ضمّتنا العربة كقبر متحرك، بينما نقترب من نهاية طريقنا إلى المقابر لننقل عمّة أبي إلى مثواها الأخير، كانت الراحلة سيدة عجوز ومريضة، وقد أكرمها الموت فأنقذها من شر التشظّي وأراح أبنائها وأحفادها من طول البلاء، انتظمنا حول النعش وتحلّقنا على مائدة الموت؛ أنا وبعض من أبناء العمومة والجيران، ومن لم يخشع منّا من هول الموقف وبكت عيناه، بكى عنه جبينه وبقية جسده عرقًا، فقد كان نهارًا صيفيًا حارقًا من نهارات الصعيد المشتعلة، وشهر أغسطس مستمسك بنا رغم قرب زواله، وكأنه مريض وكنّا حياته، حتى إنني تخيلت ونحن مأخوذون بخيالات الموت وهواجس العَرق، منظر الشمس يوم الحشر وقد غرق الناس في عَرقهم من تردّدها فوق الرؤوس، قطع سيل تفكيري وعرقي ابتداء طقس من طقوس الجنازات عندنا، حين تطوع أحدنا وابتدأ في الترديد:
بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ
{قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ(1) ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ(2) لَمۡ يَلِدۡ وَلَمۡ يُولَدۡ(3) وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ كُفُوًا أَحَدُۢ(4)}
وطفقنا نتبادل الأدوار بنبرات محزونة، بين قارئ ومردد وصامت، ولم يكن الصامت إلا فردًا وصمته لم يكن إلا قسرًا، والفرد هذا هو أحمد؛ أحد أبناء عمومتي، أصم أبكم منذ ميلاده، يصغرني ببضع سنوات وربما عقد، مما سمح لي بأن ألحظه أثناء وقوفي في شرفة الأيام المفتوحة، فأراه وقد صار شابًا يافعًا وعلامات رجولته اكتملت، وها أنا أشاهده الآن وهو يشاهدني ويشاهد الجميع في موقف لا نعلم فيه من قد يكون أحق بتعزية الآخر والإشفاق عليه، فنحن نردد الآيات باستمرار كمن ينثر المياه على زهور منقولة من أرضها، وكأننا نحفظ الجسد المسجّى من الذبول حتى ينغرس بتربته الجديدة في المقابر، لكن أنّى له أن يعي كُنْهَ ذلك كلّه وهو الذي منذ نشوئه لم يلعب لعبة الكلام ولا دخل دنيا الأصوات، وتساءلت ما قد يراوده من فِكَر عمّا نردد، أنكون نحن القَتَلة وكلٌ منا يدفع عن نفسه، أم نتطارح في مصيبتنا فقط لنخفف من ثقلها على الأنفس، أنُلقن هذه المتوفاة قولًا ما؟ ندعو لها؟ نكيل لها السباب؟ نعقد لها محاكمة؟ نرجوها أن تنهض من موتها وتعود معنا؟ احتمالات لا نهائية قد تعصف بذهن الشاب وهو ينظرنا أمامه بينما شفاهنا لا تتوقف عن التمتمة والارتعاش، وأنا يؤرقني تساؤل واحد، كيف يعرّف الموت بينه وبين نفسه، وهو لم تشقّه صرخة من قبل، لم تهزّه شكوى مكلوم ولم تهزمه كلمات فَقْد، بل لم ينطق لسانه بتعزية لأحد ولا ردّها، إذًا كل من لا يراه فهو ميت، فعيونه هي ذاكرته التي يرصد بها معالم الحياة ويعدّ الأحياء.
أشرفنا على منتصف الطريق، وما زلنا على حالنا في ما نردد، إلى أن وجدت أحمد وقد اقترب أكثر من النعش، ثم التصق به ببطء، واحتضن أحد أذرع النعش بشدّة، ففهمت أنه فهمنا، فهم ترتيلنا وتوديعنا، طوّقنا نحن الميّتة بآيات، وطوقها هو بحضن لنعشها ودموع، وظلّ على حاله، يستنبط سَمْت الموت في ظل سكوته الإجباري وسكونه المستديم، يعتصر نفسه في النعش على وقع أصواتنا ويذوب وهو في مكانه وجدًا.
حتى إذا وصلنا إلى المقابر وهرع الجميع لحمل النعش وهو يخرج من عربة تكريم الموتى، تسابق إلى حمل النعش، الجنازة تكمل طريقها القليل المتبقي إلى المقابر، المقابر تصطف أمامنا كالمقاعد الفارغة في المناسبات، الأصوات تردد الآيات، وهو يحاول أن يسير مع النعش أطول مسافة ليستعيض عن صمته، فلربما كان حَرَجه أكبر، كنا داخل العربة ستّة أشخاص نعرفه جيدًا والآن نحن عشرات، ومنّا الكثيرون من لا يعرفه ولا يعرف طبيعته الخاصة، وقد يتقول عليه بعض الناس إنه قد بخل بالتشييع والدعاء، وظلّ صامتًا كالقبور التي نمرّ بها في طريقنا إلى موقع الدفن، وخلال سيره اللاهث خلف النعش، رأيته أوضح وأدقّ؛ نحيلًا طفيف الطول كشخصيات الصلصال في أفلام الكارتون، وجهه مستدير أسمر، عيونه غائرة وحواجبه كعلامات استفهام ممددة على سطر جبهته، تلطخ لباس عمله زيوت وشحوم حيث يعمل في محطة للتزود بالوقود، ومن وقود اللحظة اشتعل في ذاكرتي موقف بيني وبينه، فذات مرّة كنت برفقة صديق لي ومررنا على تلك المحطة التي يعمل فيها وقد كان هو في وردية عمله، فتولى هو مهمة الملأ، عندما رآني حينها ابتسم ولوح بيده إشارة أن كل شيء على ما يرام وحاول بشكل ما أن يقول: لقد راعيتك وأكرمتك في المعاملة والبيع لأنك قريبي، وقد فهمته كأنه تكلّم، وشكرته بنظرة وإشارة، أما الآن وقد أصبح الموت هو طرفه الآخر في المحادثة، فبماذا ستجدي النظرات وإلى أية مرتبة من الفهم قد تفضي الإشارات!
لقد حدّثني قبل ذلك أحد من أقاربنا عنه أنه من مرتادي الفيس بوك ويفهم به جيدًا، أيكون قد قرأ منشورات عن الموت أو شاهد صورًا تشي بذلك صريحة أو مُلمّحة؟ هو يقرأ ويكتب بعد أن نال حظًّا من التعليم، لكن ماذا لو حاول استراق السمع متتبعًا وصف صوت في سطور أحد المنشورات وفشل؟ لو كان هناك فيديو يحتاج إلى مشاهدته فقابلته الصورة حية نابضة والصوت ميتًا؟ كل ذلك سيقوده إلى إجابات مبتورة وأحاسيس ربما لا يعي مداها ولن يُحسن الإمساك بها.
وصلنا إلى موضع القبر وتوالت مراسم الدفن، وعندما بلغ ضجيج الموت ذروته من حولنا، استحسنت حظ أحمد مؤقتًا كونه لا يفقه عن الموت إلا قليلًا، وتمنيت أنا لو أصير مثله أو تكون حواسي كلّها معطلة، أوشكنا على الانتهاء ومن ثمّ ابتدأ الدعاء للميّتة، بينما كان يشارك بعض من الرجال في مساعدة اللحاد، فانغمس أحمد معهم وأهال التراب على موضع القبر بتفانٍ، لفّه الغبار كمن خرج من عاصفة للتو ولم يكترث، إلى أن تمّ الأمر واعتلى الصبار وانتصب الشاهد، ونفض القبر الناس عنه؛ كأحمد عندما بدأ ينفض ملابسه من الغبار وهو في طريق العودة، وقد لاحظته يبكي في صمت وما يزال ينفض الغبار وكذلك ينفض دموعه التي أغرقت زيّه الذي يرتديه، دموعه التي لم أدرِ هل كانت فقط على السيدة التي رحلت، أم على فشله ككل مرة في تأطير الموت والقبض على اللحظة كما ينبغي، ورحلته من الصمت... إلى الصمت.