تعدُّ مسألة العنونة من قضايا المعاصرة التي لم تشغل بال القدماء؛ إذ طالما سُميت القصائد بتسميات دالة غير أنها غير مختصة بالنص نفسه، كأن يكون العنوان حرف الروي كما نقول: لامية الشنفرى، ونونية ابن زيدون، وسينية البحتري، أو يكون الحدث التاريخي الذي تتطرق إليه القصيدة علامة فارقة تسم القصيدة من مثل قصيدة أبي تمام في فتح عمورية، غير أن العنوان بدأ يكتسب أهمية خاصة مع الدراسات الحديثة التي أصبحت ترى في العنوان نفسه نصاً آخر يعلو النص، ويمهد له، ويدل عليه.
وفي هذا المقال أشير إلى الحمولات الدلالية التي يعكس العنوان أبعادها بما للمعطى التاريخي من أهمية في تأكيد الحمولات التي يشير إليها العنوان، وهو ما سأبينه من خلال دراسة ظاهرة العنونة في تجربة الشاعر محمد البريكي من خلال مدونة التجربة الشعرية لديه التي تتضمن عنوانات دواوينه التي أوردها حسب تاريخ صدورها وهي:
(بيت آيل للسقوط 2012م)، (بدأت مع البحر 2015م)، (عكاز الريح 2019م)، (الليل سيترك المقهى 2021م)، (مدن في مرايا الغمام 2022م)، (متأهباً للعزف 2023م).
يبدو للمتأمل في هذه العنوانات أنها تحقق وحدة موضوعية تقوم على حقيقة أن النسيج الشعري الحامل لهذه التجربة الشعرية واحد، ينبني وفق تسلسل متدرج وفق علاقات تربط بينها الأسباب الذاتية التي تؤدي إلى نتائج موضوعية، وهو ما يكشف عنه تحليل بنية العنوانات من حيث تركيبها اللغوي، ودلالاتها النفسية التي أسست عليها.
أبدأ بالعنوان الأول وهو كما يلاحظ مكون من تركيب ثلاثة أسماء، وتفيد دلالة الاسم الثبات، وقد جاءت دوال التركيب بيت نكرة في إشارة إلى بيت عام غير محدد، قد يكون حقيقياً، أو مجازياً كأن يكون بيت بناء، أو بيت شعر، الدال الثاني آيل وقد جاء مشتقاً بزنة اسم فاعل في تأكيد الفاعلية المتضمنة فيه، أي إن الحدث بفعله الداخلي لا بفعل تأثير خارجي، الدال الثالث شبه الجملة المكون من اللام الجارة بما تحيل عليه من إشارة إلى رسم يدل على انحدار بشكل يمثل حالة السقوط التي لما تحصل بعد، وكأننا أمام مشهد متحرك يحاول الشاعر من خلاله أن يقدم العنوان للقارئ ليشرك حاسة البصر مع حاسة السمع في استكناه العنوان في دلالته البعيدة من خلال تضافر حاسة البصر والسمع في إطار مشهد يرسمه الشاعر بالكلمات.
العنوان الثاني مكونات العنوان فعل بدأ الذي جاء بصيغة الزمن الماضي ما يؤكد حصول الفعل ونحقق حصوله، وقد اقترن بتاء الفاعل الذي يحيل على الشاعر نفسه، ما يعني أن فعل البدء كان بفعل الشاعر نفسه، وهو يحدد ذلك البدء برفقة البحر، وهنا ثمة دلالتين إذ يحيل البحر على دلالتين قريبة تعني البحر الموجود في الطبيعة، والدلالة الثانية البحر الوزني في الشعر، وهو ما أرجح أن تكون الدلالة مشيرة إليه.
العنوان الثالث عكاز الريح مكون اسمي قام على تركيب إضافي وقد شمل العنوان مفارقة باعثة على التساؤل الذي تثيره دلالة التركيب بما يتضمنه من صورة باعثة على الإدهاش والإثارة، وهي من أخص سمات العنوان التي تغري القارئ وتلفت انتباهه؛ إذ لفظ عكاز تشير إلى حالة الضعف، وهو ما يستدعي وجود الــعكاز الذي يكون واسطة للعاجز عن السير وحده من دون وسيلة مساعدة، وقد اقترن بلفظ الريح التي تحمل دلالة نقيضة تفيد القوة والفاعلية، كما تتضمن القدرة والتأثير، ووفق هاتين الدلالتين تتبدى جمالية العنوان من خلال بعديه اللغوي والدلالي على حد سواء.
عنوان الليل سيترك المقهى مكون العنوان جمع بين الاسمية بدوال الليل الذي يشير إلى الهدوء، ومن محدد يرتبط غالباً بحالات التأمل والحزن، المقهى اسم مكان دال على مكان يقضي الإنسان فيه أوقات الفراغ، فيما جمع بينهما الفعل المضارع مسبوقاً بحرف السين الذي يفيد الزمن القريب، والفعل المضارع يترك الذي يشير إلى استمرار الحدث وتوقع حدوثه في القريب، وهكذا يبدو أن مغادرة الليل للمقهى تحيل في أبعادها النفسية على حالة الشاعر الذي ينوي ترك حالته الحالية إلى حالة مغايرة، وهو ما يبدو متسقاً مع العنوان الذي جاء في الديوان التالي الموسوم بــ مدن في مرايا الغمام وهو عنوان ذو تركيب اسمي صرف أفاد الثبات من جهة اسميته فيما بينت دلالات الأسماء المعاني الآتية:
مدن جاء اسم نكرة أفاد- التعميم
جمع أفاد- التكثير
كما تفيد من حيث المعنى - الحضارة والرقي
وهذا الابتداء بلفظ مدن يحاول الشاعر أن لا يتركه معلقاً في الفضاء؛ إنما يحاول أن يحقق لها حضوراً بمنحها حيزاً في الوجود، فيأتي بشبه الجملة ليتمم دلالة العنوان الذي يكتمل بتحقق مكان تلك المدن الذي يجعله الشاعر في مرايا الغمام بما تحيل عليه هذه التتمة من تأكيد حالة الرقي والتحضر والسمو الذي بلغته مدن الشاعر من حيث دلالة كل من مرايا التي تعني الصفاء وانعكاس الذات عليها، والغمام الذي يرمز إلى الخصب والوفرة والازدهار. وهو ما سيؤسس للعنوان اللاحق والأخير في هذه التجربة في إصداراتها حتى تاريخ كتابة هذه المقالة فعنوان متأهباً للعزف جاء بصيغة اسم الفاعل والحالية التي تعني الاستعداد والنضج والمهارة في تحقيق المراد، وهو العزف الذي يعني كتابة القصيدة في مراميه الأخيرة.
وبالنظر إلى دلالات العناوين السابقة، وربطها تاريخياً سنلاحظ أن ثمة خيطاً حاملاً لها في سياق موضوعي كان حاملها الذات التي انتقت تلك العنوانات عن عمق بصيرة، وإطالة نظر، فهي تحيل على تدرج بنائي متعاقب لا قفز فيه ولا تجاوز، فقد بدأ الشاعر وفق تصاعد متدرج يسرد على متلقيه حكايته مع الشعر ففي بيت آيل للسقوط أراد أن يشير إلى بداية علاقته بكتابة القصيدة، وما فيها من صعوبات، وعدم قدرة على الإفاضة والتعبير عما في مخزون الشاعر من مشاعر، فعبر عنه بــ بيت وما يعنيه من قلة وندرة، ولا يخفى دلالة آيل للسقوط بما يرمز إليه من ضعف وتهالك، ثم يأتي تحديد الزمن الذي بدأ الشاعر فيه وهو ما يجده من خلال مرافقة البحر؛ أي تمكنه من بحور الشعر وصوغ أحاسيسه من خلالها، ليعقب تلك المقدرة تمكن الشاعر من لغته التي يشبهها بالريح في قوتها وتأثرها على الرغم من محاولة الشاعر الاتكاء على الموروث الشعري القديم الذي شكل مرجعية الشاعر الثقافية التي ينهل من معين أفكارها، وإبداع صورها، وهي حالة طبيعية لا بد منها لتأسيس ثقافة لغوية قادرة على أن تجعل للشاعر خصوصيته الشعرية المتميزة، وهو ما سيتأكد في العنوان التالي الذي يحيل على هذه الرؤيا التي نراها، وهي أن الشاعر يحاول الابتعاد عن كل من سبقه سواء في الفكر، أم في اللغة، بهذا كان عنوان الليل سيترك المقهى في إشارة إلى مغادرة الشعر ذلك الإرث العالق في مخزون ذاكرته، ليُحقّق بهذا الابتعاد فرادته من خلال تحليقه ببناء مدن في مرايا الغمام في إشارة واضحة على تفرد الشاعر وأصالته في اجتراح لغة خاصة به، ومعجم تعبيري يختلف عمن سواه من الشعراء، وهكذا يأتي النضج الفني الجمالي للقصيدة لدى شاعرنا البريكي في تأكيد تواضعه الذي يعلنه في الديوان الأخير متأهباً للعزف الذي يعلن أنه، وبعد كل هذه التجربة الغنية الممتدة، والغنى الشعري يبدأ الآن، وهكذا هو الشاعر الحقيقي الذي يرى أنه ما يزال يبدأ من جديد مع كل قصيدة جديدة، وأنه يخلق لغة مغايرة في كل قصيدة وليدة.
وبعد؛ لعلي فيما قدمت قد أضأت جمالية الأسلوب التعبيري من خلال دراسة موضوعة العنونة في شعر د. محمد البريكي، وفق بعدي العنوان النفسي والتاريخي؛ إذ إن التجربة تعود على ذات واحدة، وهو ما يجب أن يُولي النقد العناية في دراسته، وتوجيه بوصلة النقد إليه، إذ لا يُمكن الفصل بين الذات والموضوع.