
كثيرة هي النصوص السردية العربية التي دمج فيها السارد نبذاً متناثرة من الأخبار والوقائع، والحكايات الأسطورية، وجملة من المأثورات الشفوية القبلية في الصحراء. عمل من خلالها على بناء تركيب متعدد، أدرجه في سياقات سردية خاصة بعالم تخييلي صحراوي كبير. انبثقت من ثناياه شخصيات ذات آفاق مليئة بالألغاز/الأسرار. انخرطت في حركة صراع. تدور حول القيم، والانتماء، والتطلعات، والتملك والهوية، والرغبات. دفعتها إلى ضرب من المشاركات/العلاقات العابرة، وهي ترتحل من دون هوادة كأنها لا تعرف الاستقرار. لعل هذا ما يجعل أسرار الصحراء لا تتكشف إلا لأبنائها، بينما تبقى لغيرهم لغزاً محيراً وخيوطاً من''لال''/سراب. بهذه الخاصية، اصطبغت الروائية الإماراتية وداد خليفة روايتها الأخيرة "خبايا اللال" الصادرة في طبعتها الأولى عن دار العين، القاهرة، 2020، في 446 صفحة.
يؤشر عنوان الرواية على نوع من الارتباط الوثيق بالبيئة المحلية/الصحراء. حاول السارد بشكل حثيث سبر أغوارها من خلال اختراقه للزمن الماضي (القرن الماضي). قصد إعادة بناء ما حدث أثناء اكتشاف النفط عن طريق سرد أفقي. يستند إلى رؤية سردية تامة المعرفة على حد تعبير توفيطان تودروف1. يوثق من خلال رحلته السردية عبر الصحراء، لمرحلة تاريخية مفصلية من حياة الشعب الإماراتي قبيل وأثناء ظهور الذهب الأسود. كما يرصد تداعيات اكتشاف النفط وما جلبه من مطامع أجنبية وصراعات نالت من صفاء الصحراء ونقائها. فما الدلالات الممكنة لهذه العتبة النصية/''خبايا اللال''؟
عتبة النص الرئيسية
تتشكل العتبة الأولى/غلاف الرواية من عنصرين أساسيين. عناصر لغوية تحدد هوية هذا النص السردي. وأخرى غير لغوية (لوحة الغلاف). تساهم في بناء دلالة النص السردي.
أ. العناصر اللسانية
تتكون العناصر اللغوية من اسم الروائية وداد خليفة (إشارة إلى صاحب النص)، والميثاق الأتوبيوغرافي/رواية على حد تعبير فيليب لوجون2، واسم الناشر (دار العين للنشر) باعتبارها مكونات قانونية وإشهارية. تفتح هذه العناصر اللسانية آفاق انتظار التلقي المحتملة. كما تبني هذه علاقة بين الكاتب والقارئ بما يشبه العقد الذي يحدد شروط القراءة والتأويل. إذ بدون هذه العلاقة، ستغدو كل قراءة اعتباطية وغير تواصلية. لكون النص السردي، نص تخييلي تداولي. يستمد دلالاته من خلال فعل القراءة والتأويل.
ب. العناصر غير اللسانية/لوحة الغلاف
أما العناصر غير اللغوية المهيمنة على لوحة الغلاف، فتجلت في مجموعة كثبان رملية بلونها البني المفتوح. تتوسطها قافلة من الإبل. أما في أعلى اللوحة/ الغلاف، فيظهر الجزء الأعلى من وجه رجل (العيون). تكشف نظراته عن نوع من التأمل والدهشة، والحيرة. تتقاطع هذه العناصر غير اللسانية مع العناصر اللسانية. خاصة عنوان الرواية الذي يثير الدهشة والاستغراب بما يحمله من غموض وأسرار مرتبطة بهذه الخبايا، والعنصر الثاني/اللال (السراب)، الذي يؤشر كذلك على الدهشة. بهذا، تتضافر العناصر اللسانية وغير اللسانية لغلاف الرواية، لتشكل المفتاح الأول الذي يمكن القارئ من فتح مغاليق العوالم السردية للروائية وداد خليفة. تتميز هذه العناصر بوظائف عدة. نذكر من بينها:
1. تأكيد المعنى المحتمل الكامن في واجهة النص.
2. استكمال المعنى المراد من هذه الواجهة عند الولوج إلى عوالم النص السردية.
3. إحداث خلخلة في أفق انتظار المتلقي. تولد معنى مخالفاً للمعنى المحتمل في العتبة الرئيسية (غلاف الرواية) باعتبارها وظيفة فنية. تسعى الروائية وداد خليفة من خلالها إلى تحفيز القارئ للتفاعل مع النص والتشابك معه من خلال العديد من الأسئلة. أبرزها ما هي هذه الخبايا؟ ما علاقة هذه الخبايا باللال/السراب؟ هل يمكن أن يكون اللال/السراب كناية عن الصحراء؟ ما سر تلك الدهشة والحيرة التي تملأ تلك العيون بأعلى لوحة الغلاف؟ بهذا، شكلت هذه العتبة الرئيسية، محفزاً أساسياً للحفر والتنقيب من أجل استيعاب الدلالة الممكنة لعنصر اللال واكتشاف خباياه. حيث يثير النصف الأول للعنوان تساؤلات عدة عن هذا المخبوء. بينما يثير النصف الثاني للعنوان، تساؤلات عدة عن دلالة "اللال". باعتبارها مفردة فصيحة. تؤشر على سراب الصحراء. سبق أن وظفها الشاعر الإماراتي الماجدي بن الظاهر (1781م/ 1871) في الشعر النبطي من خلال قوله: (ومن ترك الماء على شوف لال ... فلا زاده إلا هلاك السبيل).
بهذا؛ فإن اللال الذي يؤشر على أسرار الصحراء وخباياها، جعل السارد يغوص في واقع البيئة المحلية. لينسجم عنوان هذه الرواية مع المنجز السردي الإماراتي الذي ركز في مجمله على هذه البيئة. كما رصد مختلف همومها وقضاياها، ماضيها وحاضرها، تحدياتها وأصالتها. لهذا، ركز سارد رواية ''خبايا اللال'' على صحراء الإمارات باعتبارها فضاءً لأحداث نصه السردي. خاصة منطقة "البريمي" التي عرفت نزاعات في تلك الحقبة التاريخية. لاحتوائها على النفط باعتباره المحرك الرئيس لأحداث الروائية، ولمختلف العلاقات بين الشخصيات. سواء علاقة الصراع (أبناء الصحراء والأجانب/الإنجليز)، أو علاقة التواصل.
خبايا اللال وتصدع الشخصيات الحكائية
يفتتح سارد رواية''خبايا اللال''عوالمه السردية بمشهد سردي. يركز على الشخصية المحورية/شخصية هزاع في قلب الصحراء والشمس تصب حممها على رأسها الضاج بالأسئلة والحيرة عن سر هؤلاء الإنجليز وهم يحشدون معسكراتهم في مثل هذا المكان المقفر. يقول السارد/شخصية هزاع: "ماذا وجد الإنكريز في هذه المنطقة التي عقمت، لا ماء يسكن باطنها، ولا نبات بترابها، ولماذا يجازفون باختيارها مقراً لمعسكر شركتهم"؟ [ص: 4]. يتسع هذا المشهد السردي مع وصول شخصية هزاع إلى خارج أسوار معسكر لشركة النفط البريطانية الذي يضم عدداً كبيراً من رجال القبائل، جميعهم في انتظار فتح بوابة المعسكر/الكمب. ينتظرون ما بين صبر وتصبر.
تقول إحدى الشخصيات لشخصية هزاع: (الصبر يا خوية، فنحن من تواصوا بالصبر حتى صار الصبر الجميل سجيتنا) [ص: 21]. لكن لشخصية لهزاع، بطبيعتها الناقدة، رأياً آخر. يقول السرد/شخصية هزاع: (نعم الصبر سجيتنا، لكن في انتظارنا كل تلك الأيام، علّ الإنجليزي الحمر يتفضل علينا بالعمل بأرضنا، فيه مهانة لنا) [ص: 21].
تؤشر أفعال وردود أفعال شخصية هزاع على كونها تعيش تصدعاً نفسيا. يكشف المسار السردي لشخصية هزاع أن هذا التصدر بدأ في التشكل بعد موت شخصية سعيد، وندم شخصية هزّاع التي دفعته لمغادرة ديار العشيرة/المجادية، والارتحال إلى طريق للعمل في شركة البترول البريطانية. شكل حدث موت شخصية سعيد، حدثاً مفصلياً. فتح السارد من خلاله مسارات سردية أخرى. جعلت المتلقي تواقاً لمعرفة حقيقة مقتل شخصية سعيد، وسر ندم شخصية هزّاع. وما واكب ذلك من تصدع نفسي عند شخصية هزاع. كما كشفت في الوقت نفسه، عن خيط من خيوط خبايا هذا "اللال". تدرك شخصية هزّاع (أن ظناً أنفقت سنوات من عمرها لحمايته والتستر عليه، وألقت به طوعاً إلى جحيم فراق الأحبة) [ص: 123]. لكن ذلك لم يكن سوى وهم ودرب من لال/سراب.
ينكشف هذا الخيط من اللال/الأسرار من خلال الحوارات الداخلية (ص: 115، ص: 163، ص: 210، ص: 234، ص: 257) لشخصية هزاع. تؤشر على الصراع الداخلي/النفسي الذي تعيشه. سواء فيما يتعلق بالأحداث الرئيسة للنص السردي، أو علاقاتها الخاصة مع الشخصيات. فشخصية هزاع مفتونة بشخصية اليازية بنت ذياب (الحرة). لكن تجد نفسها في صراع نفسي، تتجاذبه رغبة مواصلة هذا الهيام، والبعض الآخر الذي يدفعها للنأي على الرغم مما تكابده من شوق. يقول السارد/ شخصية هزاع: (أنا لا أعرف ما أريد) [ص: 91].
كما سقط في شرك هذا التصدع الداخلي/النفسي بشكل متفاوت أغلب الشخصيات، حيث جاءت أزمة الشخصيات وتصدعها النفسي، نتيجة التغيرات التي طرأت على المجتمع مع تدفق النفط والانتقال من حياة الزهد والترحال بحثاً عن الماء، إلى واقع جديد. حمل معه رياح التغيير. فإذا كانت شخصيات العمال في الرواية تعيش نوعاً من التصدع النفسي؛ فإن شخصيات شيوخ القبائل تعيش الحالة نفسها. تجد نفسها بين عدم قبولها بوجود هذا الأجنبي/الإنجليزي، وبين الرضا بوجوده تحت الضغط والتهديد تارة، والوعود بالثروة تارة أخرى. تجلى ذلك بشكل بارزٍ في شخصية نايع بن عوشانة التي تعيش صراعاً داخلياً بين ولائها لرب عملها وقائدها/ شخصية الميجور لويس، وبين الهواجس التي تدعوها للحذر (ص: 293، ص: 312).
والشيء نفسه لشخصية اليازية (الحرة) التي تتصارع قناعتها وشعورها بأطماع البريطانيين، وبين ما وجدته من صفات في شخصية الميجور من نبل. كما عاشت هذه الشخصية الأخيرة الشيء نفسه. حيث توزعت نفسياً بين قناعتها بالأهداف الخبيثة لحكومة بلادها، وبين التزامها بواجبها العسكري الذي يقتضي الامتثال لما يصلها من تعليمات وإن لم توافق قناعتها الشخصية. يقول السارد/ شخصية الميجور: (ما عساي أن أفعل. إنها الأوامر) [ص: 342]. يكشف تطور المسار السردي للشخصيات أن هذا التصدع النفسي، يتجاوز دواخلها. ليفيض إلى خارجها. مما يجعله يغذي الصراع بين قبائل الصحراء، وبين الجيران الذين يتنافسون على المناطق الواعدة بالنفط، وبين شركات النفط الأمريكية والبريطانية التي تزكي بدورها هذا الصراع، وبين الأجانب وأصحاب الأرض، وبين الزهد والطمع في الثروة، وبين بساطة حياة الصحراء وتعقيد حياة المدينة. لتكشف هذه الأحداث/العلاقات عما تبقى من خيوط خبايا هذا اللال وأسراره.
بنية السرد وثنائية التطابق والتعارض
رصدت الروائية وداد خليفة في مساحة نصية واسعة من نسيجها السردي، خصائص البادية الصحراوية، ثقافتها، وحياة سكانها البسيطة الأقرب إلى الزهد. حيث شكلت القهوة مبلغ رفاهيتهم واحتكرت الإبل كل منابع سعادتهم وسرورهم حد الإيمان بأن مَن ملَكَ ناقة أصاب الدنيا من أطرافها. فقد شكلت الإبل جزءاً من حياتهم. تشاركهم الحزن والفرح، والارتحال، وعشق الوطن. ينادون كل فرد منها باسم، تكريماً لها، يوفون لها كما حالها في الوفاء لهم ويذرفون حين فقدها الدمع والألم.
لا يتشارك البدو والإبل حياة الصحراء القاسية وذاك الرباط الوثيق والفريد من نوعه فحسب، بل يتشاركون الصفات نفسها وتجمعهم شيم الشهامة والإباء. لهذا، هيمنت على نص رواية ''خبايا اللال''، تقنية التطابق بين الإبل وساكن البادية. فكلاهما تستنفره الإهانة. مما يفتح أبواب الانتقام على مصراعيها. تأبى الجِمال ضربها بالعصي. تسعى للانتقام والثأر ممن ينال منها أو يهينها. تجلى ذلك فيما فعله بعير شخصية الشيبة مبارك، حين سعى للانتقام من شخصية طرفوش التي أسرفت في ضربه في سباق الإبل. يقول السارد: (كاد يقتله لولا فطنة شيخ القبيلة بما ينويه بعيره ووعيه بلغة الإبل وصفاتها، ما أتاح له إنقاذ طرفوش من انتقام البعير) [ص: 152ي. يفزع بدو الصحراء لصون كبريائهم ويثأرون ممن يمسها. برز ذلك من خلال ما قامت به شخصية هزّاع في موقع الحفر. حيث لم تقبل غبن البريطانيين وتعمد إهانة للعمال. مما أدى إلى المواجهة/الصراع. ليشكل هذا الوعي الممكن حسب لوسيان جولدمان3 عند شخصية هزاع، الشرارة الأولى التي فكت عقال الوعي بعدم التفريط في الحقوق.
ومثلما لجأ سارد الرواية /الروائية وداد خليفة الضمنية إلى توظيف تقنيات التطابق، عمد كذلك إلى توظيف ما يقابلها من تقنيات التعارض. حيث بدت هذه الأخيرة من خلال تلك المقارنات الضمنية بين أهل الشرق/ سلوك أصحاب الأرض (الصحراء)، وأهل الغرب/سلوك الباحث عن النفط (الأجنبي). فبينما يزهد البدوي (إنسان الصحراء) في كل مظاهر الترف ويجود بكل ما لديه لإكرام ضيفه، يشح الإنجليزي (الأجنبي)، ويمنعه طمعه من أن يمنح العمال حقوقهم. برز هذا التعارض من خلال الثنائية الضدية: الكرم والإيثار/ الشح والطمع والغبن.
وبين الصحراء المتميزة بالبساطة والشهامة والفطرة، والمدنية بتعقيداتها وقيمها الاستهلاكية. كشفت هذه المقارنات الضمنية من قبل السارد عن بعض خيوط هذا اللال/الأسرار. إنه نوع من الانتصار للصحراء على الرغم من قسوتها، على المدينة على الرغم من رغدها.
لكن على الرغم من ذلك، فقد تميز السرد في هذه الرواية بنوع من التحول من التعارض إلى التطابق. والعكس صحيح. مما أدى إلى تكسير نمطية الشخصية السردية. فعلى الرغم من حضور نمطية ثنائية الصراع بين الشرق والغرب، فشخصية الميجور على سبيل المثال، قد فاض قلبها بمشاعر الحب اتجاه شخصية ديانة اليازية (الحرة) التي لم تبادل حبها سوى بالإعزاز والإجلال. بينما كان قلبها متعلقاً بابن قبيلتها. تؤشر هذه العلاقة (الميجور/ديانة) على طبيعة العلاقة بين الغرب والشرق التي وإن وسمها الحب والافتتان؛ فإنها لا تصل إلى حد الامتلاك. مما يجعل من شخصية ديانة (الحرة) معادلا ًموضوعياً للصحراء/الأرض العربية، بعبارة الشاعر توماس إليوت4. تملك أسرارها الخاصة. لا تنكشف خيوط لالها/ سرابها إلا لأهلها/ إنسان الصحراء.
الإحالات:
الصفحات المشار إليها في المتن مأخوذ من الرواية: وداد خليفة، خبايا اللال (رواية)، ط1، دار العين للنشر، القاهرة، 2020.
1 - Todorov(tzvetan) introduction à l’analyse structurelle des récits(in)communications 8,1er éd, Seuil,Paris,1966,p:141
2 - Le jeune(Philipe)le pacte autobiographique,1er éd,Seuil,Paris,1975,P:52
3. جولدمان (لوسيان) مقدمات في سوسيولوجيا الرّواية، ترجمة: بدر الدين عرودكي، ط 1، دار الحوار، سوريا، 1993، ص: 75.
4. عزام (محمد) المنهج الموضوعي في النقد الأدبي، ط1، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1999، ص: 145.