تجليات الألسنية الحديثة في تراثنا الّلغوي

د. عبد الله رمضاني

لقد دوّن هذا التُّراث اللّغوي، الذي تزخر به مكتباتنا وخزاناتنا، أسماءَ أعلام أفذاذ كانت لهم نظرات سديدة، وآراء حصيفة منها ما تجاوز حدود الزّمان، ومنها ما كان صالحاً في أوانه، ولم تكن له القدرة على التطور والتفاعل والتكيف وقبول الجديد.

لقد أثبتت الدراسات اللغوية الحديثة بوجود أواصر صلة بين بعض اللغات وانفصالاً وغربة بين بعضها الآخر، بيد أنها لم تنف الخصوصيات التي تمتاز بها بعض اللغات عن غيرها...

وكما أنه تعد عملية إسقاط النظريات الألسنية شكلاً ومضموناً على لغتنا قديمها وحديثها عملاً بعيداً عن المنطق العلمي، فلا يصح أيضاً الاستهانة بما جادت به قرائح الأقدمين، والدعوة إلى التخلي عنها بذريعة أن الدراسات الألسنية تعتمد منهجاً علمياً سخرت فيه التكنولوجية لخدمة اللغة.
وإذا انطلقنا من مبدأ أن الحياة لا تسير على وتيرة واحدة، فإن ذلك يعني أن طبيعة الحياة تقضي بأن يضيف اللاّحق على ما أبدعه السّابق. لهذا لن نستبعد أبداً وجود منطلقات أساسية للألسنية في أبحاث ودراسات الأقدمين، غير أن هذا لن يدفعنا إلى القول بوجود نظرية ألسنية عربية واضحة المعالم منهجاً وبحثاً بالمفهوم الحديث للنظرية؛ لأن ذاك يعتبر ضرباً من التعسف وتحميل الكلمات أكثر ما تحتمله من معان.
وسنقتصر في هذا المقال المتواضع الإشارة إلى عينات من آراء لغويينا تنسجم إلى حد ما مع ما نادت به الألسنية الغربية. ولن نبالغ إذا قلنا إن الألسنيين الغربيين المنصفين متأثرون بما ابتكرته عبقرية العرب في القديم ومعترفون بما أخذوه عنا. وهذا ما ذهب إليه أحد الألسنيين العرب1: (... لقد أثبت باحثون لسانيون غربيون معتدلون أمثال روبنز وتشومسكي تأثر اللسانيات الحديثة بالتراث اللغوي العربي، وذلك عن طريق وسائل مختلفة سواء أكانت مباشرة أم غير مباشرة).

 

أولاً: نظرة موجزة عن الألسنية

الألسنية: ترجمة عربية للفظ الفرنسي linguistique أو الإنجليزي linguistic وقد عرفتها المراجع الأجنبية بقولها2: ( la linguistique est habituellement définie comme l’étude scientifique du langage )، هي إذاً دراسة علمية للغة. وقد عرفها مؤسس الألسنية دي سوسير بما ترجمته3: (موضوع علم اللغة الوحيد والصحيح هو اللغة معتبرة في ذاتها ومن أجل ذاتها).

ظهر هذا العلم في أوروبا في القرن الثامن عشر، ثم تطورت بحوثه واتسعت دائرة اهتماماته في القرن التاسع عشر. أما في القرن العشرين فإن دي سوسير فرق بين الدّراسة التّاريخية للغة، والدراسة الوصفية.

وقد عرف هذا العلم بتطور الزمن أنواعاً أخرى:
-علم اللغة المقارن- علم اللغة التركيبي- علم اللغة الجغرافي.

ولمزيد من الدقة العلمية، حدد الألسنيون المستويات التي يجب أن تدرس اللغة بموجبها، فإذا هي:
المستوى الصوتي phonetique- المستوى النحوي syntaxe- المستوى الدلالي sémantique - المستوى المعجمي lexicologie.
ويبحث علم اللغة إضافة إلى هذه المستويات الأربعة في ماهية اللغة، ووظيفتها، وبيئتها، وطريقة جمع مادتها.

ثانياً: جهود العرب اللغوية

نجد في تراثنا اللغوي قدراً هائلاً من الدراسات والأبحاث التي تلتقي في بعض ما ذهبت إليه مع ما انتهت إليه الألسنية الحديثة. ومن أهمّ هذه الدراسات نذكر أصوات اللغة العربية من الناحية الفيزيولوجية التي عالجها كل من الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت: 175هـ)، وسيبويه (ت: 180هـ).

أما تراكيب اللغة فقد اهتم بها النحاة اهتماماً فائقاً وعلى رأسهم الخليل بن أحمد وسيبويه والكسائي (ت: 189ه)، والفراء (ت: 207ه) وابن يعيش (ت: 642ه) وغيرهم.

وفي علم الدلالة والمعاني نجد البلاغيين قد درسوا اللغة في إطار البلاغة، واشتهر من بين البلاغيين الجرجاني (ت: 392ه) والسكاكي (ت: 626ه)، والخطيب القزويني (ت: 734ه) وأبو هلال العسكري (ت: 395ه)، وغيرهم.

وفي هذا السّياق لابد من الإشادة بالدلالات الدفينة المنثورة في أعمال المفسرين والمحدثين وهم بصدد شرح وتفسير القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف.

ولم يغفل لغويونا مسألة ارتباط اللغة بالمجتمع، فالجاحظ (ت: 255ه) أتى –خاصة- في كتابيه "الحيوان" و"البيان والتبيين" بنظريات متميزة في هذا الميدان. كما نجد في "رسالة الغفران" لفيلسوف المعرة نظرات ثاقبة في هذا النطاق.

ولم يهمل علماؤنا البحث في ارتباط اللغة بفيزيولوجية الإنسان وبيولوجيته، وعلى رأسهم الجاحظ في كتابه القيم "البيان والتبيين".

كما كان للغويينا أبحاث ودراسات جُلّى في البحث عن نشأة اللغة. ومن هؤلاء نذكر ابن جني (ت: 392ه) في الخصائص، وابن فارس (ت: 395ه) في الصّاحبي والمجمل والمقاييس، وغيرها.

ولعل في كتب فقه اللغة هذه نظريات تثبت قصب سبق العرب في توصلهم إلى إيجاد إحدى النظريات التي أتى بها الألسنيون في وقتنا الحاضر.

وسنورد بعض هذه النظريات التي أتى بها لغويونا القدماء، وهي كالتالي:

1- لا تفاضل بين اللغات
أنكرت الألسنية التفاضل بين اللغات، واعتبرت اللغات سواء. وقد وقف علماء اللغة من العرب نفس الموقف السابق ونادوا به قبل الألسنية. من هؤلاء ابن حزم الأندلسي (ت: 456ه)، الذي رفض التباهي، ونظر إلى اللغة نظرة علمية حيادية فقال4: (توهم قوم في لغتهم أنها أفضل اللغات، وهذا لا معنى له؛ لأن وجوه الفضل معروفة، وإنما هي بعمل أو باختصاص، ولا عمل للغة، ولا جاء نص في تفضيل لغة على لغة، وقد قال الله تعالى5: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه لبيّن لهم} وقال تعالى6: {فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون} فأخبر تعالى أنه لم ينزل القرآن بلغة العرب إلا ليفهم ذاك قومه عليه السّلام، لا لغير ذلك. وقد غلط في ذلك جالينوس فقال: إن لغة اليونان أفضل اللغات لأن سائر اللغات إنما هي تشبه نباح الكلاب، أو نقيق الضفادع. وهذا جهل شديد؛ لأن كل سامع لغة ليست لغته ولا يفهمها، فهي عنده في النصاب الذي ذكره جالينوس ولا فرق).

وعلماء اللغة في عصرنا لم يبلغوا في دراساتهم الموضوعية إلى ما هو أفضل من هذا الرأي.

2- السليقة اللغوية
يرى الألسنيون، بإزاء ما يسمى بـ(السليقة اللغوية)، أن الطفل لا يكتسب اللغة وراثة، وفي تصورهم أن اكتسابها يبدأ بالتقليد ثم تتثبت بالمران، لأن اللغة في نهاية المطاف ملك من تعلمها. ولقد سبقهم إلى نظرتهم هذه عبد الرحمن بن خلدون (ت: 808ه) بقوله7: (اعلم أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعاني، وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها... والملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال، لأن الفعل يقع أولا، وتعود منه للذات صفة، ثم تكرر فتكون حالا، ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة، ثم يزيد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة).

3- مقارنة اللغات
إذا كان الألسنيون قد بدأوا بمقارنة اللغات متأخرين، أي في القرن الثامن عشر الميلادي، وابتدعوا ما يسمى بعلم اللغة المقارن، فإن علماءنا قد شرعوا في البحث فيها قبيل القرن الثاني للهجرة، إذ قارن الخليل بن أحمد بين الكنعانية والعربية بقوله8: (وكنعان بن سام بن نوح، ينسب إليه الكنعانيون وكانوا يتكلمون بلغة تضارع العربية).
ونجد أبا حاتم الرّازي (ت: 322ه) يوازن بدوره بين العربية والسريانية حيث قال9: (للعرب في كلامها علامات لا يشاركهم فيها أحد من الأمم نعلمه، منها: إدخالهم الألف واللام في أول الاسم وإلزامهم إياه الإعراب في كل وجه.. كما في "الطور"، وحذفوا الألف التي في آخر الحرف فألزموه الإعراب في كل وجه، وهو بالسريانية "طوراً" على حال واحد.. وكذلك اليم هو بالسريانية "يما" فأدخلت العرب فيه الألف واللام وصرفته في جميع الإعراب على ما وصفت).
كما قارن بعد ذلك بين العربية والفارسية بقوله10: (ومن علاماتهم التي فصّل بها كلامهم من كلام العجم إدخالهم القاف في آخر الاسم في موضع الهاء كقولهم"الاستبرق" وهو الغليظ، وهو "استبره" بالفارسية.. وإدخالهم الجيم في آخر الحرف كقولهم "موزج" و"ديباج" وهو "موزه" و"ديباه"...).
وفي نفس السياق نجد سيبويه الأندلس أبا حيان الأندلسي (ت: 754ه) قد تحدث بدوره عن صلات قربى بين لغتي العرب والحبش فقال11: (...من تكلم بهذا من العرب إن كان تكلّم به فإنما سرى إليه من لغة الحبش لقرب العرب من الحبش ودخول كثير من لغة بعضهم في لغة بعض. والحبشة إذا نسبت ألحقت آخر ما تنسب إليه كافاً مكسورة مشوبة بعدها ياء. يقولون في النسب... إلى الفرس الفرسكي... وكثيراً ما تتوافق اللغتان.. في ألفاظ وفي قواعد من التراكيب النحوية).

نكتفي بهذا النزر من أقوال العرب في مقارنة اللغات، وقصدنا من ذلك هو إعطاء فكرة عن مدى اهتمام علمائنا بهذه القضية دون الخوض في تفصيلات الموضوع.

4- حقيقة اللغة
إذا عدنا إلى تعريفات علمائنا اللغويين وجدنا فيها تعريفات قيمة ودقيقة للغة لا تقل شأناً ومكانة عما انتهى إليه بحث الألسنيين في ماهية اللغة. فهذا ابن جني يقول12: (أما حدّها فإنّها أصواتٌ يعبّر بها كل قوم عن أغراضهم). ولعل هذا التعريف الدقيق للغة يكون ابن جني قد ميّز بين لغتين: لغة منطوقة وأخرى مكتوبة. ودرس اللغة من منطلق أنها منطوقة مثل الألسنيين ولم يدرسها من كونها مكتوبة كما فعل فقهاء اللغة القدماء. ويبدو من خلال ما توصل إليه ابن جني في تمييزه بين اللغة المكتوبة والأخرى المنطوقة قد يكون مردّه إلى أن علماءنا القدامى اعتمدوا الرواية والمشافهة حينما شرعوا بجمع اللغة وتدوينها تمهيداً لاستقراء قواعدها وأبنيتها.
كما أبرز ابن جنيّ في موضع آخر رمزية اللغة باعتبارها أصواتاً ترمز إلى أشياء حيث قال13: (... وذلك كأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعداً، فيحتاجون إلى الإبانة عن الأشياء المعلومات، فيضعون لكل واحد منها سمة ولفظاً، إذا ذكر عرف به ما مسمّاه ليمتاز من غيره وليُغْنَى بذكره عن إحضاره إلى مرآة العين).
هذا الكلام الذي قيل في نهاية القرن الرابع عشر الهجري ينم عن حس رفيع يرقى إلى مستوى ما قاله الألسنيون في عصرنا. فلقد انتهى بحث الألسنيين في ماهية اللغة وحدّها إلى أنها أصوات نظام من الرموز الصوتية يصدرها جهاز النطق لدى الإنسان يعرب بواسطتها عمّا يشعر به من حاجات يريد إيضاحها والإفصاح عنها.
وهذه التعريفات وغيرها الموجودة في الموسوعات الأعجمية هي شبيهة بما ذهب إليه ابن جنيّ وغير بعيدة عنها، وربما فاقهم هذا الأخير. ويؤكد هذا ما ذهب إليه والتر وارتبورغ الأستاذ بجامعة بال بسويسرا بقوله في رمزية اللغة14: (كل مجموعة معينة من الأصوات يقابلها حالة وعي أو إدراك خاصة. فسلسلة الأصوات التي تكون الكلمة الفرنسية arbre مرتبطة ارتباطاً وثيقاً في مجال استعمال اللغة الفرنسية بتمثيلها arbre وهذا الارتباط قد يبدأ من الكلمة إلى التمثيل، وقد يبدأ على العكس من ذلك من التمثيل إلى الكلمة فما أسمع الكلمة حتى تنبعث الصورة image حالا في عقلي esprit، وعلى العكس من هذا إذا انبعثت الصورة في عقلي فإنها تثير الكلمة ولو لم تنطقها أعضاء النطق...).

إن تتبع آراء ابن جني في هذا الميدان تجعلنا أمام حقائق مثيرة تبوئه مكانة سامقة في هذا المجال، وتصنفه ضمن كبار علماء الألسنية الغربية في عصرنا هذا.

5- وظيفة اللغة
لقد اعتبر الألسنيون أن هذه الوظيفة تتمثل في كون اللغة توصيلاً داخل مجتمع معين. وبالتالي فإن اللغة في النهاية ظاهرة اجتماعية. وقد عبر عن وجهة الألسنيين كافة فندريس حين قال15: (في أحضان المجتمع تكونت اللغة... فاللغة وهي الواقع الاجتماعي بمعناه الأوفى تنتج الاحتكاك الاجتماعي، وصارت واحدة من أقوى العرى التي تربط الجماعات..).
ولعل هذا ما ذهب إليه ابن جنيّ حيث نراه يؤكد على الجانب الاجتماعي والجماعي للغة، ويرى أيضاً أن اللغة لا تكون إلا داخل المجتمع. وعلى هذا الأساس يكون ابن جني له قدم سبق في هذا الميدان مقارنة بعلماء الألسنية.
وبهذا الصدد يطالعنا علامة آخر هو الجاحظ برأي رائع يسبق علم اللغة الاجتماعي فيقرر حقائق لم يُفصّل فيها علماء الألسنية بعد. لقد وضّح هذا العالم المتميز أنّ كلام الإنسان لا يمكن اختزاله في كونه مجرد القدرة على استعمال الصوت الطبيعي في الصياح لأن حيوانات كثيرة تتمتع بأصوات تشبه صوت الإنسان بمقادير متفاوتة (... ومتى أحببت أن تعرف ذلك فتَسمَّعْ تجاوب السنانير، وتوعُّدَ بعضها لبعض في جوف الليل، ثم أَحصِ ما تسمعه وتَتبّعْه، وتوقَّفْ عنده، فإنك ترى من عدد الحروف ما لو كان لها من الحاجات والعقول والاستطاعات، ثم ألّفتها لكانت لغة صالحة الموضع متوسطة الحال...)16. فالصوت بمفرده لايكوّن لغة. ولِيّصيرَ هذا الصّوتُ لغةً لابد أن تكتمل فيه شروط أسماها الجاحظ بالحاجات والعقول والاستطاعات. فالجاحظ يريد أن يؤكد في هذا المضمار أن اللغة لا تتمظهر في مخارج حروفها بل تمثلها قدرة إنسانية مفكرة عاقلة ومبينة عن الحاجات البشرية في مجتمع إنساني.

لا عجب أن نؤكد في ضوء الحقائق العلمية التي توصل إليها الجاحظ أنه يعطينا للغة نفس الحدود والرسوم التي أعطانا إياها عالم الألسنية الأمريكي إدوارد سابير من خلال تعريفه القائل17: (الكلام وسيلة إنسانية خالصة، ولا غريزة فيه إطلاقاً، تمكنه من توصيل الأفكار والانفعالات والرغبات من طريق نظام من الرموز الصوتية الاصطلاحية على وجه التغليب والتعميم تصدرها أعضاء النطق بصورة إرادية).
ونرى الجاحظ في موضع آخر يذهب إلى أبعد من ذلك حيث أكّد أن اللغة ظاهرة اجتماعية، إذ ربط سبب وجود الكلام بسبب وجود الحاجة إليه، ويدعم هذا الرأي قوله18: (... إن من أعون الأسباب على تعلم اللغة فرط الحاجة إلى ذلك. وعلى قدر الضرورة إليها في المعاملة يكون البلوغ فيها والتقصير عنها...).
وإذا كانت اللغة حاجة اجتماعية لا ينشئها فرد بل يتواضع عليها مستخدموها، فإننا نرى الاستراباذي (ت: 688ه) يؤكد نفس الفكرة حين قال19: (والمقصود من قولهم وضع اللفظ جعله أولا لمعنى من المعاني مع قصد أن يصير متواطأ عليه بين قوم... ولا يقال لكل لفظة بدرت من شخص لمعنى إنها موضوعة له من دون اقتران قصد التواطؤ بها).

ونستخلص من قول الاستراباذي السابق أن اللغة ليست ظاهرة غريزية بل هي تكتسب اكتساباً. ولقد بيّن ابن فارس عملية الاكتساب هذه بقوله20: (تؤخذ اللغة اعتيادياً عنهم كالصبي العربي يسمع أبويه وغيرهما، فهو يأخذ اللغة عنهم على مرّ الأوقات. وتؤخذ تلقّناً من ملقّن. وتؤخذ سماعاً من الرواة الثقات ذوي الصدق والأمانة...).
لقد تقدّم ابن فارس في رأيه هذا على عالم الألسنية إدوارد سابير الذي وازن اللغة بالمشي، فرأى المشي وظيفة إنسانية عضوية موروثة تستوي فيه كل الأمم، أما اللغة فوظيفة إنسانية مكتسبة. فالإنسان لا يتكلم لأن لديه جهازاً للنطق يصبح صالحاً مع النمو للكلام، ولكنه يتكلم لأنه اكتسب هذه اللغة من المجتمع. وعلى ذلك فإن طفلاً عربيّاً إذا وضع منذ ولادته في اليابان أو في ألمانيا أو في إنجلترا دون أن يكون حوله وسط اجتماعي يتكلم العربية فإنه سيتحدث اللغة اليابانية أو الألمانية أو الإنجليزية تحقيقاً وتأكيداص.

6- علم الأصوات اللغوية
لم يبرز هذا العلم بكونه علماً مستقلاً إلا في نهاية القرن الماضي وبداية هذا القرن. لكن قريحة العرب قد جادت ببعض الآراء في هذا المجال سبقت بها نظريات هذا العلم. وقد تمثلت آراء العرب القدامى في حركات الإعراب التي اعتبرت بحق من البدايات الأولى في إسهامات العرب في الدراسات الصوتية. وقصة وضع حركات الإعراب مشهورة منثورة في كتب اللغة وقطباها زياد بن أبيه وأبو الأسود الدؤلي وقد أوجزها الداني بقوله21: (رجع أبو الأسود الدؤلي من فوره إلى زياد فقال: يا هذا، قد أجبتك إلى ما سألت، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن فابعث إلي ثلاثين رجلاً، فأحضرهم زياد فاختار منهم أبو الأسود عشرة ثم لم يزل يختار منهم حتى اختار رجلا من عبد القيس فقال: خذ المصحف وصبْغاً يخالف لون المداد، فإن فتحتُ شفتيَّ فانقط واحدة فوق الحرف، وإذا ضممتهما فاجعل النقطة إلى جانب الحرف، وإذا كسرتهما فاجعل النقطة في أسفله، فإن أتْبعتُ شيئاً من هذه الحركات غُنّة فانقط نقطتين، فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخره).

ومما يستحق ذكره في هذا المقام أن تصنيف الحركات يعتمد في الدرس اللغوي الحديث هذا المبدأ الفيزيولوجي الذي استحدثه أبو الأسود الدؤلي (ت: 69ه).
وفي هذا السياق ذاته نجد الألسنيين قد فرقوا بين الحركات القصيرة والأخرى الطويلة، وانتهوا إلى أن الفرق بينهما لا يعدو أن يكون فرقاً كميذاً لا كيفيّاً. وفي نفس المعنى نرى جان كانتينو يدرس المدى الذي يستغرقه طول الحركة فيقول22: (يطلق اسم حركات طويلة على الحركات التي يمتدّ فيها إخراج النفس امتداداً يصير معه مدى النطق بها مساوياً لمدى النطق بحركتين بسيطتين بل وقد يتعدّى ذلك).

وفي اعتقادي أنه لا يمكن لأحد منا أن ينكر ريادة الخليل في مجال الدراسات الصوتية خاصة حينما رتّب "معجم العين" ترتيباً صوتيّاً موزعاً الحروف على مخارجها ناسباً كل مجموعة إلى مخرج من مخارج النطق. وقد دلّته أذنه الموسيقية إلى التمييز بين الحركات الطوال والقصار، وتبيّن أنها علاقة في الكم لا في الكيف. ولعل اهتمام الخليل بالدراسات الصوتية هي التي ساعدته على اكتشاف بحور الشعر.
وتعتبر بحوث سيبويه الصرفية من مثل الإدغام دراسة صوتية. وقد ربطت الدراسات الحديثة الإدغام بالأصوات ربطاً علميّاً دقيقاً.
وأتى بعدهما ابن جني فأسدى إلى الدراسات الصوتية آراءً سديدة وأفكاراً قويمة تعد بمثابة منطلقات أساسية لعلم الأصوات.
وقد أبان ابن جني عن نظرته في الحركات فإذا هي23: (أبعاض حروف المد واللين، وهي الألف والياء والواو، فكما أن هذه الحركات ثلاثة فكذلك الحركات ثلاثة، وهي الفتحة والكسرة والضمة... وقد كان متقدمو النحويين يسمّون الفتحة الألف الصغيرة، والكسرة الياء الصغيرة، والضمة الواو الصغيرة).
ثم إن ابن جني يعتبر، دون مغالاة، واضع مصطلح علم الأصوات، ويشهد على ذلك قوله24: (اعلم أن الصوت عرض يخرج من النفس مستطيلاً متّصلاً حتى يعرض له الحلق والفم والشفتين مقاطع تثنيه عن امتداده واستطالته فيُسمّى المقطع أينما عرض له حرفاً).

لقد استطاع ابن جني أن يفرّق بينهما تفريقاً بيّناً ودقيقاً لم يقدر الألسنيون أن يبزّوه في هذا الميدان حينما قال25: (فقد ثبت بما قدمناه معرفة الصوت من الحرف، وكشفنا عندهما بما هو متجاوز للإقناع في بابهما، ووضحت حقيقتهما لمتأملّهما).
وهذا ابن يعيش (ت: 643ه) هو الآخر قد بيّن الفرق بين الصوت والحرف مما لم يترك زيادة لمستزيد بقوله26: (والحرف إنما هو صوت مقروع في مخرج معلوم). كما أنه حدّد المخرج بقوله27: (والمخرج هو المقطع الذي ينتهي الصوت عنده).

ولم تتوقف إسهامات العرب في الدراسات الصوتية عند هذا المستوى بل تعدوا ذلك فجعلوا لكل وحدة صوتية رمزاً مستقلاً سموها فيما بعد مصطلح (الفونيم)، وفرقوا بين الأصوات المتماثلة والمتشابهة بناء على ترتيب صوتي متقن ودقيق. بالإضافة إلى ذلك حاولوا أن يفسّروا اللهجات بالمميزات الصوتية المنطوية عليها.

 7- عيوب النطق
إن هذا المصطلح لم يرد تداوله عند لغويينا القدامى بل استخدموا مصطلحات أخرى مماثلة ومقاربة له في المعنى فذكروا الآفة. قال المبرَّد28: (ت: 285ه): (يقال للعَيّ: لجلاج، وقد يكون من الآفة تعتري اللسان). وقد أورد الجاحظ هذه الآفة قائلاً29: (... ثم رجع بنا القول إلى الكلام الأول في ما يعتري اللسان من ضروب الآفات).
وقد وجدنا في أقوال الجاحظ ما يثبت تمييزه بين هذه الأمراض مجتمعة. قال الجاحظ30: (يقال في لسانه حُبْسة: إذا كان في لسانه ثقل يمنعه من البيان. فإذا كان الثقل الذي في لسانه من قبل العُجْمة قيل: في لسانه حكلة).
وقد تحدث الجاحظ عن بعض الأمراض من النّاحية الفيزيولوجية فعقد في البيان والتبيين فصلاً بعنوان31 : (ذكر الحروف التي تدخلها اللُّثغة وما يحضرني منها"، وقد رأى أنها أربعة أحرف هي: القاف والسين واللام والراء).
ويبين في موضع آخر مصاعب النطق عند بعض المتكلمين كالتعتعة والحبسة والعقلة واللكنة والحكلة وغيرها32.
وقد زاد المبرد على العيوب السّابقة عدداً من العيوب الأخرى كالرُّتة والغمغمة والطمطمة والغنة وغيرها33.

يتضح مما سبق ذكره من العيوب أن العلة فيها عائدة إلى سوء الإخراج العضوي. كما يتبين أيضاً أن الجاحظ يقترب بشكل كبير في بحثه هذه الأمراض من البحوث اللسانية المعاصرة المبنية على المقاييس اللسانية النفسية أو ما يطلق عليه بالمصطلح اللساني psycholinguistics الذي ترجم بعلم النفس اللغوي أو علم اللغة النفسي34. ولم تتوقف جهود الجاحظ بتحديد وتشخيص أمراض النطق بل تعدى ذلك إلى محاولة وصف الدواء المفيد والفعّال الذي قد يقضي على بعضها35. ومن المذهل أن نرى علم اللغة الحديث يقرّ هذه الأدوية التي اهتدى إليها الجاحظ.

ولم يكتف الجاحظ بإبراز عيوب النطق الفيزيولوجية بل حاول أن يذكر بعض العوامل الاجتماعية التي أفرزت هذه الظواهر. وعليه يكون الجاحظ قد أدرك بعداً آخر من أبعاد علم اللسان الحديث هو البعد الاجتماعي الذي أطلق عليه الألسنيون الأمريكيون اسم علم اللسان الاجتماعي أو Sociolinguistic.

ثالثاً: مناهج البحث اللغوي

لقد اعتمدت الألسنية الحديثة مناهج عديدة في دراساتها وبحوثها اللغوية، تبعاً لاختلاف نظرة أصحابها وتعدد مدارسهم. وفي هذا السياق سنركز على أبرز المناهج الموظفة في هذا المجال، وهي كالآتي:

المنهج الوصفي

أقام أسسه ومبادئه دي سوسير وغرضه وصف اللغة من حيث هي تنظيم قائم بذاته، وفيه توصف اللغة36: (بوجه عام على الصورة التي توجد عليها في نقطة زمنية معينة ليس ضروريّاً أن تكون في الزمن الحاضر). يبدأ الوصف عند أصحاب هذا المنهج بالصورة المنطوقة للغة ثم ينتقل إلى الصورة المكتوبة، وتتم عملية تسجيل الظواهر لديهم انطلاقاً من الاستقراء.
ولو رجعنا إلى تاريخ النحو العربي لوجدنا تجليات هذا المنهج الوصفي حاضراً بقوة، لأنه ينطلق من الاستقراء كما يوثّق ذلك كتاب سيبويه. ثم إن البدايات الأساسية للنحو العربي لها علاقة وثيقة ومباشرة بالواقع اللغوي المبني على االاستخدام. وتعتبر مسألة تلقّي النصوص من أفواه الرواة ومشافهة الأعراب من أهم الأمثلة الدالة على الاتصال اللغوي. وبناءً على هذا السبيل استطاع العلماء استقراء اللغة واستنباط القواعد التي ينبئ بها هذا الاستقراء وينبثق عنه.

المنهج التّاريخي

يهتم بدراسة اللغة عبر تاريخها الطويل، ودراسة مظاهر تطورها وأسبابه ومظاهره. ولغتنا عبر تاريخها الطويل، شأنها في ذلك شأن اللغات الأخرى، مرّت بمراحل من بداوة وحضارة وانتقال من عصر الظلمات إلى عصر النور. لهذا رأينا بعض الألفاظ الجاهلية صارت تكتسب معاني دلالية جديدة بمجيء الإسلام وتطور المجتمع الإسلامي37.
وفي لغتنا العربية قسم اشتغل فيه النحاة واللغويون قديماً وحديثاً يعتبر من صميم اهتمامات المنهج التّاريخي اهتمت به دراسة الأخطاء اللغوية، وقد كتبت فيها مؤلفات ورسائل عديدة.

المنهج التحويلي

يرى هذا المنهج أن الجملة لها مبنيان: مبنى ظاهري، ومبنى باطني. وضوابط الاستنباط اللغوي هي التي تؤلف العلاقة بين المبنيين فتحوّل المبنى العميق إلى المبنى السطحي. وليس غريباً أن نجد بعض ملامح هذين المبنيين في جملتنا العربية.
ولقد لخص بعض الباحثين الجوانب التحويلية في النحو العربي بالأمور الآتية38:
- قضية الأصلية والفرعية: النكرة أصل المعرفة، والمفرد أصل الجمع...
- قضية العامل: يرى أنها تمثل البنية العميقة أو الجانب الإدراكي في اللغة.
- قواعد الحذف
- قواعد الزيادة والإقحام
- قواعد إعادة الترتيب

وأخيراً، نكتفي بهذا النزر فيما التقت فيه دراستنا اللغوية القديمة مع الدراسات الألسنية الحديثة. لذلك أرى، أنه خليق بنا أن نعيد قراءة هذا التراث قراءة متروية ومتمهلة في ضوء المناهج الحديثة التي تعيننا على فهم تراثنا فهماً عصرياً سليماً دون المساس بمقومات وجودنا العربي وخصوصياته اللغوية.



الهوامش
1. دراسات لسانية تطبيقية: د. مازن الوعر، دار طلاس دمشق، ط1/1989، ص: 31.
2. Le langage.Sous la direction de Bernard Poitier. P 253
3. علم اللغة مقدمة للقارئ العربي: د. محمود السعران، دار النهضة بيروت، ص: 49.
4. الإحكام في أصول الأحكام: ابن حزم الأندلسي، مطبعة الإمام، 1/32.
5. سورة إبراهيم، الآية: 4.
6. سورة الدخان، الآية: 58.
7. المقدمة- ابن خلدون: تحقيق د. وافي، دار النهضة، 3/1278.
وينظر في هذه المسألة: كتاب الصاحبي في فقه اللغة لابن فارس ص: 62، كتاب الخصائص لابن جني 2/15، 16.
8. كتاب العين- الخليل بن أحمد: تحقيق عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية بيروت 2002، 4/52.
9. كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية- أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي: عارضه بأصوله وعلّق عليه حسين الهمداني، مركز الدراسات والبحوث اليمني، ط1/1994-1/89،90.
10. المصدر السابق، 1/90.
11. تفسير بحر المحيط- أبو حيان محمد بن يوسف: دراسة وتحقيق عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معرض، دار الكتب العلمية بيروت، ط1/1993-4/167.
12- الخصائص- أبو الفتح عثمان ابن جني: تحقيق محمد علي النجار، دار الكتب المصرية 1/ 33.
13. المصدر السابق: 1/44.
14. علم اللغة: د. محمود السعران، دار النهضة العربية للنشر بيروت، حاشية 1، من ص: 72، 73.
15. اللغة- ج. فندريس، ترجمة عبد الحميد الدّواخلي ومحمد قصاص وفاطمة خليل، المركز القومي للترجمة القاهرة، ط/2014 ص: 35.
16. الحيوان- أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: تحقيق عبد السلام هارون، دار الكتاب العربي بيروت، 1969، 5/ 289.
17. علم اللغة الاجتماعي عند العرب: د. هادي نهر، مكتبة لسان العرب، ط1/1988- ص: 64
18. الحيوان- الجاحظ: تحقيق عبد السلام هارون، 5/ 290.
19. شرح الرضي لكافية ابن الحاجب: الرضي الأستراباذي، 1 تحقيق يحيى بشير مصري، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط1/1996- 1/4.
20. الصاحبي في فقه اللغة- أحمد ابن فارس: تحقيق عمر فاروق الطباع، مكتبة المعارف بيروت، ط1/1993- ص: 62.
21. المحكم في نقط المصاحف- أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني: تحقيق عزة حسن، دار الفكر دمشق، ط2/1997- ص: 3، 4.
22. دروس في علم أصوات العربية- جان كانتينو: ترجمة صالح قرمادي، ص: 145، 146.
23 . سر صناعة الإعراب- ابن جني: تحقيق حسن هنداوي، دار القلم، ط2/1993- 1/17.
24. المصدر السابق، 1/7.
25. نفسه، 1/9.
26. شرح المفصل- ابن يعيش: مطبعة المنيرية، 10/124.
27. المصدر السابق، نفس الصفحة.
28. الكامل- المبرّد: تحقيق أبو الفضل إبراهيم، دار النهضة مصر، 1/14.
29. البيان والتبيين- الجاحظ: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر القاهرة، 1948- 1/57.
30. الحيوان- الجاحظ: 4/21.
31. البيان والتبيين- الجاحظ: 1/34.
32. المصدر السابق، 1/37.
33. الكامل- المبرّد، 2/220، 221.
34. سيكولوجية اللغة والمرض العقلي- جمعة سيد يوسف: عالم المعرفة 145، ص: 17.
35. البيان والتبيين- الجاحظ: 1/134.
36. أسس علم اللغة- ماريو باي: ترجمة أحمد مختار عمر، عالم الكتب، ط8/1998- ص: 137.
37. المزهر في علوم اللغة وأنواعها- عبد الرحمن جلال الدين السيوطي: المكتبة العصرية صيدا، 1/209.
38. منهج البحث اللغوي- علي الزوين: دار الشؤون الثقافية العامة بغداد، ط1/ 1986 ص: 47، 48.
 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها