حنا أرندت Hannah Arendt – مارتن هايدجر Martin Heidegger

وَلَعٌ يَنْأى عن الخير والشر

ترجمة: نبيل موميد


بقلم: ألان درايفوس


رغم أن التاريخ الأدبي يحكي لنا عن ميل الأدباء والفلاسفة إلى العزلة والابتعاد عن العلاقات الاجتماعية.. إلا أن عدداً منهم ترك –بالإضافة إلى نِتاجه الإبداعي والفكري المتميز– قصة شخصية تحكي علاقاته، المعلنة أو السرية، وتلقي الكثير من الضوء على مراحل حياته، ومعالم نفسيته، وكيفية تشكل أفكاره، ومختلف لحظات صفوه وساعات كدره.. ولربما كانت المراسلات الرائعة بين المفكر الفذ "ألبير كامو" والفنانة "ماريا كازاريس"، والعلاقة العاطفية بين الأديب الفرنسي "لويس أراغون" والأديبة الروسية "إلزا تريولي"، ويوميات الفيلسوفين "جون بول سارتر" وسيمون دو بوفوار"، وقصة الكاتبين الأمريكيين "سكوت فتزجيرالد" و"زيلدا ساير فتزجيرالد"، ومراسلات المبدعين العربيين "مي زيادة" و"جبران خليل جبران" وغيرهم كثير نماذج لما أسلفناه.
 

غير أن طبيعة العلاقة التي ربطت بين كل من الفيلسوف الألماني الكبير "مارتن هايدجر" (1889-1976)، والمفكرة الألمانية الجريئة "حنا أرندت" (1906-1975) كانت من طراز خاص للغاية؛ لأنها بكل بساطة علاقة مستحيلة؛ فهي أولاً علاقة بين أستاذ جامعي مرموق وتلميذته، أستاذ مسيحي يؤمن بالأطروحة النازية المتطرفة، وطالبة يهودية معادية للأنظمة التوتاليتارية بإطلاق، بين رجل متزوج وأب لطفلين وعازبة تبحث عن الحرية والانعتاق والمغامرة... لذلك فُرِض على هذه العلاقة أن تكون سرية بعيدة عن أعين الأوساط الجامعية، وعن أسرة "هايدجر"، وعن رقابة الحزب النازي. علاقة كانت المسافات عنوانها، والبُعد مصيرها رغم ما بذلته "أرندت" في سبيل حب حياتها، ورغم عدم مجاراة "هايدجر" لها بسبب ظروفه المعقدة، أسرياً وسياسياً، وبسبب أفكاره التي كانت في أحيان كثيرة مناقضة لأفكارها.

عن هذه العلاقة العاصفة، يحاول هذا المقال –الذي ورد ضمن ملف أعدته مجلة "قراءة المجلة الأدبية" الفرنسية هذا الشهر عن علاقات الأدباء الشخصية– أن يقدم الكثير من الخبايا، ويحفر في أصول بعض الإشكالات التي أثثت المسار الفكري لعملاقين بصما القرن العشرين، وأثرا في الفكر السياسي العالمي.

في سنة 1924 حضرت (حنا أرندت – Hannah Arendt) في جامعة ماربورغ حلقة دراسية لـ(مارتن هايدجر – Martin Heidegger) حول محاورة السفسطائي لـ"أفلاطون"؛ فكان اللقاء، وكان الحب من أول نظرة بين فيلسوف يسمو نجمه في سماء الفلسفة الألمانية، وشابة جميلة حباها الله بذكاء استثنائي، وجاذبية غريبة هي ثمرة حماستها المتقدة، وحيائها الْمُحبَّب.

ورغم أن رئيس جامعة فريبوغ المستقبلي كان متزوجاً، ويفوق "أرندت" عمراً بما يقارب ضعف سنها، إلا أنه كتب لها في إحدى رسائله متأججة العواطف، والتي كانت تنتهي في الغالب بقصيدة (تم تجميعها في كتاب مراسلاتهما):
"فجأة، يصير الوجود مبهراً
في خضم كمين، فلنتخشع إجلالاً
فلنرقص".

إن ذاك الحب الذي تمكن من إحكام عراه بين أميرة يهودية من أمراء الفكر المعاصر، مهتمة بالحفر في الفكر التوتاليتاري، وفيلسوف واسع التأثير، غير أنه كان متواطئاً مع النظام النازي، يطرح إشكالاً حقيقياً. فبغض النظر عن الانجذاب المتبادل بينهما، كيف أتيح لهذه العلاقة أن تصمد، بل وأن تتقوَّى بالرغم من مسألة "عملية الحل النهائي" (عملية حاولت من خلالها المصالح الاستخباراتية اليهودية إلقاء القبض على مجرم الحرب الألماني "أدولف أيْخمان"، الذي اختفى في خضم فوضى سقوط برلين سنة 1945)، التي أبى صاحب الوجود والزمان (Être et Temps) بشكل قطعي أن يأخذها بعين الاعتبار؟ ورغم أن مراسلاتهما تشيع بعض الضياء حول الأمر، إلا أنها تعاني من اختلال توازن واضح، يرتبط ابتداءً بأن عدد رسائل "مارتن هايدجر" يفوق بمراحل رسائل "حنا أرندت". ويبدو أن الفيلسوف أو ورثته لم يحافظوا من رسائل "أرندت" سوى على تلك الأكثر التزاماً بمعايير الانضباط الاجتماعي، وبأعداد جد محدودة. من ناحية أخرى، نسجل أن مراسلاتهما التي تمتد من سنة 1925 إلى سنة 1975، شهوراً قلائل قبل وفاة "أرندت"، وسنة قبل مواراة "هايدجر" الثرى، تعاني من فجوة تمتد لعشرين سنة تقريباً؛ صمت تام غطى الفترة الممتدة بين سنتي 1933 و1950؛ وهي السنة التي سيعيد فيها المفكران العلاقة فيما بينهما، لكن مع حضور طرف ثالث هذه المرة؛ وهو "إلفريد" زوجة "هايدجر"، والعضو السابق في الحزب النازي الألماني، والتي لم يحدث وأنكرت مواقفها المعادية لليهود.

نماذج التزام أخلافي من زمن آخر

لا نجد في القسم الأول من مراسلاتهما (الممتدة بين سنتي 1925 و1933) تفاصيل كافية حول حياتهما العاطفية؛ ويعود هذا بدون شك إلى ما سجله (أورسولا لودز – Ursula Ludz) في تعليقه على مراسلاتهما؛ حيث قال: "إنهما يمثلان شهوداً على ثقافة زمن آخر تتعامل مع الحميمي بشكل مغرق في الشخصية، وتستند إلى معايير أخلاقية يمكن أن تبدو غريبة في نظر جيل فتح أعينه على ما يسمى بالثورة الجنسية".

بيْد أنه في شتاء سنة 1933، وبعد أن فرت "أرندت" من ألمانيا صوب فرنسا، أرسل إليها "هايدجر" رسالة يرد فيها على اتهامه بمعاداة اليهودية، دون أن يكون ذلك سبباً في تراجعه عن أفكاره ومعتقداته؛ حيث انخرط في الحزب النازي، وأقسم الولاء والإخلاص لـ"هتلر". وهو ما سيتيح له في نفس السنة أن يحصل على منصب رئيس جامعة فريبوغ (1933-1934)، وسيجعله –بموجب قوانين الحزب النازي– يقفل أبواب مكتبة الجامعة على أستاذه فيلسوف الظاهراتية الأشهر (إدموند هوسرل – Edmund Husserl).

إلى أي حد دعمت "أرندت" "هايدجر"؟

رغم أن نجم "هايدجر" ما انفك يسطع بعد الحرب العالمية الأولى، إلا أنه خضع مراراً لاستجوابات تحقق في انحرافاته عن أطروحة الحزب النازي. وطيلة حياتها، لم تألُ "أرندت" جهداً في الدفاع عن "هايدجر"، مساهمة بذلك في ضمان احترام وتقدير نِتاج مَن قالت في حقه: "لقد علمني التفكير".

بل إن "أرندت" دافعت في نصها الأساسي أيخمان في القدس عن نظريتها "تفاهة الشر"، من خلال لوم عدد من الزعماء اليهود على دورهم في إبادة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية؛ وهو ما جر عليها عدداً من التهم من قبيل: "يهودية كارهة لذاتها"، و"مدافعة عن النازية"... ونُظر إليها بوصفها قد وضعت في نفس المستوى كلاً من الجلاد والضحية، منزهة في ذات الآن "هايدجر" من كل اتهام أو مجانبة للصواب في تفكيره. لذلك اعتبرت "أرندت" الكاتبة التي ساهمت بالفعل، وبالملموس، في الانتشار العالمي لفكر "هايدجر".

ورغم أن فلسفة "هايدجر" عُرفت في الأوساط الفلسفية والفكرية بافتقارها للحب وصرامتها حد الجفاف، إلا أن حياته الشخصية كانت عاصفة وممزقة بين التزامه بوصفه رب أسرة وأستاذاً محترماً، وفي ذات الآن إنساناً قد يدق الحب بابه ويجبره على اتباعه. وبسبب ضغط المجتمع الألماني الذي كان يعيش فيه، وبالنظر إلى التزاماته الأسرية؛ عاش فيلسوفنا أزمات نفسية عدة –قد نقول إن أساسها عاطفي– حتى يبقى وفاء لقيمه ومُثُله. "أرندت" – من ناحيتها– ظلت طيلة حياتها وفية لحبها، مقدرة لظروفه، ممتنة للحياة التي جعلتها تعيش تجربة مميزة، رغم أنها لم تشبع شغفها ولا روت عشقها، وبقيت حتى وفاتها تكتفي بلقاءات خاطفة، وبرسائل لا تطفئ نار البعد.
 


 المصدر 

(LIRE LE MAGAZINE LITTERAIRE, n°: 505, Mars 2022, pp: 50-51)
Alain Dreyfus, Hannah Arendt-Martin Heidegger Une passion par-delà le bien et le mal

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها