الفضاء في "الحمار الذهبي"

د. الجيلالي الغرابي



يعد الفضاء مكوناً أساساً من مكونات علم السرد، وأكثر العناصر المشكلة له أهمية، ويتحدد في العمل من خلال أشكال، ويتخذ معانيَ متعددة، إلى أن يشكل سبب كينونته1. وإن لكل متنٍ علاقةً بالفضاء، وحتى عندما يعدل السارد عن الوصف، فإن الفضاء يكون متضمناً في المسرود2، ويحتاج أي سارد إلى فضاء، يمتد تأثيره إلى أن يحتويَ العناصرَ الداخلةَ في تشكيل السرد.



الفضاء في "الحمار الذهبي"

جرت أحداث رواية "الحمار الذهبي"3 لأپوليوس4 في أفضية عامة، وتوزعت مسيراتها السرديةَ أفضيةٌ أقل عمومية، وأخرى خاصة.
 

المدينة: فضاء السحر والموت

حَدَّث شخصٌ أپوليوسَ بأنه رأى في مدينة أثينا مشعوذاً، ابتلع سيفاً قاطعاً، وغرز حربة صيد في أحشائه، فخرجت بمقبضها من قفاه، وأدى ألعاباً مذهلة. وعرضت عليه امرأة الإقامة فيها، فأخبرها بأنه يحس بالرعب أمام فنونها السحرية؛ إذ القبور نفسها ليست آمنة، لأن السحرة يجلبون بقايا الأموات، ويكتمون بها أنفاس الأحياء، والساحراتِ تتقدمن الجنازة بسرعة.

وخرج إلى وسط مدينة ثيساليا، وتذكر أنها اشتهرت بتعويذاتها، فبدا له أن الأعمال السحرية قد خلعت على الأشياء أشكالاً مغايرة، وتصور الحجارة أناساً متحجرين، والطيور لا أجنحة لها، والآبار تتدفق من أجساد البشر، والتماثيل والصور ستسير، والجدران سوف تتكلم، والثيران وما شابهها ستتنبأ بالمستقبل.

ونظم ديموخاريس مبارزة بمدينة بلاطاي، فأحضر المصارعين والمجرمين والحيواناتِ والنعوش، وأعد بناء من الأعمدة، وأبراجاً من الألواح. ولم يسلم ذلك من الحسد، فهلكت الحيوانات، وشوهدت جثثها في الشوارع، والتهمها الفقراء. وتآمر اللصوص عليه، وهاجموه، وقتلوا حراسه، وباءت خطتهم بالفشل، وقُتِل زعيمهم شر قتلة...

الخان: فضاء القتل والسحر والسلب

كان سقراط في الخان، فجاءت الساحرة ميرو حاملة سيفاً وقطعة إسفنج، واقتحمت غرفته، فلوت رأسه، ورشقت السيف في مخنقه الأيسر، وجمعت دمه المنسكب في قربة، ثم أدخلت يدها اليمنى في جرحه، وأخرجت قلبه من جوفه، فأصدر صفيراً من حلقه، ولفظ أنفاسه. وحولت أحد عشاقها قندساً، وأحد جيرانها ضفدعة، ومحامياً كبشاً، وسدت رحم امرأة، وحكمت عليها أن تبقى حاملا على الدوام.

وقرر الناس رجمها، فأبطلت ذلك بتعاويذها، وحبستهم في بيوتهم، ونقلت الرجلَ الذي أشار عليهم إلى مدينة أخرى. وعُزلَ مكاس من منصبه، وأقام وزوجه في خان، فهاجمتهما عصابة، وسلبتهما كل شيء...

البيت: فضاء البخل والثراء والخيانة

سأل أپوليوس عجوزاً عن بيت ميلو، فدلته عليه، ونعتته بالكيس الممتلئ مالا؛ لأنه ثري جداً، وبخيل إلى حد لا يصدق، فهو يبرم صفْقاتِه، ويراهن عليها بما لديه من الذهب والفضة، ويقطن بيتاً موصداً، تتعرض أمواله للصدأ، وتقيم معه زوجٌ تعاني مما يعانيه، ومعهما خادمة، يوفر لها ما تحتاجه بقدر ما يوفره لمتسولة. قرع أپوليوس بابه، فأدخله، وأجلسه عند قدميه، ثم أرهقه بحديث متواصل، حتى داعب النوم أجفانه.

ورأى في بيت بيرهينا الموائدَ العاجية والأرائكَ المذهبة والأقداحَ الجذابة والزجاجَ الفريد، والبلورَ النقي والفضةَ اللامعة، والذهبَ البراق والكهرمانَ المجوف والأكوابَ المعدنية، وشاهد خدمها يرتدون الثياب الفاخرة، ويقدمون الطعام في أناقة، وولدانها يلبسون الملابس الرائعة، وتعلوهم الشعور المتماوجة، ويقدمون الأحجارَ الكريمة.

السوق: فضاء الغش والتحايل

ابتاع أپوليوس من السوق طعاماً من السمك، والتقى زميله بيثياس، فأخبره أنه يشتغل بالمصلحة الاقتصادية، وشرع يحرك الأسماك بدقة، وأوضح له بأنها بضاعة رديئة لا طعم لها، وعاقب صاحبها بأن ألقاها في الميدان العام، وأمر أحدَ خدمه أن يدوسها. فاندهش، وأحس بخيبة أمل لتحايل الحوات عليه، وغشه له.

القاعة: فضاء الروعة والتماثيل المرمرية

دعت بيرهينا أپوليوسَ إلى بيتها، وأدخلته قاعة رائعة، ينتصب عمود في كل ركن من أركانها، ويعلوه تمثال إلهة النصر وقد بسطت جناحيها، وثبتت بطني قدميها فوق كرة تكاد تتدحرج، فظهرت وكأنها توشك أن تطير. ويتوسطها تمثال مرمري رائع للإلهة ديانا، ووقفت تماثيل الكلاب المرمرية عن يمينه وشماله وعيونها متوعدة، وآذانها مدببة، ومناخرها منتفخة، وأفواهها مكشرة عن أنيابها، وصدورها مرفوعة، وأقدامها الخلفية مرتكزة، وأقدامها الأمامية منطلقة. ونُحِتت خلف ظهره صخرةٌ شبيهة بالمغارة، وفوقها الأدغال المرمرية، ويضيئها ما يعكسه التمثال من نور. وكانت العناقيد والثمار تتجلى بتناسقها البديع معلقةً في حافة الصخرة الخارجية، وعاكسةً مطابقةَ الفنِّ الواقعَ ومنافستَه الطبيعة، ومياه الحوض تخر عند قدميه في هدوء، وتتجمع أمواجاً لطيفة. ووسط الأوراق المرمرية، يُشَاهَدُ تمثالُ أكتيون في الماء والحجر، وقد مسخ وعلا، وصارت له طبيعة الحيوان، وهو ينحني إلى الأمام، ويسترق النظر إلى ديانا، وينتظر دخولها الحمام.

المسرح: فضاء المحاكمة والاحتفالية

اعترض سبيلَ أپوليوس ثلاثةُ رجال أقوياء، فأشهر سيفه، وطعنهم، ففاضت أرواحهم، وألقى محضران القبض عليه، وتمت محاكمته بالمسرح. قاده الخدم، وأوقفوه في الوسط، ونهض رجل عجوز، وألقى خطبة، وشدد على معاقبة المجرم قتلا. ثم أمره الداعي بأن يبدأ رده، فألقى كلمة، أوضح فيها أنه تعرض لهجوم، فدافع عن نفسه، وانهمرت دموعه، ومد إلى الناس يديه، وتوسل إليهم، فحرك قلوبهم، ثم رأى الحاضرين يضحكون، وميلو يقهقه، فاستاء من ضحكهم.

ولجت المسرحَ امرأةٌ، وشرعت تبكي، وكانت ترتدي السواد، وتحمل طفلا بين ذراعيها، ودخلت خلفها امرأة ثانية في أسمال دارسة، وبدأت تنتحب، ووقفتا بالقرب من النعوش، وطالبتا بإراقة دم المتهم. وقامت شخصية رسمية، وخاطبت الجمهورَ بأنه ينبغي تعذيبه حتى يكشف عن أسماء شركائه، فأشْعِلَتِ النار، وحُمِلَتِ العجلات، وأحْضِرَتْ أنواع من السياط، فتضاعف حزنه.

صاحت إحدى المرأتين، ورجت الكشف عن جثث القتلى، فصفق لها الجمهور، وأمره المأمور برفع الغطاء بنفسه، فأبى، فأرغمه المحضرون بقوة. أزال الستار عن الضحايا، فوجد مكانهم قرباً منتفخةً بها ثقوب مختلفة، فتعالت ضحْكات الحاضرين وصيحاتهم، وتحول الجو إلى مرح، وغادروا المسرح. فجاءه قضاة المحكمة، وخففوا من روعه، وأثنوْا عليه، وأبرزوا له أن محاكمته ما هي إلا تسلية، يمارسونها احتفالا بإله الضحك، وتمجيدا له.

الغرفة: فضاء السحر والانتقام

حَدَّثتْ فوتيسُ أپوليوسَ بأن بامفيلتي تمارس في غرفتها الأعمال السحرية، فتجعل الموتى يطيعونها، والكواكب تنحرف عن مسيرها، وتخضع العناصر والأرواح. فقد سَمِعَتْها هددت الشمس بالعتمة الأبدية السرمدية إن لم تترك مكانها للظلام الحالك، لتتمكن من القيام بأعمالها وطقوسها، ورأتها صعدت غاضبة إلى الغرفة، وأعدت مطبخها السحري، وجهزته بالأعشاب المتنوعة، والصفائح المليئة بالحروف المجهولة، وقطع أنقاض السفن المحطمة، وأعضاء الجثث الكثيرة، ومسامير المصلوبين وبقايا لحومهم بها، ودماء القتلى، وبقايا جماجم الحيوانات المفترسة.

ثم شرعت تتلو عزائمها على أمعاء يتصاعد البخار منها، وصبت الماء والحليب والعسل الجبلي والخمر العسلي عليها، وعقدت الشعور، وربطتها، وضمختها بمختلف خلاصات السوائل، وألقت البخور فوق الجمر، فأعادت الحياة إليها، وصارت تحس، وتسمع، وتتحرك، وتَثِب، وتسير في الاتجاه الذي يحدده لها دخان جثامينها المحترقة.

 وشاهدها من ثقب الباب وقد تعرت، وفتحت صندوقاً صغيراً، وأخرجت منه مرهما، ودعكته طويلا بين يديها، ودهنت به جسدها، وأجرت أحاديثَ سريةً مع مصباحها، ثم هزت أعضاءها، وحركتها، وراحت تتماوج بلطف، فلمع الزغب، ونما الريش، وتصلب الأنف، وانحنى منقارا، وانثنت المخالب معوجة، وتحولت إلى بومة، ثم طارت.

وتوسل إلى فوتيس بأن تحضر له قليلا من ذلك المرهم، ليصير طائراً، فتسللت إلى الغرفة، وأخذت علبة من الصندوق، وقبلتها، وتوسلت إليها، وسلمتها له، فخلع ثيابَه، وأدخل يده في العلبة، وغرف كمية من المرهم، ودهن جسمه، وبدأ يحرك ذراعيه صعوداً وهبوطاً، ويتمرن على الطيران، فلم يَنْمُ زغب، ولم يظهر ريش، بل نما شعر فوق جسده، وتحولت بشرتُه إلى طبقة من الشحم، وتجمعت أصابعه، وصارت حوافر، وانبثق ذيل أسفل ظهره، واتسع وجهُه، وكبر فمه، وانفتح منخراه، وتكورت شفتاه، ونمت أذناه، وانتصب شعره، وبرزت بقية أعضائه، وصار حمارا.

وقتل ثراسيلوسُ تليبوليموسَ، فاستدرجته خاريتي إلى غرفتها، وسقته خمراً وضعت منوماً فيها، فنام منبطحاً على ظهره، وأخذت إبرة من شعر رأسها، وغرزتها في عينيه انتقاماً منه لخطيبها.

النافذة: فضاء السرقة والتأمل والموت

كسر ألكيموسُ بابَ كوخ عجوز، وسرق ممتلكاتِها، وألقى بها إلى زملائه من النافذة، وصعد إلى غرفتها، ليخنقها، فارتمت أمام قدميه، وتوسلت إليه مدعيةً أنه يقدم أشياءها لجيرانها، فانطلت عليه حيلتها، وتعلق بالنافذة دون حذر منها، ليتأمل ما يحتويه البيت المجاور لها، فدفعته دفعة مفاجئة، فسقط من الحافة على رأسه، ووقع فوق حجرة كبيرة، فتحطم صدره، وقضى نحبه.

القصر: فضاء الفنون الإلهية

رأت بسيشة قصراً ملكياً بنته الفنون الإلهية، فكانت أعمدته ذهبية، تسند سقفاً عالياً من خشب الأرز والعاج، وتعلوه النقوش البديعة، وجدرانه مغطاة برسوم الحيوانات المفترسة وما شابهها، ومطلية من أعلاها حتى أسفلها بالذهب الخالص، وتشع إلى درجة أنه كان له نهاره الخاص حتى بعد غروب الشمس، وأرضيته مكسوة بفسيفساء من الأحجار الكريمة، وأروقته وغرفه ومصاريع أبوابه لامعة، ودكاكينه مليئة بالنفائس والتحف، فيبدو وكأنه قصر سماوي، أنشئ في الأرض لجوبيتر، ليستقبل فيه البشر.

الصخرة: فضاء الزواج الإلهي والموت البشع

كانت بسيشة جميلة، ولم يتقدم أحد من الناس لخطبتها، فبكت حظها، وعانت مرضاً في جسمها واضطراباً في فكرها. خشي أبوها من أن يكون قد أغاظ الآلهة، فذهب إلى المعبد، واستخاره، وتوسل إليه، فأمره أبولو بأن يضعها فوق قمة الصخرة، ففرح الأب، وفعل ما أُمِر به. جاء بسيشةَ الإلهُ كوبيدو، وتعلق بها، وتزوجها، وطلب منها أن تَحْذَر أختيها، وألا تعمل بنصيحتهما.

علمت أختاها بأمرها، فحسدتاها، وأبغضتاها، واتجهتا إلى الصخرة، وألقتا نفسيهما إلى الهاوية، فتحطمتْ عظامُهما، وتمزقت أحشاؤهما، وغدتا فريسة للطيور والحيوانات المفترسة.

العين: فضاء القداسة والرهبة

استحالت مهمة إحضار الماء على بسيشة، فظهر طائر جوبيتر أمامها، وحذرها من عاقبة محاولة سرقة ولو قطرة واحدة من ذلك الماء، أو ملامسته، وأوضح لها أن هاته العينَ مقدسةٌ رهيبة حتى بالنسبة إلى الآلهة، وخطف الجرة منها، واحتال على التنينين، وملأها، وسلمها إياها.

الطريق: فضاء الفتك والموت

طلب سكان مدينة صغيرة من الأهالي أن يقضوا الليل معهم؛ لأن في الطريق أسراباً من الذئاب المفترسة، اعتادت أن تهاجمهم، وجعلت منطقتهم غير آمنة، وحاصرت الطرق، وهاجمت المارة، واقتحمت المزارع المجاورة.

نجوا من خطر الذئاب غير أن فلاحي إحدى المزارع ظنوهم لصوصاً، فأمطروهم بالحجارة، وحرضوا كلابهم الشرسة عليهم، فأحاطت من كل جانب بهم، ومزقت دوابهم، وفتكت ببعض الأشخاص منهم.

الغابة: فضاء الاستراحة والمداواة

ابتعد المتبقون من الأهالي عن مكان الخطر، ووصلوا غابة جميلة، فاستراحوا فيها، وعالجوا جراحهم بأدوية مختلفة، واهتم كل واحد منهم بعافيته وصحته، فغسل بعضهم بالماء البارد المنساب جراحَه، ووضع بعضهم كماداتٍ مضمخةً بالخل فوق أورامه، وعصب بعضهم بالضمادات جروحه المنفرجة.

المزرعة: فضاء المؤامرة والجريمة البشعة

غارت امرأة خليعة من فتاة، فتآمرت عليها مع عبد شرير لها، وسرقت خاتم أخيها، ثم أخذ العبد الخاتم إلى الفتاة، وسلمها إياه، وأخبرها بأن أخاها قد أرسله إليها، ويطلب منها اللحاق به في المزرعة بمفردها. ذهبت الفتاة إلى المزرعة، فألقت المرأة الحاقدة القبض عليها، ومزقت ثيابها، وضربتها بالسوط حتى طفرت الدماء من جسدها، وألقت حطبةً مشتعلةً بين رجليها، وقتلتها قتلةً بشعةً.

المدرج: فضاء الرقص والعرض

أقام أهل المدينة عرضاً بهيجاً بالمدرج، فارتدت الفتيات ملابس بديعة، ورقصن رقصة رشيقة، وأدين دوامة من التشكيلات الراقصة الرائعة، فشكلن عجلة مستديرة، فسلسلة منحنية، ثم مربعاً مفتوحاً، فمجموعاتٍ صغيرة.

أسدل الستار، وسحبت الأقمشة المزينة، وأعدت منصة خشبية، نصب عليها خبراء جبلا يشبه جبل إيدا، ويحتوي أشجاراً حية وأدغالا وعيناً اصطناعية متدفقة من قمته، وعنزات قليلة تقضم العشب، وألقى الممثلون عرضاً يجسد الاحتفال بربات الجمال اللطيفات. ثم انتشر محلول الزعفران الممزوج بالنبيذ في الجو، وتساقط رذاذه فوق العنزات، وأضفى عليها لوناً أصفرَ بدل لونها الأبيض، وانشقت الأرض، وابتلعت الجبل الخشبي.

السفينة/المعبد: فضاء التمثيل والتحول والتعبد

توسل الحمار إلى الربة القوية بأن تعيدَه لوكيوس ثانية، وغمرت ذهنَه سحابةُ نوم، فانبجس من البحر وجه إلهة أنبأته أن كهنتها سيدشنون سفينة جديدة لها، وعليه ألا يستقبل هذا الحدث المقدس بحزن، وأنها ستأمر الناسَ بعدم الإساءة إليه، وكاهنَها مثيراس بربط إكليل من الورد في الصنج المعلق بيده اليمنى، وأمرته بأن يندفع بنشاط، ويرفع رأسه بهدوء، ويقطف الورد ليتخلص من جلد الحيوان، ويكرس حياته المستقبلية لعبادتها.

تقدمت طلائع الموكب، وبدت على أفرادها البهارج المتقنة، وانتشرت في كل مكان الأقنعة، ثم تحرك الوفد الحقيقي للإلهة، فتقدمت النساء، وقدمن عرضاً رائعاً، وغنت جوقة بهية أغنية ساحرة، وعزف العازفون على المزامير نشيداً إلهياً، وتدفق سيل من المتعبدين، وحملوا حاجاتٍ برونزيةً وفضية وذهبية، وجاء الكهنة، وعرضوا لوازم القوة الإلهية، وظهر الآلهة، وتكرموا بالمشي على الأرجل البشرية.

أقبل الكاهن الأعظم حاملاً الصنجَ وإكليلَ الورود في يمناه، ورآه الحمار، فقاوم فرحته، واحترم مسيرة العبادة المقدسة الهادئة، وتسلل بخطى متئدة على الطريقة الإنسانية، وتقدم ملتوياً ببطءٍ بين الجموع المحتفلة، وتناول الإكليل وهو يرتعد وقلبه ينبض بشدة، والتهم الورود، فتساقط الشعر على الأرض، وضمرت طبقة الشحم، وغار البطن، وانسلخت بطون الأقدام، وتحولت إلى أصابع، وامتدت اليدان إلى الأعلى، وتقلص العنق، واستدار الرأس والفم، واستعادت الأذنان شكلهما السابق، واتخذت الأسنان حجمها البشري.

 استغرب الناس هذا التحول العظيم، وانحنوا في خشوع أمام القدرة السامية، ورفعوا أيديَهم، ومجدوا الإلهة على نعمتها الظاهرة، ووقف أپوليوس عارياً حائراً، فنزع أحد أعضاء البلدية رداءه، وناوله إياه، فغطى جسده، ثم اختلط بالجماهير، وصاحب الموكب، فأثار انتباه المدينة، ونظر الناس إليه، وتحدثوا عنه، وانضم إلى الشبيبة المقدسة.

 اكترى بيتاً قرب المعبد، وعكف على ممارسة الطقوس الدينية، واستعطف الكاهنَ الفاضل بأن يرسمه في أسرار الليلة المقدسة، ووطن نفسه على الطاعة وأداء الشعائر بهدوء، فباركته الإلهة، وأدخلته القدسية، ثم ظهر له في حلمه الإله أوزيريس، فباركه، ومجده، ودعاه إلى أن يبقى محامياً في المحكمة، ويكون رئيساً للمعبد، فحلق رأسه، وأشرف على إدارة هيئة الكهنة، وأدى وظيفته في غبطة...

 

الخلاصة

وظف أپوليوس في روايته "الحمار الذهبي" أنواعاً متناقضةً متكاملةً من الأفضية، فهناك أفضية مفتوحة، تدل على الحياة والجمال والرقي والروعة والاحتفالية والسكينة والسعادة، وأُخَرُ مغلقة، توحي بالموت والانتقام والكآبة والسلب والغش والتآمر والبخل، وهناك أفضية مقدسة، تبعث عن القداسة والرهبة، وأخرى مدنسة، تنبعث منها رائحة السحر والشعوذة والخيانة. ولقد تكاملت هاته الأفضية فيما بينها، لتدل على الشيء ومقابله، ولتعكس الصورة ونقيضها.

 


هوامش:
1. Roland Bourneuf _Real Ouellet:L’univers du roman 1ére édition, Presse Universitaire de France (P.U.F), Paris_France 1972,page:97.
2. ميشيل رايمون وآخرون:الفضاء الروائي. ترجمة:عبد الرحيم حزل، تقديم:حسن بحراوي، مطابع إفريقيا الشرق، الدار البيضاء_المغرب 2002م، ص: 63.
3. لوكيوس أپوليوس:الحمار الذهبي (أول رواية في تاريخ الإنسانية). ترجمة: أبو العيد دودو. النشر: الدار العربية للعلوم، بيروت_ لبنان، منشورات الاختلاف، الجزائر العاصمة الجزائر، الطباعة: مطبعة المتوسط، بيروت_لبنان، الطبعة الأولى:أفريل 2001م_الجزائر، الطبعة الثانية: أفريل 2004م_الجزائر، الطبعة الثالثة:نيسان 2004م_بيروت.
4. لوكيوس أپوليوس/Lucius Apuleius:ولد عام:124م أو 125م في مدينة مداور بشمال إفريقيا. درس النحو والبلاغة والفلسفة والهندسة والخطابة والشعر والموسيقى، وألف في مجالات عدة... فتفوق على زملائه وأنداده، وعد ممثل اللاتينية الإفريقية، ونعت بأنه أمير خطباء إفريقيا وأشدهم شهرة في وقته. بلغنا القليل من كتبه، منها:_الدفاع (Apologia) _الأزاهير (Florida) _عن إله سقراط (De Deo Socrates) _عن العالم (De Mundo) _عن أفلاطون وتعاليمه (De Platone et eius dogmate) _أحد عشر كتابا في التحول (Metamorphoseon Libri ΧΙ)... ويرجح أنه توفي حوالي سنة ثمانين ومائة ميلادية (180م)...

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها