. الخوري ط: 2005.┋5. جبران: دمعة وابتسامة المجموعة الكاملة العربية، دار صادر بيروت د.ت، ص: 286.┋6.Henri Mechonnic.Critique du rythme,op, cit.p 521
7. أبو القاسم الشابي الأعمال الكاملة م.س ج1، الخيال الشعري عند العرب، ص: 121.