الحَرَائِق الدَّاخِليَّة في الفيلم الإماراتي "كِبْرِيت"

عبد الهادي شعلان



 

ماذا يمكنك أن تفعل إذا أصابك الخَرَس من جَرَاء قَتْل والدك الَّذِي مزَّق شهادة التقدير الخاصَّة بك أمام عينيك، ووضعها في الماء وقال: "اشرب"؟ ولأنك إنسان ستقاوم الانكسار وأنت مصاب بالخَرَس، وستقابل في حياتك فتاة تحبها وتحبك، وستعيش لحظات رائقة.. ماذا ستفعل وأنت الطبيب إذا وضعتكَ الظروف أمام قاتل والدك في المستشفى، تحت رعايتك وتحت سمعك وبصرك؟ هل سينفجر كِبْريت الغضب داخل روحك وتقتل قاتل والدك؟ هل ستنفجر إذا اكتشفت أن قاتل والدك هو والد حبيبتك؟ مأساة متشابكة من أطراف عِدَّة بين القَتْل والعِشق، وعلاقات متداخلة تشاهدها في فِيلْم "كبِريت" إخْرَاج: عبيد الحمودي، سيناريو: ريان العباس، شارك فيه: محمود بن شمسان، عَبْد الله الجِنّيبي، نيفين ماضي، أشجان، سوسن سعد، وليد الياسي.



سِرداب الشَّرر

عنوان الفِيلْم "كبريت"، والكِبْريت هو مكمن الشَّرر؛ لكون الحرائق تسكن داخله، الكِبْريت هو مُشْعِل الحرائق ويتسبَّب في الكوارث، وإذا نظرنا لملصق الفِيلْم لوجدناه يحيط أبطاله والمشاركين فيه بالنار من أعلاهم؛ في إشارة لإحاطة النار بالأحداث، كما أن وجود الكِبْريت في الدرج حين اكتشفه سلطان في بداية الفِيلْم كان مؤشراً على أنه بداية حرائق الفِيلْم واشتعال أحداثه قد بدأت، وأن انفجار الفتيل الَّذِي فجَّر أحداث الفِيلْم يوشك على الظهور.

ندخل لأحداث الفِيلْم من ثقب ماسورة موجودة في خارج مبنى المدرسة الحاد، وَلَجْنَا بسرعة من الماسورة؛ وكأننا في عمق سرداب لنستكشف أسراراً لا تُرى بالعين من الخارج، أسرار داخلية مختفية داخل ماسورة الأحداث، هل في العمق شيء آخر غير الَّذِي نراه في الفِيلْم؟ هذا ما حدث حين انكشفت العلاقات، وبدا أن الحبيب ابن المقتول يحب الحبيبة بنت القاتل، وأن الحبيب قَتَل والد حبيبته، علاقات مخفيَّة داخل سرداب الفِيلْم، حرائق داخلية لا بُد لك أن تدخل سرداب الفِيلْم حَتَّى تدرك ما يعرضه.

يصاحب ظهور المبنى الحاد في مفتتح الفِيلْم موسيقى قويَّة تسحبك بعنف لدوائر سوداء كدوامات، كأننا في عمق شيء سري، لقد دخلنا الفِيلْم وكأننا نشاهد ما يحدث بعين فأر، كأننا نجري وراء فأر يدخل ويتسلَّل لعمق الفِيلْم من فتحة ضَيِّقة.

حين تدخل من السرداب تسلمك الماسورة لعمق ماسورة أخرى، لخيوط عنكبوت، وكأن صُنَّاع الفِيلْم أرادوا إخبارنا منذ بداية دخول الكاميرا للماسورة؛ بأننا سندخل سرداب النفس البشرية بكل ما تحوي من تعرجات، ودوائر بلا حدود.

مَكْمَن الحرائق

الوَالِد راشد يترك أولاده لمهب الريح، كشذرات نار تتطاير في الهواء، لذلك كان وليد يتعاطى التدخين وهو صغير، والوَالِد راشد يتحرَّش بفتيات عَبْد الله الَّذِي اشتعل الفتيل في رأسه وهو في حالة سُكْر فقَتَل راشد، واشتعل الفِيلْم، جريمة قَتْل من أجل تحرُّش هي البداية الحارة لبوابة فِيلْم كِبْريت.

منذ البدء وسلطان مميَّز، يأخذ شهادة تقدير من أجل أن يكون قدوة لأخيه وليد، وكانت المفارقة واضحة بين الأخوين، فسلطان يحمل كتبه، ووليد يتشاجر بعنف مع زملاء المدرسة، سلطان يذاكر ووليد يهرب من فوق سور المدرسة، سلطان يحصل على شهادة تقدير ووليد يدخن السجائر، يقول وليد مبدأه الأكيد منذ صغره: "الدراسة بلا فائدة".

حين مَزَّق الوَالِد راشد شهادة التقدير الَّتِي حصل عليها سلطان اشتعل الكِبْريت الداخلي في روح سلطان، وكتم الهزيمة في قلبه، ساعتها جاء الفاصل الجيد بعد بكاء سلطان، وأظهر لنا صُنَّاع الفِيلْم القمر وهو في حالة سواد؛ وكأنه مليء بدخان حريق، لقد غَطَّى نور القمر سحابة سوداء تشبه دخان الحرائق، وكأن احتراق قلب سلطان أخرج دخانه من داخله وصَنَعَ للكون سحابة غطَّت نور القمر، سحابة من دخان قلب سلطان.

من هذه اللَّحْظَة بدأت المَشَاهِد تدخل في حالة من الرمادية، حالة تدل على خطورة ما سيحدث، ومع قَتْل الوَالِد وتمزيق الشهادة ضاع صوت سلطان من الفِيلْم وأصابه الخَرَس، ثم يحدث القطع الزمني حين تتطاير ريشة في الهواء وتتغيَّر ألوان السَّمَاء، وتخرج الكاميرا من الصَّحْرَاء وتأتي المدينة العامرة، ويرتطم طائر بالشَّاشَة فَتُظْلِم؛ لتعبِّر عن مرور فترة زمنية طويلة، بعدها يظهر سلطان يدرس الطب، ونرى وليد يبدو كرجل أعمال مزيَّف.

في البدء كانت العاطفة

كيف يمكن للأخرس أن يحب؟ دخل بنا الفِيلْم مع خجل سلطان إلى سوء تفاهم بينه وبين إحدى زميلاته، وتطوَّرت هذه العلاقة في قلب سلطان، بدأ يشعر بمشاعر حميميَّة ناحية زميلته حفصة، وبدأ يساعدها في البحث الَّذِي تقوم به عن طريق حِيَل استخدمها صُنَّاع الفِيلْم للتقريب بينهما، استخدم الأوراق الملوَّنة الجميلة: البرتقالي المنير، والأصفر الزاهي، وكتب لها كل ما يريده على أوراقه الملونة، ونشأت العلاقة بينهما عن طريق هذه الوريقات الصغيرة الَّتِي حَلَّت محل لسانه وصوته، كانت ملامح حفصة تبدو راضية عن العلاقة على الرغم من أن سلطان أخرس، لكنها شعرت بمحبَّته لها، ودقَّ قلبها بخفوت، حَتَّى إننا رأينا مشهداً معبراً لحفصة وهي تقوم بجمع الأوراق الملونة أمامها، بدت اللقطة حميميَّة.

على الجانب الآخر كان وليد يقوم بعمليات ابتزاز، وهو في نفس الوقت على علاقة بمروى صديقة حفصة، ونشأت معه علاقة بدت على الشَّاشَة أنها علاقة حب، وكانت الأغنية تربط بين علاقة حفصة وسلطان، وبين علاقة مروى ووليد، فقط أغنية ومشاهد تمر، كشفت مساحة الأغنية عن تطورات العلاقة، مما جعل المُشَاهِد في حالة ترقُّب، كيف ستنتهي العلاقات؟ سلطان الأخرس كيف ستتم علاقته مع حفصة؟ كيف ستكتمل علاقة بين أخرس ومحبوبته؟ هل سيتفاهمان طوال حياتهما بالورقة والقلم؟ وإلى أين ستؤول علاقة مروى بوليد؟ فنحن نعلم أنه مُسْتَغِل ومبتز، وهي تحبه فقط لأنها تعلم أنه غَنِي، فكان لزاماً على المُشَاهد أن يتابع الأحداث؛ ليحصل على مفتاح العلاقات ونهايتها، وكان التقاطع البصري للمَشَاهد بين الأحبَّة يشي بأن النهاية ستكون سعيدة لسلطان، فَصِدْق علاقة سلطان البادية على الشَّاشَة وإخلاصه ينبئنا بأنه سيحصل في النهاية على محبوبته حفصة، وسيسترد صوته الضائع؟ فهل هذا سيحدث؟

أمَّا علاقات وليد المتعدِّدة تنبئ عن نهاية تعيسة، مما ذكرنا بالفرق بين سلطان ووليد منذ صغرهما في بداية الفِيلْم، فإلى أي مدى ستنتهي العلاقة؟ فكان على المُشَاهِد أن يتابع من سينجح، هل سلطان الطيب المُخْلِص الأخرس، أم وليد؟ ويبقى الترقب.
 

انفجار الكِبْريت

في السجن، مرض عَبْد الله الَّذِي قَتَلَ راشد والد سلطان ووليد من أجل التحرش بابنته في بداية الفِيلْم، ويظهر في الأفق سِرٌ دفينٌ داخل السراديب، يحمل عَبْد الله هذا السر الكبير، يريد أن يُفْصِح ويبوح به قبل أن يموت، ويكشف لنا أن مروى أخت حفصة، يا للسرداب الَّذِي وضعه صُنَّاع الفِيلْم، الآن حفصة وأختها على علاقة بالأخوين وليد وسلطان، ووالدهما عَبْد الله قتل راشد والد وليد وسلطان، لقد بدأت عُقْدة الفِيلْم تزداد إحكاماً، كيف ستنتهي العلاقة؟ لقد صار من المستحيل أن يرتبط أبناء القتلة.

حين يموت عَبْد الله تكتشف حفصة أن هناك علاقةً بين سلطان وبين والدها عن طريق صورة، وتنفجر حرائق الفِيلْم ويصرخ سلطان ويخرج من صمته الأبدي، ويعلن لحفصة أنه قتل عَبْد الله والدها، وأنه أخرج روحه بيده؛ لأنه قتل والده، لكنه كان في لحظة غير واعية، كان تحت تأثيرات نفسيَّة شديدة ومعقَّدة، فَحُكِم عليه بالسجن سبع سنوات؛ نظراً لظروف ارتكاب الجريمة، ويتم القبض على وليد، ويدخل السجن، وينتهي الفِيلْم بأن تحتضن أم وليد وسلطان كلاً من حفصة ومروى، ويعطينا الفِيلْم أملاً في أن العلاقة ستستمر بعد خروج وليد وسلطان من السجن، وأن تطهيراً ما حدث للنفوس بعد أن تم كشف كل شيء، وفي النهاية لقد انفجر الكِبْريت وانكشفت كل الأسرار، ولم يعد هناك غير الانتظار لأحداث سعيدة رُبَّما تأتي في أحداث المستقبل.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها