عالقون في هذا المكان منذ الصباح. كان من العبث خروجنا إلى الجبال الجرداء خارج المدينة. جميعنا نعلم أنّ السيّارة التي وصلنا بها إلى هنا هرمةٌ جداً، فكيف تصعد هكذا مرتفعات. ولم يكن ارتفاع الجبل، واختفاء الطريق الترابيّة التي كانت مرسومةً في البداية وحدهما سببَ تعطّلها؛ بل أسهمتْ في ذلك حرارة الشمس التي بدتْ لنا ربيعيّةً تماماً قبل أن نشوى بقيظها.
ملّتْ هواتفنا المحمولة محاولاتنا البائسة المتكرّرة للتواصل مع شرطة النجدة، أو حتى الإسعاف، عازمين على إبلاغ أيّ شخصٍ قد يأتي لمساعدتنا، فطبيعة الجبال الصخريّة القاسية حجبتنا عن عالم الاتصالات وجعلته مستحيلاً. أخيراً توقفنا عن المحاولة بعد أن لاحظنا انخفاض شحن البطّاريات، وخفنا من نفادها، وفقداننا آخر أمل لنا.
كانت سلّة الطعام الفقيرة على وشكِ إفلاسها أيضاً. فقد زوّدناها بالخبز، وبعض الجبن، والقليل من مربّى المشمش، وعشْرِ قطعٍ من المكدوس. هذا كان أقصى ما أمكننا الاستغناء عنه من مؤونة بيتنا المشترك، في سبيل إقامة رحلةٍ ترفيهيّةٍ، كنّا نحتاج إليها جميعنا، بعد شهور من التعب والكدر. وها نحن الآن ننظر إلى بعضنا نظرات خوف، وضجر، وغضب. تعمينا انفعالاتنا عن رؤية أيّ حلّ في الأفق. فالمسافة الّتي تفصلنا عن أطراف المدينة، على الرغم من بعدها ليست المشكلة الرئيسة التي نواجهُها؛ فالطبيعة الوعرة للمنطقة، ازدادت مخاطرُها حين أصبحت الطريق الّتي كنا نسير فيها، فجأة، كأنّها طريق باتجاه شاقوليّ صاعدٍ إلى السماء. وتيقّنا بأنّ أيّ سقوط لأحدنا - في حال قرّرنا الاستغناء عن السيّارة والعودة مشياً على الأقدام - تعني نهايته الحتمية.
تتنوع هواجسنا وأفكارنا تنوعاً ذا غزارة متواترة، مالئةً رؤوسنا بجديدها بين دقيقة وأخرى. تتصاعد الاتهامات في سيناريوهات داخليّة، يكظمها أصحابي الّذين أحفظ تقلّبات أفكارهم عن ظهر قلب. استطعت، وأنا جالسٌ على طرف صخرةٍ مائلةٍ أمام السيّارة؛ قراءة معظم أفكارهم المكتوبة في ملامح وجوههم القلقة، وهم يجاهدون ليبقوا هادئين، مع علمهم أن هذا أيضاً لن يفيدهم في شيء.
وقفتُ بعد صمتٍ ساد طويلاً. وقلت بصوتٍ هادئ: "هل من أفكار"؟ بسؤالي هذا كأنّي فجّرتُ صمّامات الأمانِ التي تحمي طناجر الضغط في أدمغتهم... تبع ذلك سيلٌ من ردود رفاقي الأربعة، في اللّحظة نفسها، فلم أفهم شيئاً من أحاديثهم. لكنّ الغضب بدا واضحاً من سؤالي الساذج الّذي ليس له إجابة عندهم. حين لاحظوا أن أصواتهم ارتفعت معاً؛ قرّروا أن يصمتوا من جديد. أردتُ من سؤالي أن نفكّر معاً في ما سنفعل. وتساءلتُ: "هل من الصواب أن أكلّمهم من جديد"؟ وغرقتُ مرّةً أخرى مع أفكاري، مثلما هم غارقون.
غادرنا قبل شروق الشمس، آملين أن نستمتع بنهارٍ بهيج، لنعيش كما يعيش الناس عندما يخرجون للتنزه، نمضي أوقاته مختلفةً عن أوقات روتيننا اليوميّ، ونريح أرواحنا المرهقة بعد معاناتنا الأمرّين في الشهور السابقة. كان الشتاء الماضي صعباً عسيراً أضنانا فيه العمل، وأنهكنا صراعنا مع صاحب المنزل، الّذي خيّرنا بين دفع ضعف قيمة إيجار البيت، أو إخلائه حتّى يؤجره لغيرنا. ونبيت جوعى في ليالٍ كثيرة، لقلّة المال، وعسر الحال.
نحن خمسة شبّان كُتب عليهم الشقاء، ويتبعهم النّحس كظلّهم. سافرنا لنعمل في المدينة الكبيرة حين قيل لنا إنّ فرص العمل فيها أفضل بأضعافٍ من فرصه في قريتنا الصغيرة، التي لم يعد لنا فيها ماء لنزرع، ولا عمل خدميّ يمكّننا من العيش بكرامة تغنينا عن سؤال الناس. فعقدنا العزم على تجربة حظّنا في المدينة بعد أن استنفدنا كلّ وسيلةٍ في قريتنا وما جاورها، لنعمل ونعيل أهلنا.
كنّا رفاق طفولةٍ تربينا معاً. سكنّا الحيّ نفسه، وارتدنا المدرسة ذاتها. عاشتْ أسرنا كأنّها عائلة واحدة، عاش أبناؤها متشاركين السرّاء والضرّاء على مرّ السنوات، من جيل إلى جيل. حاول أهلنا مساعدتنا بأقصى ما استطاعوا، وعلّقوا علينا آمالهم، علّنا نكون السند والخلاص لضيق أحوالهم، فجمعوا ما استطاعوا جمعه من المال، وتشاركوا جميعهم في شراء سيّارة زراعيةٍ صغيرةٍ مستعملةٍ من نوع بيك آب، لتساعدنا على العمل في المدينة، وتسهّل تنقلاتنا. فكانت هذه السيّارة كل ثروتنا، وثروتهم.
عند وصولنا إلى المدينة، توجّهنا مباشرة إلى مكتب عقاريّ، ليعيننا على إيجاد بيت مناسب في حيّ شعبيّ تكون أسعار الإيجار فيه زهيدة. بهذا نكون على استعداد لبدء مشوار البحث عن عمل، فقد وجدنا منزلاً يؤوينا، وعندنا سيّارة يمكننا استخدامها. لكنّ الأمور لم تكن بهذه السهولة.
مرّ الأسبوع الأوّل، والثّاني، ثمّ الثّالث، ولم يفلح واحد منا في إيجاد عمل. ما كان انتشارنا في جهات المدينة كلها يومياً مجدياً، ولا اجتهادُنا في طلب أيّ عمل متوفرٍ مثمر، مهما كان نوعه. قابلنا أرباب عمل اعتذروا بذوقٍ وأدبٍ؛ لاكتفائهم بالعاملين عندهم، وآخرين طردونا كأنّنا كلاب ضالّة، في حين عاملنا قليلون منهم بقرف، نافرين منّا كأننا مصابون بالجرب. وخلاصة القول، ثلاثةٌ منّا استطاعوا أن يعملوا في ورَشِ بناءٍ، ونجارةٍ، ومحلٍّ لبيع الفول. بينما بقي اثنان عاطلين عن العمل، لم يوفّقا إلا بأعمالٍ مؤقّتةٍ عابرة غير مستقرّة...
ليلة أمس اجتمعنا كعادتنا قبل النوم. كنّا متعبين. على حافة الانهيار. تضجّ بطوننا وعظامنا وأرواحنا بأنين مسموع. تمتم أحدنا: "إلى متى"؟ صمتنا دقيقةً بدتْ ثقيلةً على الجميع. نطقتُ أخيراً، وكنتُ راغباً في إبهاجهم: "غداً يوم الجمعة. ما رأيكم أن نخرج في نزهة لنحسّن مزاجنا قبل أن نعود للقتال من جديد"؟ ابتسموا بمرارة، فقلتُ لهم مشجعاً: "بقي من المؤونة التي أرسلها الأهل القليل. نأخذه معنا، ونذهب لنأكل في الطبيعة بدلاً من الأكل هنا. ما رأيكم؟ هيّا، لن نتكلّف أي شيء عدا الوقود الموجود في السيّارة".
تحمّس الجميع فعليّاً، وبدأ النقاش حول اختيار المكان الّذي سنقصده. طرح الجميع أفكاراً مجنونة تختار أماكنَ في البلاد لم يتنزه فيها الناس قط. سيطر على الجميع شعورٌ قويٌ بأنّنا لسنا مثل الآخرين، خُلقنا فعشنا على هوامش الحياة، لا طعامَ عندنا مُشبعٌ، ولا وجوهَ جميلة لنا، ولا ملابس فاخرة لنرتديها، وبيوتنا المتشققة المتعبة تضيق بنا. لا، لسنا مثل أحد آخر، ونزهتنا لن تكون مع الآخرين. كان كلّ مكان جرى اقتراحه لنزهتنا آخذاً للموت، مثل الذي نواجهه في نزهتنا هذه تماماً، وبالطبع استقر الرأي على الذّهاب إلى الجبال البعيدة خارج المدينة...
جَالَ في بال كلّ واحد منّا أن يومنا هذا بداية النهاية. كان قدرنا أن نترك أهلنا لنعاني من فشلٍ يتلوه فشل، في دنيا بدت كأنَّها حَكمتْ علينا بالموت جوعاً وعطشاً، بالموت ذلاً وقهراً. أو نختار نحن بطريقتنا ميتتنا كما نشاء، كأن تأكلنا الضباع، التي تشتهر بها هذه الجبال الجرداء، التي تبدو عقيمةً لم تنجب حتى الأشواك.
وقفتُ، وقد أزعجني هذا الصمت الذي بدا لي أبدياً: "إذن! إلى متى"؟ كرّرتُ جملة رفيقي بالأمس. تبادل رفاق الرحلة نظرات سريعة، ووقفوا جميعاً. سألَ رفيقنا أخيراً: "هل منكم من يلوم الآخرين على شيء"؟ هزّ الجميع رؤوسهم بالنفي.
أمسك بعضنا بأيدي بعض، ووقفنا ننظر إلى الأسفل.
ها هي لحظة الخلاص بادية، ها هي طريقنا مرسومة أمامنا. إليك قادمون أيّتها الحرّيّة.