قصصُ الخَيال العلميّ الموجَّهة للطِّفل

بين المضمون العلمي والخِطاب الأدبي

عبد المجيد إبراهيم قاسم


لقد مرَّ تاريخ تطور أدب الخيال العلميّ بمراحل عدّة، بدءاً بظهور بعض التجارِب التي شكَّلت إرهاصاته الأولى؛ إذ يشير بعض الباحثين والنقّاد إلى رواية: «صومنيوم» لعالم الفلك الفرنسي يوهانز كيبلر عام 1634، كأول رواية للخيال العلمي، تدور أحداثها حول شخص ينتقل إلى القمر بطريقة غامضة. كما يقف النقّاد أمام الرحلتين الخياليتين اللتين وضعهما سيرانو دو بيرجيراك، والمعنونتين بـ«التاريخ الكوميدي لدول القمر وإمبراطورياته» عام 1657، و«التاريخ الكوميدي لدول الشمس وإمبراطورياتها» عام 1662.
 


أشهر نماذج أدب الخيال العلمي

يعدُّ العبقري الفرنسي جول فيرن (1828-1905) من أهم روّاد الكتابة في الخيال العلمي على الإطلاق، حيث أسَّس لهذا النوع الأدبي، وأعطاه المعنى والشكل الحقيقيين، وأصدر الكثير من الأعمال التي مزج فيها بين العلم والخيال. بدأت أولى أعماله التي اتسمت بالخيال المجنح وتغليب المنطق العلمي؛ برواية «خمسة أسابيع في منطاد» سنة 1863، ثم «رحلة إلى جوف الأرض» سنة 1864 وبعدها كتب رائعته «من الأرض إلى القمر» 1865، ليدوّن بها علامة فارقة في تاريخ هذا الأدب. ومن أعماله الأخرى «عشرون ألف فرسخ تحت الماء» سنة 1870، ثم رواية «هكتور سيرفاداك» سنة 1877 التي تتحدَّث عن مذنب يقتطع جزءاً من الأرض، يرافقه في رحلته حول الشمس. ثم كتب آخر رواياته «سيد العالم» سنة 1904. إضافةً للعشرات من المؤلَّفات الأخرى. ولعلّي أجتهد بالقول: إن أسلوب فيرن في كتابة أدب الخيال العلمي كان الأقرب إلى الأطفال بالمقارنة مع كتّابه الآخرين.

 بعد جول فيرن يلمع اسم الكاتب الإنكليزي هربرت جورج ويلز (1866-1946) الذي وصفه النقّاد بشكسبير الخيال العلمي. كتب أولى رواياته «آلة الزمن» عام 1895 التي تعدُّ من أهم روايات الخيال العلمي، وتدور أحداثها حول مستقبل البشرية، إذ يتخيَّل فيها أن بطلها صنع آلة يستطيع القفز خلالها فوق الزمن، فيعود إلى الماضي أو يخترق المستقبل البعيد، بحسب الجهة التي يدير بها العجلة. ثم يعقبها برواية «حرب العوالم» سنة 1898 ثم رواية «رجال القمر الأوائل» في عام 1901، وبعدها كتب رواية «اليوتوبية الجديدة» سنة 1905، وغيرها من الأعمال الشهيرة في هذا المجال.

خلال النصف الثاني من القرن العشرين انتشر الخيال العلمي في بعض الدول، وتقدَّم تقدماً كبيراً، حتى وصف بمرحلة النهوض والنّضج والازدهار، وعاش بالعموم عصراً ذهبياً بامتياز. والتمعت في هذا المجال أسماء عدّة أدباء وسينمائيين، كان لكتاباتهم وأعمالهم تأثيراً في تطوّر هذا الفنِّ برمته، ومن أبرز كتّاب هذه المرحلة: إسحاق أزيموف (1920- 1992) الروسي المولد، والأمريكي الجنسية والدراسة والإبداع.. الذي حظي بمكانة مرموقة بين كتّاب الخيال العلمي. وقد حصل على درجات علمية عالية، وعمل كيميائياً في البحرية الأمريكية أثناء الحرب العالمية الثانية، وكان عضواً في هيئة التدريس بكلية الطب بجامعة بوسطن، عام 1949.

كتب أزيموف عشرات الكتب للكبار والأطفال، تركَّزت معظمها على علوم المستقبل، وكان أغلب أبطال قصصه ورواياته أشخاصٌ آليون. ولعل أشهر ما كتب: «أنا الإنسان الآلي» 1950. كما أن له نتاجاتٍ كثيرةً في هذا المجال، اختار لها اسم الأسس، ومن هذه المجموعة: «الأسس» 1951، «الأسس والإمبراطورية» 1952، «أطراف الأسس» 1982، «الأسس والأرض» 1986. هكذا حتى بات الخيال العلمي يفرض نفسه على النماذج الأدبية يوماً بعد يوم، وبشكل خاص النماذج الموجّهة للأطفال، مستفيداً من الثورة الرقمية والتطوّر العلمي والتكنولوجي المتلاحق في العالم، وأصبح يلقى إقبالاً كبيراً من قِبل جموع الأطفال، ويحظى بمكانة أثيرة في نفوسهم؛ لأنه استطاع بالفعل أن يستثمر فيهم خصائص عدّة، ويجيب عن الكثير من تساؤلاتهم في الإنسان والطبيعة والكون.

قصص الخيال العلمي للأطفال وأهدافها

بدايةً علينا أن نتساءل عن ماهية الخيال وطبيعة الطفل وسيكولوجيته، وعليه يمكننا القول: على الرغم من أن الخيال يعدُّ خصيصة إنسانية صرفة، إلا أن البشر يختلفون كثيراً في درجة تخيُّلهم، فالتخيّل عند الطفل يشغل حيّزاً كبيراً في نشاطه العقلي منذ السنوات الأولى من عمره، وهو يتخيّل وقائع وحوادث، ويقوم الكثير من أفكاره وألعابه وآماله على الخيال، حسبما يذهب إليه العلماء والدارسون. لذلك؛ فإن الخيال يتميّز بأهمية كبيرة في بناء شخصية الطفل وتطويرها، ويمثّل حاجة ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها.

إن القصة الطفلية: فنٌّ من أرقى الفنون الإبداعية، تقوم على مجموعة من الحوادث المترابطة، تدور في بيئة زمانية وبيئة مكانية، وهي وسيلة تربوية تعليمية محببَّة للأطفال، تهدف إلى إثراء خبراتهم، وتنمّية مهاراتهم، وإكسابهم القيم والاتجاهات الإيجابية. ويُعدُّ هذا الفنّ أبرز فنون أدب الأطفال، وأكثر أنواعه انتشاراً. وتشتمل قصص الأطفال على أنواعٍ عدة، منها: الحكايات، القصص التراثية، قصص الحيوان، قصص السِير، قصص البطولة والمغامرة، قصص الخيال العلمي، قصص الخيال التاريخي، قصص الفكاهة، القصص الدينية، القصص الاجتماعية، وغيرها.

تدور قصص الخيال العلمي كنوع بارز من أنواع الكتابة القصصيّة للأطفال، وأكثرها تشويقاً لهم، حول التنبؤ بما يمكن للإنسان أن يصل إليه من الاختراعات والاكتشافات العلمية، في ضوء التقدّم العلمي والمعرفي الذي وصل إليه، عبر اقتراح فروض خيالية عن مستقبله، لذلك فإن هذا النوع من القصص وثيق الصلة بالتطوّر السريع الذي نشهده في العالم اليوم. كما تدور أيضاً حول البيئات الطبيعية وطبيعة الإنسان نفسه والكون بمجراته وظواهره.

من أهم الأهداف التي تسعى إليها قصص الخيال العلمي للأطفال: تنمية التفكير العلمي لدى جمهورها، وإطلاق قدراتهم المختلفة إلى آفاق واسعة، وإكسابهم المهارات الأساسية التي تساعدهم في التفكير الحرّ المنظَّم، من خلال تقديم منهج يطرح المفاهيم العلمية المتطوِّرة، ويجعل الثقافة العلمية أسلوباً في حياتهم، وذلك بهدف تأهيلهم لعالم المستقبل، وما يمكن أن يحمله من التطوّرات والإنجازات المحتملة على الصعد كافة.

يقول د. هادي الهيتي، في كتابه القيِّم ثقافة الأطفال(1): (تهيئ بعض قصص الخيال العلمي نشر حقائق علمية بأسلوب فيه كثير من جوانب التجسيد الفني، ونشر أفكار مختلفة عن صور المستقبل. ومع هذا فإن هدف هذه القصص ليس إيصال المعلومات إلى الأطفال، بل إشباع مخيلاتهم ودفع عقولهم إلى التفكير في آفاق أكثر سِعة. لذا؛ تعد تنمية قدرة الطفل على التخيّل والتأمّل والمرونة أحد أهداف هذه القصص.)

مميِّزات قصص الخيال العلمي للأطفال

من المهم الإشارة إليه، هو الفصل بين قصص الخيال العلمي التي تعتمد على الحقائق والنظريات العلمية، وإمكاناتها الحالية والمستقبلية في ضوء الاحتمالات العلمية الممكنة، وبين القصص الخيالية التي تستند إلى الخرافة والغيبيات البعيدة عن المنطق العلمي، والأحداث التي لا يمكن تحقيقها، كما في الأسطورة أو الملحمة أو الفانتازيا، أو القصص القائمة على السحر والعلاقات غير المنطقية، والقوى الخارقة للطبيعة.. وهذه كلها لا يمكن تصنيفها كقصص خيال علمي؛ وإنّما مع قصص الخيال التاريخية، أو قصص الأسطورة أو قصص المغامرات والبطولة والشجاعة، أو حسب مضمونه الغالب.

يقول د. راشد علي عيسى(2): (ممّا يؤسف له أنْ نجد طائفة من كُتّاب النصوص العلميّة يشطحون بنصوصهم إلى اللامعقول، وإلى أصناف شتى من الغرائبيّة والسحريّة والعجائبيّة، التي تشتِّت ذهن الطفل وتعرقل تفكيره الصغير، فإمّا أن توقعه في الانبهار السلبي، أو تقوده إلى تصديق نتائج هي كاذبة في الأصل، فيحاول تقليدها فيفشل. وإمّا أن تتركه في صراع غير حميد بين ما تدركه حواسه ويطمئن إليه ذهنه، وما تَعرِضهُ الاكتشافات المطروحة.)
ويتابع الكاتب بقوله(3): (إنَّ السنّ المناسبة لتقبُّل الخيال العلمي هي مرحلة اليفاعة؛ أي المرحلة العمريّة من 12 - 16 سنة، حيث يكون خيال الطفل نشطاً لاستيعاب الأجواء الخياليّة، لكن الإفراط في التَّخييل يجعل الموضوع نوعاً من الخرافة التي قد تقود الطفل إلى الارتباك في الفهم أو إلى تشويش محصوله العلمي وخلخلة مدركاته الذهنيّة).

أمر آخر تجدر الإشارة إليه، وهو الفرق والاختلاف بين قصص الخيال العلمي، والقصص العلميّة، فالأولى تتناول مستقبل الإنسان برؤية تنبؤية، وما يمكن أن يحدث فيه كما سبق لنا ذكره، أما الثانية فتتمحور حول الحاضر والماضي وما تم فيهما فعلاً، كقصص العلماء والباحثين والرحالة، وقصص المخترعات والكشوف التي تم التوصّل إليها.

صحيح أنّ كاتب قصص الخيال العلمي يقدِّم للأطفال مادة أدبية أو فنية لتزويدهم بالخبرات العلمية، ولكن في إطار درامي مُحبك، وأسلوب مشوّق وأخّاذ.. فالخيال العلمي يجمع بين الأدب القائم على الخيال، والعلم القائم على التّجربة والاستقراء، كما يذهب بعض الباحثين.

وقصص الخيال العلمي تميل لأن تكون أدباً، أكثر من كونها علماً؛ ذلك أنّ هذه القصص لا تقدِّم لقرّائها مادة لتزويدهم بمضامينها من المعارف العلميّة النظريّة والتطبيقيّة، بل تقدّم لهم قصة أو رواية بغية إمتاعهم، ومن خلال هذا الإمتاع يزودهم بتلك المعارف.

إذاً؛ فلا بدّ أن تُخلص قصص الخيال العلمي لطبيعتها إذا رغبت في أن تنتمي إلى الأجناس الأدبية.. وفي الوقت نفسه فإنّ الطبيعة الأدبية في هذه القصص ليست خالصة، كما يشير بعض الباحثين، بل هي مقيّدة بالمضمون العلمي الذي ضمّه الخطاب الأدبي(4). ولذلك يحتاج الكاتب في هذا المجال لأن يجمع بين الموهبة والخيال الخصب من جهة، والمعرفة أو الثقافة العلميّة الواسعة من جهة أخرى، ليتمكّن من تقديم نصوص تُجسّد مصطلح قصص الخيال العلمي على حقيقته.


الهوامش: 1. سلسة عالم المعرفة، العدد 123، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، مارس/آذار 1988 (ثقافة الأطفال) تأليف د. هادينعمان الهيتي، ص: 186. ┊ 2. أفكار- ملف بعنوان: الخيال العلميّ في أدب الأطفال، الكاتب الأردني الدكتور: راشد علي عيسى، ص: 40. ┊ 3. المصدر السابق، ص: 41 ┊ 4. أدب الأطفال فلسفته.. أنواعه.. تدريسه، الأستاذ الدكتور عبد الرحمن عبد الهاشمي، وآخرون، المملكة الأردنية الهاشمية-عمان، دار زهران للنشروالتوزيع ط/ أولى: 2009.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها