"هنا بيتي" ديوان شعري للأطفال كتبه الشاعر محمد حلمي بلغة فصحى بسيطة ومعبرة، صدر مؤخراً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، برسوم الفنان ناصر حامد. احتوى الديوان على أربعة عشر نصاً شعرياً تفعيلياً، وقد لمسنا من القراءة الأولى للديوان قدرة الشاعر على توظيف أفكاره ورؤاه ببساطة ويسر تنم عن خبرة وممارسة طويلة في هذا المجال.
فبداية من العنوان الذي أراه دالا ومعبراً عما يحويه الديوان من قصائد تتعرض في عدد منها للحديث عن البيت، باعتباره المكان الأول الذي ارتبط به الطفل منذ قدومه إلى الحياة، فهو مملكته الخاصة الذي تعرف فيه على الأب والأم والأخ والأخت، وأحياناً الجد والجدة، فالبيت هو الملجأ والسكن، وهو مجمع العائلة، ودفئ الحياة، وذكريات الطفولة، لذا وردت كثيراً كلمة البيت بدلالاتها المختلفة في متن الديوان.. فعلى سبيل المثال، في قصيدة "هنا بيتي" التي تحمل عنوان الديوان، يستهلها قائلاً:
هنا بيتي ومملكتي
أبي.. أمي.. أخي.. أختي
ثم يختتم القصيدة، قائلاً:
تعالوا بي أعرفكم
وكل شجيرة تنمو على مهل
إذا ما غبت عن بيتي
أرى الدنيا.. بلا لون ولا شكل.
فالبيت إذن؛ يمثل للطفل كل شيء، فبعيداً عنه يرى الدنيا بلا لون ولا شكل، وكأنها أصبحت مسخاً في عينيه.
وفي قصيدة "شباكي الأزرق" يمثل الشباك النافذة التي يطل منها على العالم من حجرته "بالدار" أي البيت، فيرى من خلالها الدنيا، ويستمتع بشروق شمس النهار.. يقول:
يمر الناس تحت الدار
ويمشي الكل بالمشوار
وأشهد تحت نافذتي
عصافيري على الأشجار.
وفي قصيدة "كل جميل" يتحدث أيضاً عن البيت، يقول:
في بيتي لوحات شتى
وزهور وجريد نخيل
وفي موضع آخر في القصيدة، يقول:
بيتي مملكتي وحياتي
نعم من فيض الرحمن
هذه عينة قليلة من كثير في الديوان أحببت أن أوردها في بداية الدراسة كي أدلل على فطنة الشاعر ومدى توفيقه في اختيار عنوان دال على الجو العام للديوان.
ورغم أن هناك عتباتٍ وملامحَ كثيرة داخل الديوان تستحق الكتابة عنها، وهذا ينم عن ثراء مخيلة الشاعر، إلا أنني آثرت أن أتحدث بداية عن دلالة اللون وتواجده بكثرة لافتة، وكأن الشاعر فنان تشكيلي يعيد تشكيل العالم من جديد، أو يرسم بالكلمات، وهذه الدلالة من الأهمية بمكان حيث تلون عالم الأطفال بالجمال والبهجة، كقلوبهم البريئة، فالألوان هي التي تميز الأشياء، وتظهر الأضداد، وتأكد المعنى، وتعلي من ذائقة الطفل، وترقق مشاعره.
ففي قصيدة "هنا بيتي" يرسم الشاعر ملامح هذا البيت المليء بالبهجة والجمال، وكأنة جنة الله على الأرض، يقول:
تعالوا بي أعرفكم
على زهراتي البيضاء
ترقص تحت شباكي
وفي موضع ثان، يقول:
تعالوا بي أعرفكم
على دبدوبي الأصفر
ينام الليل لا يسهر
على عصفورتي الحمراء
تنقر حبة القمح
اللون هنا يلعب دور التمييز بين الأشياء، ويلقي عليها جمالا وروعة، فالزهور البيضاء تتفق ونقاء سريرة الأطفال، أما الدبدوب الأصفر الجميل، لا يسهر الليل بل ينام كي يستريح جسده، أما العصفورة الحمراء فهي تلقط حبة القمح، كي تطعم صغارها، فدلالة اللون الأحمر الثورة، والدأب، والتمرد، والانفعال، فهو عصفور متحرك، يحب العمل ويكره الكسل.
وسأرصد مفردات التشكيل في قصائد الديوان من لون، ولوحات، وخطوط، وظلال، وإيحاءاتها الدلالية، في عجالة لكثرتها لدرجة أنه لا تخلو قصيدة من عالم التشكيل بمعناه الواسع، ففي قصيدة "وجبة الإفطار" يقول:
أنوّع الأشكال
والحجم والألوان
ويستهل قصيدة "شباكي الأزرق"، بقوله:
هنا شباكي الأزرق
ومنه صباحنا يشرق
وفي قصيدة "كل جميل" يقول:
تعشق أمي كل جميل
لون الزرع ولون النيل
أما قصيدة "عصفوري الفنان" بداية يمثل العنوان عتبة تشكيلية، فالعصفور فنان بطبعه بداية من أنه ينسج عشه ويبنيه بجمال وخفة، علاوة على أنه "مغرد" أي "يزقزق" فصوته موسيقى، أي أنه مجبل على الفن.
وهي قصيدة مليئة بدلالات التشكيل وعوالمه الخصبة والثرية من لون ورسم وخطوط، بل هي قصيدة تعليمية بالأساس، حيث تعرف الطفل بألوان الأشياء من الطيور والحيوانات والنباتات والزهور، كتبها الشاعر بفنية وبساطة دونما أن تشعر بأنه يعلم الأطفال شيئاً بل حافظ على "الشعرة" بين الفن والتلقين.. كما أن عنوان القصيدة جاء جزءاً من القصيدة.. يقول:
عصفوري الفنان
يرسم بالألوان
في كل جناح ريش
خلاب فتان
رسم الشمس البيضاء
فوق سماء زرقاء
رسم العصفور يطير
والأخضر في الجرجير
رسم الأصفر في الموز
والغامق مثل اللوز.. إلخ.
كما يوصل للطفل بفنية أنه حينما يخلط لوناً بلون ثان يجد لوناً ثالثاً، يقول:
مزج الأزرق بالأصفر
كي ينتج لونا أخضر
ويختم القصيدة مؤكداً على أن عصفوره فنان، فيقول:
عصفوري الفنان
عصفوري الفنان
وفي قصيدة "عفريت الصالة" يقول:
بالصالة عفريت أسمر
أتحكم فيه فلا يضجر
وهي تتحدث عن التلفزيون بلونه الأسمر، فهو مثل العفريت يأتي بالأشياء وبرامج كثيرة وهو ثابت في مكانه، ولا يضجر أي يغضب من كثرة الطلبات بل يطيع الأوامر في صمت.
أما قصيدة "أصوات" أراها من أروع قصائد الديوان، وتظهر مقدرة الشاعر على استخدام أصوات الطيور والحيوانات كي يتعرف الطفل عليها، بشكل شاعري متميز ويبقى في الذاكرة، يقول:
لنقيق الضفدعة حضور
يصحب زقزقة العصفور
وخوار الثور يقول:
الساقية الآن تدور
ومواء القطة جعل القطط
على درج البيت تثور
ونباح الكلب يخيف
عواء الذئب المغرور
وصهيل الخيل يثير
وحافرها في الأرض يمور..
هناك ملمح آخر من أهم ملامح هذا الديوان، وأكثرها انتشاراً داخل متن القصائد، وهو الملمح الديني، فالديوان يرسخ القيم الدينية والأخلاقية، فتتناص بعض قصائده مع بعض آيات القرآن الكريم، ومع الأحاديث النبوية، ليرسخ لهذه القيم داخل نفس الطفل المسلم باعتبار الدين الصحيح هو الذي يحدث التوازن النفسي ويشيع الاطمئنان داخل النفس البشرية، ففي قصيدة "وجبة الإفطار" يتناص فيها مع الحديث النبوي الشريف الذي يقول:
"نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه".
تقول القصيدة:
الأكل لا يكون ليملأ البطون
الثلث للطعام
والثلث للشراب
وثالث الأجزاء يكون للهواء
وفي قصيدة "شقاوة" يستهلها بقوله:
حين يعم البيت الفوضى
أو أنسى صوما أو فرضا
تغضب أمي وأنا أكره ما يغضبها
وهنا تأكيد على دور الأم في رعاية صغارها، وزرع القيم والوازع الديني في نفوسهم، ليشبوا على الطوق مرتبطين بدينهم وقيمه الحنيفة.
وأختتم هذه القراءة النقدية بقصيدة "صديقتي الساعة" التي ترسخ لقيمة الوقت الذي لا بُدّ وأن نحافظ عليه، ولا نهدره فيما هو ضار، فالساعة هي التي تنظم لنا أوقات الصلاة، والصوم، والمذاكرة، تقول القصيدة:
والعقرب يسبق أخويه
لا يهدأ أثناء اليوم
أنتظر المغرب في شغف
كي أحظى بثواب الصوم
وفي موضع آخر من هذه القصيدة، يقول:
أوقات طعامي وشرابي
واللهو وكل الحالات
ما بين علوم أدرسها
أو عند صيام وصلاة [ص: 22].
وفي النهاية أرى أن هذا الديوان ثري في مضمونه ورؤاه، ومحمل بالقيم الجمالية والأخلاقية والإنسانية، ويدور في فلك وعوالم الطفولة الخصبة والمدهشة، بلغة معبرة وبسيطة وموظفة بحرفية، تبعد عن المباشرة والتقريرية، وتبحث عن مكامن الجمال والبهجة، ورسم صور ملحقة في عوالم جذّابة، لونها الشاعر بألوان قوس قزح، فبدت قصائده خفيفة وجميلة، وقد نجح الفنان ناصر حامد في رسم مشاعر البهجة وتسخير جهوده اللونية المميزة لتوصيل الأفكار بخطوط قوية، تنم عن مقدرة فنية ودربة كبيرة.