شيخ الخطَّاطين العرب "ابن مُقْلة"

الوزير الذي وضع قواعد خط النَّسخ وسمَّاه "البديع"

وفيق صفوت مختار


تتنوَّع الخُطوط العربيَّة، بعدَّة خُطوط فنيَّة، تُميِّزها عن أيّ من اللُّغات الأخرى، ومن بين تلك الخُطوط بالتأكيد خطّ الثُّلث، أحد خُطوط النَّسخ، وقد ظهر لأوَّل مرة في القرن الرَّابع الهجري، وهو من أصعب الخُطوط العربيَّة من حيث القواعد والموازيين، وهو يمتاز بالمُرُونة ومتانة التَّركيب وبراعة التَّأليف، ويُعتقد أنَّ «ابن مُقْلة» هو مُخترعه.

و«ابن مُقْلة» كان من أشهر خطَّاطي العصر العبَّاسي، وأوَّل من وضع أسُس مكتوبة للخطِّ العربي، وهو كذلك وزير وأديب وشاعر.

وُلد «أبو علي مُحمَّد بن علي بن الحُسين بن مُقْلة الشِّيرازي»، في عام (272ه - 886م)، بالعاصمة العراقيَّة «بغداد». وعرف هذا الوزير ب «ابن مُقْلة»؛ لأنَّ له أماً كان أبوها يُلاعبُها في صغرها ويقول لها: «يا مُقْلة أبيها»، فغلب عليها هذا الاسم واشتهرت به، فاتصل هذا الاسم المشهور بابنها، فأخذ لقبه من والدته.

نشأ «ابن مُقْلة» في بيت علم وفن ووسط أسرة جميع أفرادها يمتهن الخطّ العربي، فكان جدّه خطَّاطًا وله مُصحف بخطِّه، وأمَّا أبُوه فقد كان أستاذُه الذي علمه الصِّناعة، وهكذا أتقن تعلُّم فنّ الخطّ العربي ونبغ فيه، وفهم أسراره، وبلغ شأنًا عظيمًا ومرتبة عالية في فنّه إلى أن انتهت إليه جودة الخطّ وحُسن تحريره، وأصبح مُعلِّمًا له في مدرسة «ابن الفُرات» أشهر مدارس الخطّ في ذلك الوقت في سنٍّ مُبكِّرةٍ.
 

عاش «ابن مُقْلة» حياة مُضطربة كعصره بدأها كاتبًا بسيطًا ينتفع بخطِّه، ثُمَّ تولَّى خراج بعض أعمال فارس فتحسَّنت أحواله. عينه الخليفة العبَّاسي «أبُو الفضل جعفر المقتدر بالله» (895 -932م) في عام (928م) وزيراً، ثُمَّ عزله عام (930م) واعتقله وصادر أمواله ونفاه إلى «شيراز» حتى آلت الخلافة إلى «أبُو منصُور مُحمَّد القاهر بالله» (899 - 950م) فاستدعاه وعينه وزيرًا في عام (932م). إلَّا أنَّ «ابن مُقْلة» لم تُرْضِه أوضاع الدَّولة فتوارى عن «القاهر بالله» حتى تمَّ خلعه.

وبعدما تولَّى الحُكم «أبُو العبَّاس مُحمَّد الرَّاضي بالله» (907 - 940م) دعاه وولَّاه الوزارة في عام (934م)، إلى أنْ تآمر عليه «المُظفَّر بن ياقُوت» عام 936م فقُبِضَ عليه وخلع من الوزارة وعُذِّبَ وَغُرِّم، فجلس في داره حتى استولى «مُحمَّد بن رائق» أوَّل أمير أُمراء للخلافة العبَّاسيَّة على مقاليد الأمور، الذي قبض عليه مرَّة أخرى فقطعوا يده اليُمْنى في عام (938م)، فكان يكتب بيُسراه ويَشُدّ القلم إلى ساعده ويكتُب. وكتب أبياتًا فريدةً في معناها العميق، مملوءةً بحُزنٍ عجيبٍ، مَرْسُومةً بحُرُوفٍ تساقطت منها صَيْحات الألم والدُّموع على اليد التي أبدعت أيّما إبداع، فقال:
ما سئمت الحياة لكن توثَّقت ... بأيمانهم فبانت يميني
ولقد حُطتُ ما استطعت بجُهدي ... حفظ أرواحهم فما حفظُوني
ليس بعد اليمين لذَّة عيشٍ ... يا حياتي بانت يميني فبيني

ثُمَّ قطع لسانه في محبسه وأصابه ذَرَبٌ (مرضٌ لا يبرأ). كان في سجنه يجذب الماء من البئر بيده اليُسرى وفمه حتى تُوفِّي في عام (328ه - 939م) ودفن فيه، ثُمَّ نبش فدفن في بيت ابنه، ونبش فدفن في بيت زوجته.

ولا شك أنَّ الوزير «ابن مُقْلة» كان له الإبداع في نقل الخطّ العربي وتطويره، حيث ظلّ خطّ النّسخ سائدًا تكتُب به المصاحف والوثائق واللَّوحات وغيرها، حتى انبرى الخطَّاط «ابن مُقْلة» إلى وضع قواعد خطّ النّسخ وسمَّاه «البديع»، والذي استحسنه النَّاس لجماليَّته وسُهُولة كتابته لذا يعتبر المُؤسِّس لقاعدتي الثُّلث والنّسخ.
 

كما أنَّه أوَّل مَنْ اتخذ حرف الألف كمقياس ثابت لقياس بقية الحُرُوف عليه، ومُنذ ذلك الحين والخطَّاطون يتَّخذون بداية الألف كأساس ثابت لوضع تصوُّرهم في فنِّ زخرفة الحرف العربي، ومن خلال تأسيسه لتلك الهندسة، جعل «ابن مُقْلة» من السَّهل هندسة الخطّ بالتَّنقيط فالحروف العموديَّة أو الأفُقيَّة، تتبع حسابات عدد النَّقط اللَّازمة في تشكيلها من حيث الطُّول والحجم وعلى نفس المنوال تكون الحُرُوف المائلة والمُنحنية ويتمّ أيضًا قياسها على حرف الألف، ويُعتبر الخطّ المُتساوي هو الخطّ الذي يتَّخذ الألف مقياسًا له في الطُّول والقلم في العرض، حيث تتشابه تطبيقات مقاييس الخطّ إلى حدٍّ كبير مع تطبيقات الإيقاع المُوسيقى؛ إذ إنَّ انسجام الخطّ وروعة تصويره، يُعدّ بمثابة مُوسيقا للعين يحسُّها ويشعر بها فنَّانو الخطّ، حتى إنَّ مُعلِّمي الخطّ من كثرة تألفهم معه يتعرَّفُون على الأبعاد والمقاييس، بل والمساحة دون عناء أو صُعُوبة.

وذهب «إدوارد رُوبرتسُن» إلى القول إنَّ «ابن مُقْلة»: «قد اخترع طريقة جديدة للقياس بواسطة النَّقط، ونظريًّا فإنَّ النُّقطة تتكوَّن من وضع رأس الرِّيشة على الورق، وبتحريك الرِّيشة إلى الأسفل مع الضَّغط لفتحها إلى أقصى حدّ، حيث يرفع مُباشرة وبسرعة وبهذا يُمكن عمل مُربَّع أو مُعيَّن، وبجعل الرِّيشة وحدةً للقياس، فقد جعل «ابن مُقْلة» حرف الألف الكُوفي مُستقيمًا بعد أنْ كان مُنحنيًا من الرَّأس نحو اليمين كالصِّنَّارة، وقد اتَّخذه مرجعًا لقياساته، وخطَّا «ابن مُقْلة» خطوة أُخرى حيث هذَّب الحُرُوف، وأخذ الخط الكُوفي كقاعدة وأخرج من هذه الحُرُوف أشكالًا هندسيًّة، وبذلك أمكنه قياس هذه الحُرُوف ومن هذه القياسات استنبط نسبًا لكُلِّ حرف بالنَّسبة للألف، وفي حالة الحُرُوف المقوسة مثل الرَّاء والنُّون والسِّين فقد جعل قطر كُلّ حرفٍ ألفا وهكذا».

وقد أشاد «أبُو بكر الصُّولي» (880- 947م) الذي يُعتبر من أكثر المُؤرِّخين المُعاصرين لـ«ابن مُقْلة»، فقال: «ما رأيت وزيرًا منذ تُوُفِّي القاسم بن عُبيد الله أحسن حركةً، ولا أظرف إشارةً، ولا أملح خطًا، ولا أكثر حفظًا، ولا أسلط قلمًا، ولا أقصد بلاغة، ولا آخذ بقُلُوب الخُلفاء من مُحمَّد بن علي، يعني «ابن مُقْلة»، قال: وله بعد هذا كُلَّه علم بالإعراب وحفظ اللُّغة».

وقال «أبو المنصور الثعالبي» (961 - 1038م) أيضًا: «خطُّ «ابن مُقْلة» يضْربُ مثلًا في الحسن؛ لأنَّه أحسن خُطُوط الدُّنْيا، وما رأى الرَّاؤُون بل ما روى الرَّاوُون مثلُه».

وقال عنه «ياقُوت الحموي» (1178- 1229م) أيضًا: «كان الوزير أوْحد الدُّنيا في كتبه قلم الرَّقاع والتَّوقيعات، لا يُنازعه في ذلك منازعٌ، ولا يسمُو إلى مسامّاته ذُو فضل بارع».

وجاء في كتاب: «صُبْح الأعْشَى في صناعة الإنشا»، من تأليف «أبُو العباس القَلْقَشَنْدِيّ» (1355 -1418م)، عن خطّ «ابن مُقْلة»: «ثُمَّ انتهت جودة الخطّ وتحريره على رأس الثَّلاث مائة إلى الوزير أبي علي مُحمَّد بن علي بن مُقْلة، وهو الذي هَنْدس الحُرُوف وأجاد تحريرها، وعنه انتشر الخطّ في مشارق الأرض ومغاربها»، ممَّا يعني أنَّ خطّه اتَّسم بالجمال البديع وذاع صيتُه في الدُّنيا، وبلغ به درجة عالية في نفوس النَّاس حتى وصفُوه بأنَّه أجمل خُطُوط الدُّنيا.

ترك «ابن مُقْلة» عددًا من المُؤلَّفات والرَّسائل والأشعار بعضُها ضاع بفعل الزَّمن والآخر وصلنا ليدُلّ على عُمْق ثقافة هذا المُبدع، واتِّساع معرفته بصناعته، وخبرته الواضحة، وفنّه الرَّفيع ولعلّ من أهمِّ ما ترك لنا «ابن مُقْلة» رسالته في الخطِّ المعرُوفة باسم: «رسالة الوزير ابن مُقْلة في علم الخطِّ والقلم». وقد ذكر في تلك الرِّسالة مُصطلحات لم تكن معروفة، وكذلك قوانين هندسة ووزن الحُرُوف العربيَّة بميزانٍ فنَّيٍّ هندسيٍّ والتي تعتبر بحقٍّ آيةٍ في هذا الميدان، حيث ذكر فيها بأنَّ حُسن الكتابة وجودتها من جهتين: الجهة الأولى: حُسْن التَّشكيل: حيث قال «ابن مُقْلة»: وتحتاج الحُرُوف في تصحيح أشكالها إلى خمسة أشياء، هي: التّوفية، والإتمام، والإكمال، والإشباع، والإرسال. أمَّا الجهة الثَّانية: حُسن الوضع: وهو يحتاج إلى تصحيح أربعة أشياء، هي: التَّرصيف، والتَّأليف، والتَّسطير، والتَّنصيل.

إضافة إلى ما ذكره «ابن مُقْلة» في حُسْن الخطّ وجودته وهَنْدسة الحُرُوف ومعرفة اعتبار صحَّتها فقد ذكر أيضًا أصناف الأقلام وأجناسها، وطُرق بَرْيها وكيفيَّة إمساك القلم عند الكتابة، ووضعه على الورق وكذلك طريقة صناعة المِداد.
 


أهم المراجع:
1- أديب كمال الدين: ابن مقلة، مجلة القافلة، شركة أرامكو السعودية، أغسطس 1997م.
2- حبيب الله فضائلي: أطلس الخطّ والخطوط، ترجمة: محمَّد التونجي، ط2، سورية: دار طلاس، 2002م.
3- شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، سير أعلام النبلاء، تحقيق: مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، تقديم: بشار عواد معروف، ط3، مؤسسة الرسالة، 1985 م.
4- عفيف البهنسي (دكتور): معجم مصطلحات الخط العربي والخطاطين، ط1، بيروت: مكتبة لبنان، 1995م.
5- ناجي زين الدين المصرّف: مصوّر الخط العربي، ط3، العراق: مطبوعات المجمع العلمي العراقي، لبنان: دار القلم، د. ت.
6- مجموعة من العلماء والباحثين: الموسوعة العربية العالمية، مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع، 1999م.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها