اشتهرَ في عَصرِ الحُروب الصَّليبية عددٌ كبيرٌ من المُحاربينَ والسِّياسيين؛ بحكم تركيز المصادر التَّاريخيةِ الأضواءَ عليهم بسببِ طبيعةِ العصر، ونظراً لدورهم الكبير في تحرير بلادِ المسلمينَ من الغزو الصَّليبيِّ، غير أنَّ هؤلاء القادة لم يكونوا وحدَهم في الحرب أو السِّلم، بل كان هناك عددٌ أكبر من المتخصصينَ في العُلوم والفُنون والحِرف والمِهن، كُلٌّ منهم أدَّى دوره في إطار منظومة كبيرة أسفرت في النهاية عن تحقيق الغرض الأكبر. وفي هذا المقال نقدم أنموذجاً من هؤلاء الأعلام الَّذين أُشيرَ إليهم بالبنان في ذلك العصر، وهو الطبيب الشَّهير رَضيُّ الدين الرحبي، الَّذي كوّنَ مدرسةً طبيةً تخرج فيها عددٌ كبيرٌ من الأطباء، كان جلهم من المشاهير.
عاش رضي الدين في القرن السادس الهجري- الثاني عشر الميلادي، في وقتٍ حدثتْ فيه نهضةٌ طبيةٌ بشكلٍ موازٍ لحركة التوحيد السِّياسيِّ الذي قاده البيت الزنكي –نسبةً إلى مؤسسها عماد الدين الزنكي- بغية تحرير الساحل الشَّامي من الاحتلال الصَّليبي، ولم يكن ذلك ليتم بالعمل السِّياسي والعسكري فقط، لكن بالنهضة العلمية الشاملة؛ لتوفير الكفاءات في كُلِّ المجالات ومن أهمها الجانب الطبي، بغيةَ الحفاظ على صحة الجنود وتوفير عددٍ من الأطباء يُرافق الجيوش دائمة الحركة، ولعلاج المرضى من المدنيين، والحدِّ من انتشار الأوبئةِ بسبب كثرة القتلى حصاد العمليات الحربية، ومن هنا أنشأ نور الدين محمود، البيمارستان النوري في دمشق، ليكون مستشفى ومؤسسةً تعليميةً طبيةً، وتبع ذلك حركة نشطة لبناء سلسلة من البيمارستانات في شتى بقاع الشَّامِ ومصر بعد دخولها في تبعية الدولة النورية. ونتج عن ذلك ظهور عدد كبير من الأطباء المشاهير، منهم من اشتهر وصار له كثير من التلاميذ والمريدين ومن أشهرهم العالم العلاَّمة رضيُّ الدين أبو الحجاج يوسف بن حيدرة بن الحسن الرحبي.
كان والده من بلدة الرحبة -الواقعة على نهر الفرات بين دير الزور والصالحية- وكان مُلمّاً بفنونِ الطب، غير أنه اشتهر بصنعة الكحل -طب العيون- وبرع فيها، كما تلقى العلوم الأساسية من حفظ القرآن والإلمام بقواعد اللغة والأدب والخط الذي برع فيه. وُلِدَ يوسف بن حيدرة في جزيرة ابن عمر في شهر جمادى الأولى من سنة 534هـ، وبها قضى سنوات عمره الأولى، وتنقل بين الرحبة ونصيبين وبغداد ومصر.. ثم استقر في دمشق عام 555هـ في عهد نور الدين محمود.
شيوخه
كان والده حيدرة الرحبي أول أساتذته، وعنه أخذ صنعة الكحل ومبادئ الطب، كما اجتمع في مصر بأبي العشائر ابن جميع المصري الإسرائيلي وانتفع به، كما تتلمذ على مهذب الدين بن النقاش ولازمه ووثق فيه، ومرجح أنه تتلمذ على عددٍ كبيرٍ من الأساتذة، غير أنَّ المصادرَ لم تصرح بهم، ودليلنا اتساع أفقه وتقبله لاختلاف الرأي وسعيه الدؤوب للوصول للحقائق؛ من خلال التحاور والتباحث مع الزملاء والتلاميذ النجباء.
تاريخه الوظيفي
بدأ رضي الدين الرحبي حياته المهنية في دكان أو عيادة طبية بمصطلح العصر الحديث، يداوي الناسَ فيها بصحبة أبيه بدمشقَ، وإذا فرغ من مداواة المرضى، هرع لنسخ الكتبِ، وأُرجحُ أنها كتبٌ طبية ينتفع بها. وكان مهذب الدين بن النقاش سبباً في اشتهار رضيُّ الدين، فقد لمس فيه النبوغ وصلاحيته لخدمة الملوك، فقدمه لصلاح الدين الذي جعله من أطبائه وعين له ثلاثين ديناراً كراتبٍ شهريٍّ مقابلَ مداواة المرضى بقلعة دمشق والبيمارستان، وبقي على ذلك حتى وفاة صلاح الدين 589هـ، ويبدو أنه لم يحب كثرة التنقل، وطابت له الحياة في دمشق، ومن ثم اعتذر عن الخروج في صحبة صلاح الدين خلال حملاته العسكرية وتنقلاته الدائمة، ولما ملك الملك العادل أبو بكر دمشق، طلب منه نفس الطلب فرفض مغادرةَ دمشق فأبقاه على وضعه في عهد صلاح الدين بنفس الراتب، ولما آلت دمشق إلى المعظم عيسى بن العادل أقره على وضعه مع تخفيض راتبه للنصف ويكون عمله في البيمارستان دون القلعة.
من وصفاته الطبية
من تدابيره الطبية المشهورة علاجه لصفي الدين بن شكر (توفي 630هـ)، وزير الملك العادل الذي اشتكى من شحوب اللون وضعف الجسم وعجز الأطباء عن علاجه، وبعد تناول كثيرٍ من الأدوية، طلب مشورة رضي الدين الذي سأله عن عاداته الغذائية، فعرف أنه حريصٌ على أكل لحم الدجاج دون غيره من اللحوم، فأوضح للوزير أن علاجه لا يحتاج لدواء ولكن التقليل من لحم الدجاج، ووجّهه لأكل لحم الضأن، فلما لزم ذلك عادت إليه حمرة الوجه وقوة الجسم، ومدح ابن أبي أصيبعة هذا التدبير بحكم أنَّ ابن شكرٍ كانت لديه بسطةٌ في الجسمِ وكثرةٌ في النشاط، ومن ثم يحتاج جسمه لطعام أقوى من لحم الدجاج.
تلاميذه
أخذ علم الطب عن رضي الدين الرحبي كثيرٌ من التلاميذ، نبغ عددٌ منهم، حتى صاروا من كبار أطباء مصر والشام، وكان رضيُّ الدين فخوراً بكثرةِ مريديه ونبوغهم، وحدث تلميذه أحمد بن أبي أصيبعة ذاتَ يومٍ فقال: "إنَّ جميعَ من قرأَ عليَّ ولازمني، فإنهم سعدوا، وانتفع الناس بهم، وذكر لي أسماء كثيرين منهم قد تميزوا واشتهروا في صناعة الطب، منهم من قد مات ومنهم بعد في الحياة". ويؤكد ابن أبي أصيبعة أنه لا يوجدُ طبيبٌ في الشام إلا قرأ على رضيُّ الدين أو قرأ على من قرأ عليه، ومنهم: إبراهيم بن خلف السامري من كبار أطباء صلاح الدين الأيوبي، مهذب الدين عبد الرحيم بن علي الدخوار المتوفي 626هـ مؤسس المدرسة الدخوارية الطبية المتخصصة في دمشق، الحكيم عمران الإسرائيلي من كبار أطباء الملك العادل الأيوبي وصاحب المؤلفات الطبية الكثيرة، ومن تلاميذه رشيد الدين بن خليفة بن أبي أصيبعة وهو ابن العشرين عاماً، والذي لازمه فترة طويلة، وقرأ عليه وبحثَ معه الكثير من المسائل الطبية، وجمالُ الدين بن أبي الحوافر كبير أطباء العزيز عثمان بن صلاح الدين الأيوبي، وأحمد بن القاسم بن أبي أصيبعة صاحب عيون الأنباء، الَّذي جلس إليه عام 622 و623هـ حيثُ قرأ عليه كتاباً في الطب مع التركيز على الجزء العملي عند أبي بكر الرازي وغيره من الأطباء، كما كان رضي الدين يسمح له بحضور المناظرات والمحاورات الطبية مع زملائه وكبار تلاميذه بالبيمارستان النوري، والمظفر كمال الدين بن ناصر الحمصي من كبار أطباء البيمارستان النوري المتوفى عام 612هـ، وفخر الدين بن الساعاتي الذي أخذ الطب عن الرحبي ولازمه مدة، وعلي ابن أبي الحزم القرشي المشهور بابن النفيس الطبيب الشهير وكبير أطباء البيمارستان النوري بالقاهرة، ومن تلاميذ الرحبي ولديه: شرف الدين بن الرحبي، وجمال الدين عثمان بن الرحبي.
ويبدو أن رضي الدين كان شديد العناية بانتقاء من يصلح للتتلمذ على يديه، فكان "لا يقبل تعليم من ليسوا بأهل لتعلم الطب"، وهو ما يوضح أنه كان يختبر المتقدم للدراسة على يديه؛ فإذا اجتاز الاختبار بنجاح قَبِلَه، وفي مقابل شروطه الشديدة في قبول التلاميذ كان "يعطي الصنعة حقها من الرياسة والتعظيم"، ومن كان منهم يصل لدرجة النبوغ كان يسمح له بحضور مجالس المناظرات والبحث مع كبار الأطباء، وعادة ما كانت تعقد عقب الانتهاء من علاج المرضى المترددين على البيمارستان النوري، وهو ما رواه ابن أبي أصيبعة حول حضوره مجالس جمعت الرحبي وكبار تلاميذه المشاهير، ومن تظهر نجابته من صغار الطلاب مثل حضور أحمد بن أبي أصيبعة مجالس جمعت بين الرحبي وبين اثنين من أكبر تلاميذه وهما الدخوار وعمران الإسرائيلي، وفيها كان يسمح للصغار بالاستفسار عما استغلق عليهم من أوصاف الأمراض وطرق علاجها.
وتنوعت طرقُ نقل الخبرة من الدخوار لتلاميذه، ومنها القراءة على الأستاذ من كتب الطب ليشرح لهم ما تتضمنه الكتب والمعاينة؛ أي مشاهدة تشخيص الأمراض وطرق علاجها، كما كان يسمح للطلاب بملازمته حتى يجيزهم. ويبدو أن الرحبي كان يشجع الطلاب على الحرية الأكاديمية في إبداء الرأي ونقد آراء الآخرين وموافقتها أو رفضها، وهو ما طبقه بشكل عملي، ومن خلال ترجمة ابن أبي أصيبعة للرحبي ندرك ذلك في رفض الرحبي لرأي الرازي بتحديد عدد الوجبات الواجب تناولها في اليوم، فنجد ابن أبي أصيبعة يوافق أستاذه حتى بعد وفاته ويقول: "إن رأيه الصدق"، باعتبار أن عدد الوجبات يرتبط بالجوع أو الرغبة الصادقة في الطعام، وهو ما طبّقه الرحبي بشكل عمليّ، فكان لا يأكل حتى يبلغ منه الجوع مبلغاً.
مؤلفاته
الأساتذة أنواع ثلاثة، منهم المُعلِّم، ومنهم المؤلِّفُ، ومنهم من جمع بين الاثنين، ويبدو أن رضي الدين كان من النوع الأول، ومن ثم لم يجنح لكثرة التأليف واشتهر بكثرة مريديه ومن تعلم على يديه، ولا نعلم له مؤلفات غير (تهذيب شرح ابن الطيب لكتاب الفصول لأبُقْراط)، و(اختصار كتاب المسائل لحنين بن إسحاق) شرع فيه ولم يكمله، ولم يصل لنا لا هذا ولا ذاك، (مقالة في الاستفراغ) و(مختصر الحاوي للرازي). وأرجح أن من أسباب إحجامه عن التأليف منهجه الصارم في الحفاظ على صحته، والتأليف يحتاج لطول النظر في الورق وهو ما يجهد البصر، وانشغاله بمداوة الناس في بيمارستان نور الدين محمود بجانب اشتغاله بالتجارة التي ولع بها.
أبنائه
عقَّبَ ولدينِ اشتهرا بالطب، وهما شرف الدين أبو الحسن علي، كان طبيباً مشهوراً ورث صنعة الطب عن أبيه ومهر فيها حتى وثق فيه الطبيب عبد الرحيم الدخوار، وجعله أول مدرس في المدرسة الدخوارية، التي تعد أول مدرسةٍ طبيةٍ متخصصةٍ لا يدرسُ بها إلا الطب في الشام توفي بدمشق عام 676هـ، والآخر جمال الدين عثمان الذي ورث عن أبيه الطب وحب التجارة وخدم بالبيمارستان النوري توفي بالقاهرة عام 658هـ فاراً من التتار.
عنايته بصحته
وضعَ رضيُّ الدِّين لنفسه نظاماً صارماً للحياة، فلا يأكلُ حتى يجوع تماماً، أو كما قال حتى تصدق الشهوة، وعيّن يوم الخميس للذهاب للحمام، ويوم الجمعة لزيارة الأعيان والكبراء من ساكني دمشق، جعل يوم السبت يوم عطلته وفيه كان يخرج للبستان. كما حرص على عدم صعود السلالم، ووصف السلم بأنه منشار العمر، وإذا ذهب لزيارة مريض وكان في طابق علويّ لا يصعد إليه، "كان كبير النفس، عالي الهمة، كثير التحقيق، حسن السيرة، مُحباً للخير وأهله، شديد الاجتهاد في مداواة المرضى، رؤوفاً بالخلق، طاهر اللسان، ما عرف عنه في سائر عمره أنه أذى أحداً، ولا تكلم في عرض غيره بسوء". كما اشتهر عنه الاهتمام البالغ بصحته واعتدال المزاج، والعناية البالغة بطعامه حتى استخدم أفضل الطباخات، وأمرهن بطبخ أنواع من الطعام يظنّ أنها تساعد في الحفاظ على صحته، ولا يقرب الأكل حتى يبلغ به الجوع مبلغاً ويري أن ذلك أفضل للصحة، وكان لا يأكلُ وحده بل يدعو من يشاركه طعامه، وسأله بعض أصحابه عن جدوى هذا النظام بعد أن عمّر طويلاً فقال له: "لأبقى ذلك القليل فوق الأرض، أستنشق الهواء وأجرع الماء، ولا أكون تحتها بسوء التدبير، ولم يزل على حالته تلك إلى أن أتاه أجله".
شهادات في حقه
وصفه ابن أبي أصيبعة بأنه: "الشيخ الحكيم الإمام"، وأنه "من الأكابر في صناعة الطب، والمتعينين من أهلها، وله القدر والاشتهار والذكر الشائع عند الخواص والعوام، ولم يزل مبجلاً عند الملوك وغيرهم". كما وصفه الذهبي بأنه: "البارع العلامة".
وفاتُه
عُمِّرَ رضيُّ الدينِ طويلاً، وبسبب نظامه الصارم في الحفاظ على صحته، بقي قوي السمع والبصر حتى توفاه الله، ولم يصبه غير نسيان الأشياء القريبة مع تذكر قوي للأمور البعيدة. مرض رضيُّ الدين الرحبي مرضه الأخير يوم عيد الأضحى سنة 630هـ، وتوفي رحمه الله بكرة يوم الأحد العاشر من المحرم سنة 631هـ وبذلك يكون عمره عند وفاته 97 عاماً، ودُفن بجبل قاسيون بظاهر دمشق.
المصادر والمراجع
1 - ابن أبي أصيبعة (أحمد بن القاسم بن خليفة، ت: 668هـ): عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ج2، نشر أوجست ملر، فرانكفورت، معهد تاريخ العلوم العربية، 1995.
2 - الذهبي (محمد بن أحمد بن عثمان ت: 748هـ/ 1374م): سير أعلام النبلاء، ج22، تحقيق بشار عواد معروف ومحي هلال سرحان، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1997م.
3 - رحاب رضا عكاوي: موسوعة العباقرة في الإسلام، دار الفكر العربية بيروت، 1993م.
4 - سعيد محمد الغمري: الطب في بلاد الشام في عصر الحروب الصليبية، رسالة دكتوراه، كلية الآداب، جامعة الزقازيق، 1424م/ 2003م.
5 - صلاح الدين الصفدي: الوافي بالوفيات، ج29، تحقيق يعقوب بن يوسف ويونس بن يوسف، بيروت، 1997م.
6 - ابن العماد (عبد الحي بن أحمد الدمشقي): شذرات الذهب في خبر من ذهب، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط ومحمود الأرناؤوط، دار بن كثير، دمشق، 1986م.
7 - ماهر عبد القادر محمد: المنهج العلمي عند علماء العرب محاولة للفهم، ندوة الثقافة والعلوم، دبي، 1995.
8 - محمد أسعد طلس: التربية والتعليم في الإسلام، مؤسسة هنداوي، القاهرة، 2012.
9 - محمد مؤنس عوض: معجم أعلام عصر الحروب الصليبية، مكتبة الآداب، القاهرة، 2015م.
10 - مصطفى الجيوشي: موسوعة علماء العرب والمسلمين وأعلامهم، دار أسامة، عَمان.
11 - كمال السامرائي، مختصر الطب العربي، ج2، دار النفائس، بغداد.
12 - ناصر بن محمد الحازمي: الحركة العلمية الطبية في بلاد الشام زمن الحروب الصليبية، رسالة دكتوراه، جامعة أم القرى، 1427هـ/ 2006م.