فيلم "الساحر" البناء الدرامي ومركزية المرأة

طارق إبراهيم حسان


فيلم "الساحر" هو آخر أفلام المخرج رضوان الكاشف (1952- 2002)، وقد أخرج قبله "ليه يا بنفسج" عام 1993، و"عرق البلح" عام 1999، والفيلم القصير "الجنوبية"، فضلًا عن ثلاثة أفلام تسجيلية. وتتمحور جميع أفلامه حول حياة البسطاء والمهمشين في البيئات الاجتماعية الفقيرة، لتكشف عن انحياز واضح لهذه الفئة؛ إذ لم تكن الحارة الشعبية والبيت البسيط وحياة القاع الاجتماعي مجرد خلفيات أو ديكور، بل كانت تشكل همًا أساسيًا في مشروعه الفني.


"الساحر" فيلم غني بالرمز والإحالات الدلالية، وبحسب ت. س. اليوت: الطريقة الوحيدة للتعبير عن العاطفة في شكل فني هي إيجاد معادل موضوعي، أي مجموعة من الأشياء أو المواقف أو سلسلة من الأحداث تكون في النهاية هي التركيبة المعادلة لهذه العاطفة، أو هي تركيبة هذه العاطفة على وجه الخصوص. وقد وظف الفيلم العديد من الصور المعبرة عن حالات القهر والشجن والبهجة والثراء والفقر.

 


الإنسان محكوم عليه بالحرية:

أخرج الكاشف فيلم "الساحر" قبل رحيله بعام واحد، وحمل كثيراً من تجليات رؤيته الفنية والفلسفية، حيث ارتكز على رصد عديد من الأبعاد والثنائيات الدالة، والتناقضات التي تستشري في المجتمع، فضلًا عن طرح أبعاد جديدة لإشكالية القهر ضد المرأة من قبل سلطة أسرية مستبدّة، تتمثل في: الأب، والزوج، والأهل، ويكشف الفيلم عن أن الاستبداد يؤدي بالمرأة إلى منعطفات حادة، خاصة المرأة التي تبحث عن حريتها، على اعتبار أن "الإنسان محكوم عليه بالحرية" بحسب سارتر.

يتمحور الفيلم حول شخصية نور (منة شلبي) الفتاة التي تواجه استبداد الأب (محمود عبد العزيز) بالبحث عن حريتها، حتى وإن كانت هذه حرية منقوصة، من خلال اللجوء إلى حياة أخرى حافلة بالخصوصية، فتجعل، مثلًا، من اطمئنان أبيها عليها بغلق الباب؛ أماناً حقيقياً وحجاباً لتلك الخصوصية، في محاولة لإيجاد ذرائع لحياة أخرى، فتتحقق في الوقت نفسه صورة من صور التمرد على أسلوب حياة مفروض عليها. ولذلك فإن الحرية التي استطاعت أن تقتنصها، هي حرية منقوصة، لأن القول بأن الفعل حر -بحسب دكتور زكريا إبراهيم- إنما يعني أن هذا الفعل غير محدد بأي شرط سابق، أي أنه مستقل تمامًا عن كل قوة خارجية، وعن سائر الدوافع والبواعث الباطنة، بما في ذلك التصورات والعواطف والميول.

البناء الدرامي ومركزية المرأة:

يقوم البناء الدرامي للفيلم على محورين رئيسيين، هما الأب والابنة، فقد تخاصرا حول بعضهما بعضًا في ثنائية جدلية، وكوّنا ثراءً دلالياً منفتحاً على أفق التأويل، من خلال بعدين أساسيين، أولهما: العلاقة بالمجتمع رغم محدودية هذه العلاقة، فالأب يمارس دوراً سلطوياً مستبداً بعزل ابنته الوحيدة عن الحياة الاجتماعية (الشارع، والجيران، والعمل، والمدرسة).. إلخ. وآخرهما: علاقة كل منهما بالآخر.. (الآخر/ المرأة)، و(الآخر/ الرجل)، فقد تشكلت حول كل منهما مجموعة من العلاقات الاجتماعية التي تبيّن الناتئ والغائر في إشكالية الاستبداد، فضلًا عن تناول قضية الصراع الطبقي التي تكشف حقيقة العلاقة بين الفقر والثراء، بين قاع المجتمع بكل ما به من أمراض وفقر وعوز وإحباط، وبين قمة هذا المجتمع بما به من مظاهر بذَخ واعتلاء وقهر للآخر، وأثر هذا الصراع على المرأة، خاصة المرأة ابنة المجتمع الفقير التي تتولى، غالباً، دفع فاتورة هذا الصراع.

يصور الفيلم، أيضاً، قسوة المجتمع على المرأة، بصفته مجتمعاً انتقائياً، فتحيل الأحداث إلى هذه القضية من خلال مشهد السينما وهو ما أبرز المفارقة العفوية التي كثيراً ما تحدث في المجتمعات التقليدية، فقد اصطحب الأب جارته شوقية (سلوى خطاب) إلى السينما، منتقياً فيلماً رومانسياً، وتدخل نور برفقة شاب إلى القاعة ذاتها، فتضطر للاختباء والخروج خلسة خوفًا من أبيها، بينما الأب لا يأبه شيئًا، كما أن علاقته بشوقيّة تثير العديد من الأسئلة، فقد رفض وجودها عندما جاءت لاستئجار الغرفة المجاورة لمجرد أنها امرأة.

جاء التطور الدرامي للشخصيات من خلال تطور حياة نور الخاصة ورد فعل الأب، فهي عندما تتعرف على حازم حفيد المليونير، تنبهر بمظهره وثرائه وحياته المترفة، وتنساق خلف رغباتها. وما حدث بينهما وإن كان برغبتها، هو في حقيقته شكل من أشكال القهر الجسدي، أما رغبتها فهي رغبة سطحية ناتجة عن الإحساس بالغبن كرد فعل منطقي لحالة العزلة الاجتماعية، وكل أشكال الحرمان التي تعانيها بسبب قسوة الأب الذي فضل أن يكون سجاناً أميناً عليها. وقد أفرز هذا الحرمان شخصية غير سويّة، لا تتدبر أمورها وأفضى إلى حرية زائفة، غير ملتزمة أو مسؤولة، نتيجة لغياب البعد الأخلاقي، فالحرية الأخلاقية -بحسب د. زكريا إبراهيم- هو الذي نصمم ونعمل فيه بعد تدبر وروية، بحيث تجيء أفعالنا وليدة معرفة وتأمل، وهو ما سماه كانط بالاستقلال الأخلاقي.

أبعاد القهر ودافع التسلط:

هناك أبعاد أخرى للقهر نتيجة لتوجس الأب الدائم وخوفه على ابنته بسبب حالة التراجع الأخلاقي السائدة في المجتمع، مما يشكل دافعاً نفسياً لأن يمارس تسلطاً أبوياً باستمراره في قمعها والتضييق عليها. فتعاني الابنة القهر على عدة مستويات، أولها: قهر الأب لها، فقد أينعت وأصبح لوجهها جمال فاتن، ولذلك يخشى عليها من كل شيء حتى المدرسة، وفضل أن تمكث في البيت الذي يغلقه عليها بالمفتاح بمجرد خروجه، ورفض خطبتها على من تحب، وظل يمارس ضدها القهر النفسي مبرراً ذلك بأنه يحميها. حتى المواصفات التي وضعها لزوجة بديلة تحل محل زوجته المتوفاه، هي مواصفات بدنية صارمة لكي تتمكن، على حد تعبيره، من السيطرة عليها.. هو يبحث عن سجانة، على حد تعبير أحد أصدقائه متهكماً. وهناك مستويات أخرى للقهر تبدو في علاقة نور بثنائية الفقر والثراء، تتمثل في العلاقة بكل من حمودة وحازم، فالأول هو الحبيب والبائع البسيط، ابن البيئة الشعبية، والآخر مطرب هاوي ورمز للثراء والأبهة، حيث المسكن الراقي والحياة المترفة.

عادة ما يأتي الانحراف في الفيلم نتيجة للقهر، وقد تجلى الانحراف بالمعنى الأشمل عند شوقية التي تعرضت لقهر الزوج الذي طلقها وطردها هي وابنهما، فاستأجرت غرفة من الخشب فوق السطح وتسعى للانتقام بقتل مطلقها، لكن منصور بهجت/ الأب، يتعقبها ويلحق بها قبل أن ترتكب الجريمة.

توظيف الصور الدالة:

يبدو أن السجن غواية الأب فلقد اعتزل مهنة الساحر الذي يقف على المسرح ويدهش الجميع بالحركات والخدع التي يؤديها، ومع ذلك لا يزال يشتري الحمام ويقوم بحبسه، للتدليل على حالة القهر التي تعيشها الابنة، وقد أضفى توظيف فكرة الحمام المحبوس فوق السطح، في مقابل الحرمان من متعة التحليق، وكذلك الحصان الذي جلبوه وأغلقوا عليه غرفة ضيقة، بدلاً من الانطلاق والحيوية، تجاوراً صورياً يثري الأحداث، وبعداً رمزياً موحياً لكائنات مرهفة محبة للحياة.

هي الحرية إذن؛ تلك السيمفونية الرائعة التي تغيب عن المرأة، فتغيب معها البهجة وتتوارى الحياة، لذلك تبحث عنها الفتاة برعونة وسعي دؤوب بأن تحب وتنطلق وتسعد بحياتها وإن كان من وجهة نظر خاطئة.. الفيلم سيمفونية عزفها الكاشف ببهجة وحزن، فرمى في نفوسنا مشاعر متباينة، ببراعته في توظيف الكوميديا ورسم الشخصيات.
 

فيلم "الساحر" علامة أخرى للكاشف، يجوب بها مناطق في منتهى الخصوصية حول قضايا القهر والحرية، وحول نظرة المجتمع للمرأة وكيف تتعامل مع تلك النظرة، موظفاً لرموز موحية تبين ما يبدو على السطح من علاقات بين المرأة والبيئة الاجتماعية، وما ينتج عن ردود أفعالها إزاء ما تتعرض له من قسوة هذه البيئة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها