الأدب في زمن العولمة

يسري الغول


عملت الثورة التكنولوجية الهائلة على إنتاج العديد من التحولات الجذرية في شتى الميادين، تمخض عنها منتجات أثرية ناعمة وثورة في عملية التواصل ونشر المعلومات، الأمر الذي أزال الفواصل والحدود بين الدول، ليصبح العالم جهازاً بحجم كف اليد، أو قرية كونية صغيرة.


تلك التحولات أدخلت العلوم والآداب والفنون في أزمة حقيقية، وذلك نتيجة لأسباب كثيرة، أهمها استهواء المجتمع واستسلامه لمغريات العوالم الافتراضية، وعكوفه على مداعبة أجهزته الذكية لساعات طوال، حيث أخذ الرث مكاناً مركزياً في كثير من المواطن، وبات السمين على هامش المشهد، عبر ما يتم تقديمه في التيك توك والفيسبوك والإنستغرام والسناب شات وغيرها؛ إذ ظهرت ثلة تقدم محتوى ضعيفاً في معظم -إن لم يكن جميع- المجالات.

وتأسيساً على ما سبق، وسعياً نحو الانطلاق إلى تشريح السرد في زمن العولمة، كان لا بد من طرح العديد من الأسئلة: هل تأقلم الأدب مع مستجدات العصر؟ وهل هو قادر على استيعاب الثورة الرقمية بكل ما تنفتح عليه من تقنيات وبرمجيات؟ ثم كيف يستطيع الأدب -القصة والرواية مثلاً- التأقلم مع مستجدات العولمة، أم يجب أن تظل في مكانها دون تطوير؟

كل هذه التطورات تدفع بالحديث عن نهاية أنواع من الأدب لأجل بروز أنواع أخرى جديدة، كما نهاية الإله عند نيتشه ونهاية الإنسان عند ميشيل فوكوياما ونهاية المؤلف عند رولان بارت، إذ إن موت الأدب هو نهاية شكل من أشكال الأدب نفسه، يولد معه شكل جديد، يكون نتاجاً طبيعياً لمنطق التحول المعرفي، من سلطة العقل الأداتي إلى سلطة العقل الرقمي، كما أشار الكاتب عمر زرفاوي في كتابه "الكتابة الزرقاء، مدخل إلى الأدب التفاعلي".

وفي هذا المضمار، يمكن الحديث عن نهاية الإنسان المؤنسن وبداية الإنسان المرقمن، نهاية النص وميلاد النص الالكتروني أو النص التفاعلي كما يحدث اليوم مع المسرح التفاعلي وكذلك الرواية التفاعلية، بل يمكن الحديث عن موت الأدب وميلاد الثقافة، حيث لم تعد الأعمال الأدبية وحدها القادرة على اختراق الوعي الإنساني في ظل ثقافة الهجين وسيطرة الأجهزة الذكية على عقول أبناء المجتمعات كافة.

ولأن القصة جزء مهم من السرد، جاءت ضمن سياقات التطور العربي والانتقال من المقامات كمقامات الهمذاني وابن هشام، ومع انتشار القصة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، فإنها -أي القصة- بدأت تذوي وتنحسر في زمن الرواية، خصوصاً مع انتشار المسابقات العالمية للرواية؛ ففي عصر العولمة أصبحت الرواية الفن الأكثر حضوراً بين القراء، وأصبح الكتاب -أي كتاب- سلعة اقتصادية ومنتوجاً للتصدير، عليه أن يدر الكثير من المال. وهو ما كان له بالغ التأثير على أداء الكاتب العربي والغربي على حد سواء.

فرغم أن المنطق يقتضي بداية عهد القصة القصيرة وليس الرواية لأننا في عصر السرعة، ولكن يبدو أن العالم الذي يركز على المرئي والمسموع، بات يهتم كثيراً بالأدب التفاعلي، القادر على الانتقال من الورق إلى المسرح أو السينما، الأمر الذي يسهل اكتشافه في الرواية مكتملة الأركان، لتصير سيناريو سينمائي أو درامي. وقد شهدت بداية الألفية الجديدة ازدهاراً واضحاً في الكتابة الروائية على حساب القصة القصيرة والشعر، ووصل الأمر إلى إطلاق التحذيرات على مستوى العالم من التخوف بانقراض القصة القصيرة، وقد عقد مؤتمر عالمي في إنجلترا عام 2005 يدعو لإنقاذ القصة القصيرة، حيث طالب المجتمعون في ملتقى العاصمة الأردنية عمّان الثالث للقصة القصيرة في يوليو/ تموز من ذلك العام بضرورة وجود صحوة لإعادة فكرة القصة القصيرة، وفق تقنيات جديدة لم يلتفت إليها المبدع. فما هي التقنيات المطلوبة؟ وكيف يمكن تحقيقها لإعادة الروح للقصة؟

لقد ظهر إلى الوجود مفهوم الحياة الرقمية، والمجتمع الرقمي، والواقع التخيلي، والمدارس الافتراضية، والتجارة الإلكترونية، وهذا ما أدى لظهور نموذج جديد من الكتابة الروائية تعتمد على التقنيات المذهلة للمعلوماتية في محاولة للابتعاد عن الأطر التقليدية، وبحثاً عن آفاق أوسع للمغامرة الروائية. إلا أن جائزة الملتقى الكويتية حاولت التغلب على فكرة التقليدية بإطلاق جائزة تليق بهذا الفن وتجيير التكنولوجيا لخدمته.

لقد أتاحت التكنولوجيا الحديثة للمثقف ما لم يتح له من فرص للبحث أو التواصل مع الآخر أو الحصول على المعلومات والمعارف، خدمت الرواية التي بات لها منظرون كثر، خصوصاً أن هذا الفن يحتمل الكثير من الأخطاء والضعف في بناء المكونات السردية على حساب القصية التي لا تحتمل الخطأ، وهي الفن المختَزَل الذي يعمل على وحدة الحدث أو الشخوص.

لقد برز الأدب التفاعلي والأدب الرقمي، حيث يحار القارئ أو المشاهد أو المتصفح في تصنيف الجنس الأدبي الجديد، وصار هناك كتاب فيسبوكيون، يجمعون أعمالهم ضمن نصوص يسمونها رواية، لا تتحد فيها البنيات السردية من خلال توظيف شخوص أو أحداث على حساب بناء متكامل، لأجل الترشح لجائزة أو مسابقة أو ترجمة وهو ما دفع بانهيار عمق الخيال الذي تحتمله القصة أكثر من أي فن آخر، في الوقت الذي تهاوت فيه اللغة أيضاً وانعدمت فيه عوامل ومقومات بنائية السرد العربي.

إن التغيير أساس الحضارة حسب قول ابن خلدون، والأجناس الأدبية لها دورة حياة مثل الكائنات الحية، تولد وفق سياقات اجتماعية وضرورات فنية تلبي حاجات المجتمع ثم تموت، كما يشير إلى ذلك الباحث الجزائري الدكتور عبد الرشيد بوشعير، فهل سنشهد بداية نهاية الأجناس الأدبية التقليدية كالقصة القصيرة، ورواية الأجيال لأجل أدب تفاعلي لا يهتم باللغة؟ وهل ستصبح القصة القصيرة مثلها مثل المقامة والأساطير والحكايات الشعبية والملاحم؟

نحن أمام تحولات رهيبة تتعلق بالأدب في زمن العولمة، بالتأكيد سيكون لها بالغ الأثر على القصة القصيرة وكذلك الرواية بشكلها الحالي، لصالح الأدب التفاعلي الذي قد يذهب بالقارئ والكاتب إلى الهاوية أو فردوس النص السردي الجديد.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها