قرطاج.. أسطورة خالدة

عبدالله بن محمد



قرطاج، مدينة عظيمة وتاريخ عريق، تأسّست منذ العصور القديمة على ساحل شمال أفريقيا، وتعتبر اليوم من أشهر المُدن التونسية. وهي مدينة أثريّة بالغة الأهمِّية، أُدرجت على قائمة التراث العالميّ الخاصّ باليونسكو منذ عام 1979. اسمها فينيقيّ في الأصل، مُشتَقٌّ من الكلمة الفينيقيّة (قَرْت حَدَشت) وتعني المدينة الجديدة، عندما كانت قرطاج مُستوطَنة فينيقيّة قديمة. وتقول الأسطورة بأنّها تأسَّست على يد أميرة فينيقيّة تُدعَى عليسة، كما أطلقَه عليها الفينيقيّون، أو ديدو كما يسميّها الرومان. 
 

اختار الفينيقيُّون تأسيس قرطاج على ضفاف البحر الأبيض المُتوسِّط، لتوفّر الموانئ الآمنة والقريبة من طُرُق التجارة البحرية، وخاصّة تجارة شرق البحر الأبيض المُتوسِّط؛ حيث تطل المدينة على بحيرة تونس، وتحيط بها تلال مُنخفِضة. وبالإضافة إلى مَوقِعها الاستراتيجي، لوقوعها بالقُرب من مضيق صِقِلِّية، وعلى مقربة من تلّة تُسيطرُ بشكل كبير على خليج تونس، وموقع أثريّ مُهمّ، تتميَّز المنطقة بثروة سمَكيّة وفيرة. لذلك اكتسبت المدينة دوراً مهماً في أفريقيا مكّنها من أن تصبح عاصمة مقاطعة أفريقيا في العَهد الرومانيّ، حيث لعبت دوراً استراتيجياً؛ باعتبارها إمبراطوريّة تجاريّة عظيمة أقامت شبكة من العلاقات التجاريّة في البحر الأبيض المُتوسِّط، وازدهرَت فيها العديد من الحضارات المتعاقبة مثل الحضارة الفينيقيّة، والبونيّة، والرومانيّة، والحضارة العربيّة.

تعتبر قرطاج اليوم بلا منازع من أجمل مواقع السياحة والتخييم، وغيرها من الأنشطة الخارجية الرائعة، بفضل هندسة شوارعها المتعامدة ومنازلها البيضاء المحاطة بأشجار السرو، وقربها من جبل (بوقرنين) الذي يطل من وراء الضباب. وقد جلبت هذه المشاهد الطبيعية البحرية الرائعة عديد الفنانين والرسامين الذين استقروا في هذه المدينة المطلّة على خليج تونس بشاطئه الرملي الذهبي، ومياهه الصافية المناسبة لأنشطة السباحة وركوب القوارب. إضافة إلى المعالم الأثرية المتنوّعة في مساحة كبيرة من هذه المدينة التاريخية: خزانات مياه بسعة 60 مليون لتر، حمّامات رومانية ضخمة، ومتحف أثري يعرض قطعاً فنيّة، وأهم الشعائر الدينية لقرطاج البونية. وإلى اليوم، تزخر قرطاج بالمراكز الثقافة والعروض الفنية والموسيقية التي تستضيفها الكاتدرائية القديمة (الأكروبليوم) بقرطاج، وكذلك قصر العبدلية بالمرسى، أو قصر البارون دي ارلانجي في سيدي بو سعيد.
 

ويعتبر المتحف الوطني بقرطاج الذي تأسّس سنة 1875 من أهم المتاحف الأثرية بتونس بعد متحف باردو، ويقع بالقرب من كاتدرائية القديس لويس بقرطاج. ويحتل المتحف مبنى كبيراً محاذياً للموقع الأثري على قمة هضبة بيرسا، وهو يتوسّط المعالم البونية والرومانية، وآثار معالم "الفوروم" الروماني. ويحفظ المتحف ويعرض مجموعات من التحف الأثرية التي تمثل ثلاث فترات كبرى: الفترة الفينيقية البونية (قناديل زيتية، ومجموعة من الخزف الذي اكتشف بالمعابد، وقبور مرمرية تعود إلى القرن 3 ق.م، وأدوات جنائزية مثل الأقنعة والحلي)، والفترة الرومانية الإفريقية (لوحات فسيفساء رومانية، وتماثيل مختلفة ولوحات فسيفسائية من بينها اللوحة المسماة "سيدة قرطاج"، ونقائش جنائزية)، ومعروضات خاصة بالفترة العربية والإسلامية. 

وبجوار متحف قرطاج الوطني، وداخل نطاقه يقع الحي البونيقي والفوروم، حيث يشكّل جناحاً تابعاً لهذا المتحف في الهواء الطلق. أسّس هذا الحي في عهد حنبعل (أوائل القرن الثاني ق.م.)، وهو عبارة عن حي سكني بداخله مجموعة من المباني مقسّمة إلى شقق سكنية ودكاكين. ويحتوي الحي أيضاً على جل المرافق الصّحية والترفيهية الموجودة في تلك الفترة: خزانات الماء، وقنوات تصريف المياه المستعملة، وجدران جبسية وأرضية فسيفسائية.

ويتضمن الموقع أيضاً حمامات أنطونيوس التي تظل حتى اليوم أفخم معلم بحضارة قرطاج الرومانية، شيدت على شاطئ البحر في منتصف القرن الثاني بعد الميلاد (145 م- 162م)، ثم تعرضت للتدمير من قبل الوندال، وظلت لمدة طويلة مغمورة تحت التراب، قبل أن يتم الكشف عنها من جديد في سنة 1945وتأتي هذه الحمامات في المرتبة الثالثة في العالم من حيث الحجم بعد حمامات كاركالا بإيطاليا، وحمامات ديوكليسيان بسوريا. لكن لم يبق منها اليوم سوى الطابق تحت الأرضي الذي كانت به غرف مقبّبة تمثل القاعات الفخمة للحمامات، وفي المحور الأوسط توجد القاعة الباردة محمولة على ثمانية أعمدة من الغرانيت كبيرة الحجم، كما توجد القاعة الساخنة على شكل قبة.

من جهة أخرى، ساهمت الحضارة القرطاجنية في تطوير علوم البحر، خاصة تنمية الموانئ وصناعة السفن. وقد تمكن الفينيقيون سريعاً من الاستفادة من موقع قرطاج المتميّز ليصبح خلال بضع سنوات محطّة التجارة المتوسطية، واكتظت مخازنها المرفئية التي تعد قلب المدينة النابض ببضائع من مختلف دول العالم. إضافة إلى الموانئ البونيقية التي تأسّست ما بين القرن الثاني والثالث قبل الميلاد، وتتمثل في مرفأ حربي ومرفأ تجاري يشتملان على تجهيزات متطورة، منها أحواض لترميم السفن وإصلاحها، وحضائر لبناء سفن جديدة ومخازن للبضائع والمواد الخام. أما مرفأ المدينة فقد اشتمل على ما يقارب 220 حوضاً من أحواض السُّفن، التي كانت تُبحِر في جميع أنحاء البحر المُتوسِّط؛ لتوسيع أنشطتها التجاريّة.

لقد شكّلت قرطاج عبر التاريخ أرض الحضارات وذاكرة الشعوب، تطورت وازدهرت لقرون متعاقبة، وتفوقت على المدن الفينيقية الأخرى في شتّى المجالات، وباتت القوة الاقتصادية والعسكرية والحضارية الأكثر تأثيراً. 

ومن هنا تمكّن القرطاجنيون من السيطرة على أراض شاسعة، امتدت على كامل ساحل شمال إفريقيا الغربي، وصولاً إلى مضيق جبل طارق وشبه الجزيرة الإيبيرية، وأسّسوا مدناً عديدة منها قرطاجنة وبرشلونة، ثم شمالاً حتى الجزر البريطانية عبر المحيط الأطلسي، وكذلك بحر الشمال على تخوم البلدان الاسكندينافية. شرقاً، امتدت الحضارة القرطاجنية على جزر متوسطية هامة مثل كريت اليونانية ومالطا، وصقلية وكورسيكا، وسردينيا والباليار. كما كان لقرطاج دور مهم في نشر الحضارة إلى العديد من بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط، وخير مثال على ذلك نشر الكتابة الأبجدية في غربي المتوسط؛ فالحروف التي تستعمل اليوم في العالم العربي والغربي وقارة آمريكا مصدرها الحروف الفينيقية.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها