المجالس.. أيقونة التراث المتجدد

محمد نجيب قدورة


كان في مضافة جدي مجلس يتوسطه كانون يوقد من خشب الزيتون، ودلال القهوة والفناجين تزين المكان برسوم على الفناجين، ثم أسمع موسيقا سكب وطرقاً تعقبه كلمة تفضل، ذلك مشهد لا يغيب عن البال، خاصة أن خالي ظلّ يحدثنا من أبو ظبي عن مجلس الشيخ زايد ورائحة البن تفوح بعبق ممزوج بعطر المباخر، والمجلس أحاديث متبادلة في شؤون وشجون إن دلت على شيء فهي تدل على أن للمجلس دورَه في لملمة شمل الأخبار من شاهد وراوٍ وشاعر، فكيف إذا كان المجلس في حضرة رائد قائد لا تصدر منه إلا الحكمة والموعظة الحسنة.

 

ولأنني في ثقافتي الأدبية مهتم بهذا السلوك الاجتماعي الأصيل كان لا بدّ أن أتذكر المتنبي وهو يفاخر بنفسه في قوله (سيعلم الجمع ممن ضمّ مجلسنا)، وهذه العبارة وإن كانت في سياق آخر تشير إلى أن المجلس فيه أضمومة من المستضافين والمحاورين والمفاخرين، ناهيك عن ضرورة مراعاة السنع والتقليد في الجلسة والمداخلة، وتقدير ذوي الشأن، وهنا يحضرني قول من الشعر الشعبي يقول فيه الماجدي ابن ظاهر:
وصلوا يا حضور على الرسول .. عدد ما لاح براق اليماني

كل ذلك بعد أن أطلق حكمه في سردية مضيئة لكيفية التعامل والتواصل في قوله:
ولا جافيت لي خل مودّ .. ولا صافيت حدّ ما اهتواني
ولا لزم الحريم إلا الرجال .. ولا لزم الرجال إلا المعاني
أنا وياك في ولف جميع .. ويفرق بيننا صرف الزماني

المجالس مدارس:

لا بأس أن يكون الاستهلال حسناً في تقديم لما يمكن اعتباره أيقونة للتراث المتجدد، ألا وهو المجلس سواء أكان مؤسسياً أم ثقافياً أم في حيّ من الأحياء، أم في خيمة أم قصر، أم في حضرة رجل ذي شأن أي شأن، وفي كل ما سبق القصد استشفاف المعاني في الحكمة الدهرية والرواية عن حكاية، والرامسون يواسون ويجاملون ويعلمون.. فوجود شبة النار والدلة له مغزى حيث القهوة العربية إرث حضاري يبين الكرم والأريحية والهمة والفزعة، بل إن الديوانيات والبرزات تعتبر إذاعة محلية ومصنعاً لحكايات، فكيف إذا أمست المجالس داخلة في رؤية وأهداف دولة الإمارات كاستراتيجية تهيئ المكان، وتوسع الفكرة لتشمل الفعاليات والأعراس الجماعية، وتعظيم الأجر في العزاء، فيغدو الوطن المجلسي منبراً لغرس القيم والعادات والسنع، ولتظهر العناوين التالية: مجالس الضواحي كما في الشارقة، إضافة إلى المجلس الاستشاري، ومجلس الحيرة الأدبي، فإذا طرقت أبواب دبي ستدخل مجلس أم سقيم والخوانيج، وتتذكر فرضة دبي التي كانت مجلساً لأخبار وأشعار يعقدها الشاعر سالم بن علي العويس والشاعر سلطان بن سالم القاسمي رحمهما الله.. ثم تسمع وترى المجالس الرمضانية ومجالس شعراء البادية.. وكلك لهفة لتدخل تاريخ أبو ظبي، وتتذكر المجالس التي قامت بالرعاية الاجتماعية والثقافية كمجلس الهواشم في (الباهية)، ومجلس ربدان عند جسر المقطع، ومجلس المشرف حتى في العين والظفرة.. لك أن تقول في كل بيت مجلس يوازي ويجاري مجالس الجمعيات الشعبية في تنمية الثقافة، والمعرفة والتوعية الصحية والتراثية.

الشيم المجالسية:

ها نحن نطور المفاهيم في قاعات استقبال ونواد، لكن كل ذلك لا ينسينا مجالس حاتم الطائي في منازله، ولا مجلس وادي القرى الثقافي في (محافظة العلا)، ولا مجلس المتنبي في حلب، ولا مجالس المشورة وأهل الرأي بعيداً عن تجمعات الغوغاء التي تفرق ولا تجمع، تضيع ولا تزرع.. أعني أن المجلس عند العرب ركن من أركان الوعي والتأصيل التراثي، الذي لا ينسينا مجلس المدفع في الشارقة، ولا مجلس شاعر علمنا السنع في المجلس بقوله:
اجلس بمجلس من يعزّك .. ويدراك اللي يرحب بك

وآخر يقول:
دورت لي مجلس برتاح له بالي .. مجلس يوسع صدر نفسي ويطريها

تلك مجالس الأصحاب من أهل المعرفة، ويتبع كل ما سبق مجالس المضافات، والمجالس الطبية والنيابية والرمضانية، غير أن التطور الحضري أوجد لنا في الشارقة مجالس الضواحي التي استحدثها صاحب السمو الشيخ سلطان بن محمد القاسمي؛ لترسيخ الترابط والتواصل الاجتماعي، لكون المجالس حافظة وحاضنة للأصول التراثية التي هي من لوازم التماسك والتلاحم. أجل تطورت فكرة المجالس لتدخل الشؤون الوزارية والاستشارية والقضائية، والعسكرية والثقافية، والتي يمثل الأخير منها مجلس الحيرة الأدبي في الشارقة.

المجالس مشروع استراتيجي:

إن رحلتي مع المجالس لا تنسى؛ فقد كان لجدي مجلس مخترة ومشورة اجتماعية كصلة بين أولي الأمر، ولا عجب أن نرى أمثاله في مجلس المدفع في الشارقة، ومجلس وادي القرى في محافظه العلا، والذي زرته لأراه في أماسيه وفعالياته الثقافية والاجتماعية يذكرني بمجالس حاتم الطائي في منازله.. أقول: المجلس هو مكان اجتماع يأخذ مسميات متعددة كغرف استقبال للتحادث والتواصل، ومناقشة قضايا تهم الجلساء في هيئات الضرورة التي تستدعي التجمع للتفكير، أو المسامرة بعيداً عن مفهوم تجمع الغوغاء الذين يتحلقون حول ما لا ينفع ولا يكون التكافؤ في السلوك الترادفي، وفي هذا للشعراء الشعبيين أقوال حكمية.

وأختم بأروع ما قيل في أيقونة المجالس:
المجلس اللي فيه حاقد ونمام .. مغنيني الله عنه ما دام أنا حي
كلط على مجلس هل الطيب بقدام .. واترك عفون الخلق في بارد الفي

هكذا هي المجالس استمرار لتراثنا العربي في نزهة الجليس.. ولا تزال المجالس ضرورة اجتماعية، تقرب بين أهالي المكان أكان صحراء أم بستاناً، قالت لي نفسي عنوان المجالس هذا ذكرني بأن خير الكلام ما قل ودلّ.
فقلت: اجلسي. زين واحكي عدل.

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها