
محمد عزت الطيري، شاعر مصري ولد عام 1953 بنجع حمادي بصعيد مصر، حاصل على بكالوريوس الزراعة من جامعة أسيوط، ودبلوم الدراسات العليا في التربية، بدأ النشر في المجلات العربية منذ السبعينيات، عضو في اتحاد الكتاب في مصر، واتحاد الأدباء والكتاب العرب، له عدة مؤلفات منها: على مقام الدهشة، الطريق السهل المقفل، عُد لنا يا زمان القمر، فصول الحكاية، أحزان شاعر قروي، دع لي سلوى.
من الشارقة حيث الثقافة سراج يصل نوره المدى، ساقتنا الأسئلة إلى عاصمة الفراعنة قديماً، مدينة قنا، حيث التاريخ والتراث، وحيث تختلط التراتيل بالمحكيات بالسّير، أنخنا راحلتنا في رحلة لا تتوقف، والتقينا عزت الطيري، الذي كان لنا معه الحوار التالي:
✦ تعتمد في معظم قصائدك على السخرية والتندر برأيك هل للفكاهة دور في الوصول إلى قلوب القراء والمستمعين؟
السخرية من الواقع والحال والظروف معروفة من قديم الزمان في أدبنا العربي وتراثنا الشعري، أحياناً تكون بالرمز وأحيناً تكون بالتورية، وتستخدم أحياناً كسلاح في مناهضة الظلم، والشاعر قد يستخدم سلاح السخرية للهروب من المساءلة والعقاب والتنكيل، والشاعر الجيد هو الذي يفعل ذلك دون الهبوط بالنص إلى مرحلة السهولة والمباشرة، وفي عالمنا العربي شعراء وظفوا ذلك بمهارة؛ مثل مظفر النواب، وسعدي يوسف في العراق، والشاعرين التونسيين منصف المزغني وأولاد أحمد، اللذين قدما نماذج ممتازة في هذا النوع من الشعر، ونظرا لشخصيتي الساخرة أصلاً، وخفة الظل التي منحني الله إياها كما يقول رفاق رحلتي، وقدرتي كما يقولون على تحويل المواقف التي أمر بها، والتي لا تستوقف أحداً إلى نصوص ساخرة جعلتني أنفرد بهذه النصوص، وأحقق فيها نجاحاً ملموساً، مع العلم أن هناك فرقاً بين الظرف والتظارف الذي يلجأ إليه الآخرون استجداء لإرضاء الناس، فأنا أقدر الجمهور الذي أمامي، وإذا كنت في مؤتمر أدبي يضم المثقفين والمبدعين فسأقول لهم وألقي ما يناسب ذائقتهم، أما إذا كان جمهوراً من العمال والفلاحين، أو طلبة المدارس الثانوية فلا أتعالى عليهم بأشعاري المركبة والغنية بالصور؛ بل أقول لهم ما يناسبهم ويبهجهم، ولي في بشار بن برد القدوة والسند حين قال:
ربابة ربة البيت ... تصب الخل في الزيت
لها عشر دجاجات ... وديك حسن الصوت
فلما سألوه لماذا كتبت ذلك، قال: إن هذه الأبيات عند السيدة البسيطة أفضل من قفا نبك.
✧ من منطقة ينحدر منها معظم المطربين الشعبيين ورواة السيرة، ماذا أضافت قنا لتجربتك الشعرية؟
منطقة قنا التي ترعرعت فيها هي منطقة نائية، وكانت منفى لكل المشاغبين والمارقين، ولم يكن أمام الرجل القنائي غير طريقين: إما أن يتزوج ويستمتع بزواجه، وإما أن يغني ويكتب الأشعار، ويؤلف المواويل والأزجال، لذا انتشر فيها رواة السيرة الهلالية وعازفو الربابة والأرغول، وكنت أنا واحداً من المغرمين بهم، والذين يذهبون إليهم والمتتبعين لأخبارهم وقد لعبت إذاعة الشعب بقيادة الإذاعي الكبير فهمي عمر دوراً كبيراً في نقل حفلاتهم من خلال الإذاعة، يومها كنت أجلس مع الفلاحين المتحلقين حول الراديو، وأستمع إلى جابر أبو حسين أعظم رواة السيرة وهو يحكي عن أبي زيد الهلالي والزناتي خليفة، لذا تجد في شعري الحس القصصي والحكايات الشعبية والأساطير.
✦ بالعودة إلى البدايات، كيف ولجت عالم الشعر؟
أولى مصادر التأثير التي أسست لتجربتي الشعرية هي القرآن الكريم، فقد دخلت مكتب تحفيظ القرآن أو ما يُسمى بالكُتَّاب مبكراً وحفظت أجزاء كثيرة منه، وفي المدرسة كان والدي ناظر المدرسة يشرح ويفسر آيات القرآن بما يناسب عقولنا، كذلك لعب القصص القرآني دوراً في ثيمة الخيال عندي، فجذبتني قصة الصبي الجميل الذي ألقوه في الجب حسداً وغيرة، وقصة نوح عليه السلام وقومه الذين سخروا منه وهو يبني السفينة، وكان لحكايات جدتي ومن بعدها أمي مفعول السحر، وكان البرنامج الإذاعي الشهير ألف ليلة وليلة الذي يقدمه (بابا شارو)، ويكتبه طاهر أبو فاشا يومياً مكملاً لحكايات الطفولة، إلى أن واجهت ألف ليلة الحقيقية بمجلداتها، ونسختها غير المنقحة في مكتبة جدي، أضف إلى ذلك حكاوي ونوادر وألغاز جدي عثمان عبد الرحيم ومربعاته الزجلية المغلقة والمفتوحة، وسيرة أبي زيد والأميرة ذات الهمة التي كان يقصها لنا كل عشية على ضوء القمر.. وكما كنت أحرص على هذا العالم السحري، كنت شغوفاً بمجالس الذكر ومواويل المنشدين:
رأيتُ ظبياً على كُثَيّب
كمثل بدرٍ لنَا تلالا
فقلتُ ما الاسم قال لولو
فقلت لي لي؟ فقال لالا
ولعب أبي لعبته الفاتنة في تكوين روح الخيال عندي، فأثناء مرورنا على النيل وجدنا الصنادل، وهي عبارة عن الزورق الكبير الذي ينقل كل شيء عن طريق النيل، مثل الأخشاب ومواد البناء وأجولة السكر من مصنع السكر إلى المحافظات، ولا حظت أن أحد الصنادل مكتوب عليه صندل جمال عبد الناصر فسألته ما هذا يا أبي؟ فقال هذا صندل جمال عبد الناصر، فلم يخطر ببالي سوى الصندل الذي يلبس كالحذاء في القدم، فقلت في نفسي إذا كانت هذه فردة واحدة من صندل عبد الناصر، فما هو حجم عبد الناصر وقامته وطوله؟
✧ وماذا عن الأجناس الأدبية الأخرى؟
قد تستغرب أن الرسم قد سرقني قديماً من كل الهوايات التي كانت تشغل جيلي، وقد كان للفنان علي حسين أبو العلا الذي كان مدرساً في مدرسة القرية نازحاً من العاصمة، دور مهم في تشكيل ذائقتي الفنية والثقافية، فهو أول من اكتشف موهبتي في الرسم والنحت، ولما عرف أنني مولع بكُتَّاب الأطفال، وكتاباتهم مثل جاذبية صدقي ومحمد أحمد برانق، ومحمد لبيب البوهي ومحمد سعيد العريان، قال لي تجاوز هذه المرحلة واقرأ لأمين يوسف غراب، ومحمد عبد الحليم عبد الله ويوسف السباعي، ثم قال لي اقرأ لصلاح جاهين، وأهداني كتابات فؤاد حداد. وأذكر أنه قال لي صلاح جاهين متعدد المواهب فهو رسام وممثل وشاعر، لكن إبداعه الحقيقي في شعر العامية المصرية، وكم كان فرحاً عظيماً عندما قرأ لي أول قصيدة بالعامية، وكتبت بعدها بسنوات قصائد عامية بلغت ديواناً كاملاً لدرجة أنني فزت بقصيدتي أحزان شاعر قروي بالمركز الأول على مستوى الجامعة، ورشحتني الجامعة لتفوز قصيدتي بالمركز الأول في أسبوع شباب الجامعات، ثم انتقلت إلى كتابة القصة القصيرة وأبليت فيها بلاء حسناً، جعلت مجموعتي الأعرج تفوز في مسابقة القصة القصيرة التي أجرتها مديرية الثقافة بأسيوط، حتى انتهيت إلى أن الشعر هو ملاذي الحقيقي، الذي أقضي على شواطئه وأعشابه وجنادله، وضفاف أنهاره أحلى ساعات عمري مخلصاً له متفانياً فيه.
✦ لديك عدة مجموعات شعرية هل تختلف من حيث التجرِبة؟
لدي أكثر من 20 مجموعة شعرية، وأصدرت أولى مجموعاتي وأنا في أول الشباب بعنوان الطريق السهل مقفل، وتحتوي على قصائدي البكر المكتوبة أثناء دراستي الجامعية، وتغلب عليها الرومانسية والعفوية، والتجارب البكر والغنائية الشديدة والموسيقى الرنانة، وفي (فصول الحكاية) تخليت عن الغنائية، وتسللت الفكرة إلى قصائد المجموعة، وتراوحت القصيدة بين الطويلة جداً والقصيرة جداً في مجموعتي الثالثة "سرب العصافير يسأل عنك"، التي وجهت قصيدتي الرئيسة فيها إلى الراحل العظيم صلاح عبد الصبور، الذي خرجنا من عباءته وتأثرنا به هو وأحمد عبد المعطي حجازي، وظهر التأثر بقراءتي الفلسفية وعلم النفس، وفي مجموعتي غناء الهجير الذي أخطأ الخطاط وكتب على غلافها غناء الهجر، خصصت قصائدها للحديث عن قريتي الجنوبية، وعن أفراحها وأتراحها، وعن أحزانها المتغلغلة في عروق أهلها، وفي حوائطها الطينية وبيوتها قصيرة القامة، وعن طقوسها وتقاليدها وعاداتها، ويغلب عليها السردية دون التخلي عن الشعرية وعن تفاعيلها وموسيقاها.
✧ يندر اليوم أن يحظى الأديب والشاعر بالتقدير الذي يستحقه، برأيك هل أعادت الشارقة للمثقف مكانته التي يستحق؟
نعم؛ وفي مشروعها الأخير وهو تكريم الأدباء في بلادهم من خلال احتفال كبير حققت ذلك، ففي العام الماضي كرمت المترجم السيد إمام في مسقط رأسه في دمنهور، وهذا العام كرمت في القاهرة أربعة أدباء ما بين كاتب مسرحي وروائي، فقد كرمت الكاتب المسرحي والفنان الشامل درويش الأسيوطي من صعيد مصر، والروائي السكندري العظيم مصطفى نصر الذي ظل قابعاً في الإسكندرية يبدع، ويكتب ويسجل تاريخها قصصاً ورواياتٍ ومقالات، كما كرمت الروائي سعيد نوح صاحب الرواية البديعة "كلما رأيت بنتا جميلة قلت يا سعاد"، والقاص سمير المنزلاوي. وأتمنى في السنوات القادمة أن يمتد التكريم إلى شعراء كبار يعيشون في قرى ومدن وأقاليم مصر، يبدعون في صمت ولم تقدرهم الدولة التقدير الذي يليق بهم، ولم يحصلوا حتى على جائزة التفوق التي يمنحها المجلس الأعلى للثقافة.
✦ كيف ترى مشروع الشارقة الثقافي، وهل خدم مهرجان الشارقة للشعر العربي مدونة الشعر العربي؟
لقد أراد الله الخير لنا وللشارقة وللشعر العربي، حين منحها حاكماً عظيماً مثقفاً ثقافة كبيرة، وشاعراً كبيراً أيضاً، وكاتباً مسرحياً مرموقاً، ودكتوراً وأستاذاً هو صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، فلقد أعاد سموه إلى الأذهان مشروع جمال عبد الناصر الثقافي في الستينيات، عندما كان يخرج من المطابع المصرية كتاباً كل دقيقة، وعندما كان الدكتور ثروت عكاشة وزيراً للثقافة المصرية، فحدثت نهضة في السينما والمسرح وفي كل فروع الثقافة، وهاهو صاحب السمو الدكتور سلطان القاسمي يحدث نهضة شعرية شاملة، ليس في الشارقة فقط، أو في الإمارت أو الخليج فقط، بل في الوطن العربي كله، ولقد كان لمهرجان الشعر العربي في الشارقة الأثر البالغ في تعارف شعراء الوطن الكبير على أرض الشارقة المعطاءة، وقد شرفت بحضور هذا المهرجان مرة واحدة فقط منذ سنوات طويلة، وهناك تقابلت واستمعت إلى شعراء كبار وشباب مبدعين، لولا هذا المهرجان لما التقيت بهم. إن مهرجان الشارقة للشعر العربي أعاد للشعر العربي رونقه، وفتح أمامه أبواباً مشرعة للانتشار، واسمحوا لي أن أشكر دائرة الثقافة في الشارقة على مجهوداتها الكبيرة من خلال مؤتمراتها ومهرجاناتها، ومطبوعاتها ومجلاتها، وأن أشكر مديرها ورئيسها الأستاذ عبد الله العويس الذي أصبح أشهر وزير ثقافة عربي الآن، فنحن نراه في كل العواصم العربية متنقلاً بمشاريع صاحب السمو حاكم الشارقة ومقترحاته وطموحاته.
✧ ماذا عن بيوت الشعر، وبيت الشعر في الأقصر؟
حظي الجميل هو الذي جعلني أتعرف على ثلاث بيوت للشعر في العالم العربي، الأول هو بيت الشعر في الشارقة، الذي جذبني إليه مكانه المميز في قلب الشارقة، وقاعاته الفسيحة، وندواته الحافلة بالجمال وبالجمهور، والبيت الثاني كان في مدينة القيروان بتونس، ويقع في منطقة هامة، وأقمنا فيه ندوة شعرية لا تنسى أنا والصديق حسين القباحي، أما بيت الشعر في الأقصر الذي يقع في طريق الكباش المنطقة السياحية، فقد استطاع مديره الشاعر أن يجعله بقعة مضيئة ليس في الأقصر وحدها، أو في الصعيد كله فحسب، بل في مصر كلها وأصبحت المشاركة في إحدى أمسياته حلماً يراود كل المبدعين، وأصبح نشاطه يفوق نشاطات هيئات ثقافية تعج بمئات الموظفين، وقد يصيبك الذهول لو علمت أن عدد موظفيه يتمثل في مديره حسين القباحي، ومساعد المدير الشاعر حسن عامر، والفنان تامر، والعامل النشيط والمتفاني مصطفى.