الخليل بن أحمد الفراهيدي.. علامة فارقة في التاريخ العربي

يوسف الرجب


عالم عرف السبيل إلى فلسفة الإيقاع في اللغة والنحو والأصوات، فكان مرجعاً للنحويين، والأدباء والشعراء، بل كان بصمة راسخة على مر العصور في تأصيل البحور الشعرية في الذاكرة العربية، فهو واضع أول معجم في العربية بأسلوب مختلف عن كل المعاجم، فمعجم العين هو المعجم الذي يشتغل في أسلوبه على الأساس الصوتي في الأحرف الأبجدية، ولعل هذا الاهتمام بعلم الأصوات هو الذي وسع أمام بصيرة الفراهيدي ذلك العلم، فابتكر علم العروض الذي وضع الأسس الموسيقية للشعر العربي، فضلاً عن ابتكاره الفتحة والضمة والكسرة لضبط علامات الإعراب، ما يساعد على نطق الكلمات بالشكل الصحيح.
 

كان للخليل بن أحمد الفراهيدي أثر واضح في منجزات الكثير من أعلام العربية، من أمثال سيبويه في «الكتاب»، الذي قال عنه الجاحظ: «لم يكتب الناس في النحو كتاباً مثله»، كما أثر الفراهيدي في كتابات الأصمعي المختلفة في اللغة والتاريخ، وفي ابن منظور في «لسان العرب»، والزبيدي في «تاج العروس».

ولد الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي الأزدي في عام 100هـ، في عُمان، تتلمذ على أيوب السختياني وأبي عمرو بن العلاء، كما عرف بزهده الذي تؤكده الحكايات والقصص الكثيرة في هذا الجانب، فضلاً عن الحكايات التي تُروى حول بدايات اكتشافه للبحور الشعرية، مفادها أن الفراهيدي أراد ضبط الإيقاعات الشعرية حين وجد خروج بعض الشعراء عن الإيقاعات المألوفة، ولم يكتف بذلك بل وضع العلامات التي تضبط الكلمات عندما وجد الناس تخطئ بقراءة القرآن، فأراد أن يكمل عمل أبو الأسود الدؤلي الذي وضع النقاط على الحروف بوضع علامات التشكيل.

قال عنه ابن المقفع: رأيت رجلاً عقله أكبر من علمه. وقال عنه الثعالبي: كان يقال أربعة لم يُلحقوا، ولم يُسبقوا: أبو حنيفة في فقهه، والخليل في أدبه، والجاحظ في تأليفه، وأبو تمام في شعره. وقال عنه أبو بكر الزبيدي: «الخليل بن أحمد أوحد عصره، وجهبذ الأمة، وأستاذ أهل الفطنة الذي لم يُر نظيره، ولا عرف في الدنيا عديله». وقال عنه المرزباني: كان من أزهد الناس وأعلاهم نفساً. أما ابن النديم فقال عنه: كان الخليل من الزهّاد في الدنيا، المنقطعين إلى العلم.

ويذكر ياقوت الحموي المنجز الكبير من مؤلفات الفراهيدي بقوله: "إن من أهم ما طيَّر اسم الخليل وأذاع شهرته في الآفاق هو كتابه ومعجمه البِكْر من نوعه في مصنفات اللغة العربية: (كتاب العين)، ولم يكن (العين) هو مصنَّفه الوحيد؛ وإنما ذكرت كتب المراجع أن له أيضاً: كتاب (فائت العين)، وكتاب (العروض)، وكتاب (الشواهد)، وكتاب (النقط والشكل)، وكتاب (النغم)، وكتاب في (معنى الحروف)، وكتاب في (العوامل)، وكتاب (الإيقاع)، وكتاب (تصريف الفعل)، وكتاب (التفاحة في النحو)، وكتاب (جملة آلات الإعراب)، وكتاب (شرح صرف الخليل)، وكتاب (الجمل)، وكتاب (المُعَمَّى)، وغيرها أبرز مؤلفات الفراهيدي : كتاب «العين»، كتاب «العروض»، «النقط والشكل»، «الإيقاع»، «النغم»، «الجُمل في النحو».

ويعتبر معجم «العين» أول معاجم اللغة العربية، بل أول معجم لغوي علمي متكامل في التاريخ، حيث يرى الفراهيدي «أن العرب تشتَقُ في كثير من كلامها أبنية المضعف في بناء الثلاثي المثقل بحرف التضعيف»، وتشعر معه بأنه يقوم بإحصاء العربية، إحصاء يعتمد على التنقل من الثنائي إلى الثلاثي فالرباعي فالخماسي، يقول: «كلاَم العرب مبني على أربعةِ أصناف: على الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي»، وليس بعد الخماسي شيء، وعلى هذا الأساس يقوم بناء «العين».

ويذكر الفراهيد سبب بدء معجمه بحرف العين على غير المألوف: لم أبدأ بالهمزة: لأنها يلحقها النقص والتغيير والحذف، ولا بالألف لأنها لا تكون في ابتداء كلمة لا في اسم ولا فعل إلا زائدة أو مبدلة، ولا بالهاء لأنها مهموسة خفية لا صوت لها، فنزلت إلى الحيز الثاني؛ أي ما يتفق والنطق الصوتي للأحرف وفيه العين والحاء فوجد العين أنصع الحرفين فابتدأت به ليكون أحسن في التأليف.

ويقول في مقدمة كتاب «الجمل في النحو»: «هذا كتاب فيه جملَة الإعراب إذ كَان جميع النحو في الرفع والنصب والجر والجزم، وقد ألفنا هَذَا الكتاب وجمعنا فيهِ جمل وجوه الرفع والنصب والجر والجزم، وجمل الألفات واللامات والهاءات والتاءات والواوات وما يجري من اللام ألفات، وبينا كل معنى في بابه باحتجاج من القرآن وشواهد من الشعر، فَمن عرف هذه الْوجوه استغنى عن كثير من كتب النحو».

الفراهيدي العالم المدهش وهو يقرأ ويكتب ويحلل، ويبني أسس كتاباته، ويرسخ بصمته في مختلف العلوم حتى أصبح علامة فارقة في التاريخ العربي، توفي في عام 170 أو 175، وحتى في حكاية وفاته تبقى الدهشة ماثلة أمامنا، حيث يروى أنه توفي وهو يفكر في طريقة تبسيط علم الحساب للناس، تمضي به الجارية إلى البائع فلا يمكنه ظلمها، فدخل المسجد وهو يُعمِل فكره في ذلك، فصدمته سارية وهو غافل عنها بفكره، فانقلب على ظهره، فكانت سبب موته.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها