التجربة السردية في رواية "القصر"

للكاتبة أسماء الزرعوني

عائشة العولقي


عندما يكتب الأديب الرواية فإنه يعايش أحداثاً تتمكن من وجدانه، وتكون نتيجة هذه المعايشة كتابة نثرية قائمة على السرد، والوصف، والحوار، بلغة أدبية وقدرة لغوية، وفكرية وبلاغية؛ أي أن التجربة الأدبية في الرواية شبيهة بالتجربة الأدبية في الشعر من حيث معايشة الأديب موضوعاً ما عند كتابته.

والفرق هو أن القصة تقوم على السرد وتسلسل الأحداث، وليس على الأحاسيس التجريدية والعواطف المتأججة والخيال الجامح كما في الشعر؛ لذا تحتاج الرواية لمساحة أكبر على الورق.

اتخذت الكاتبة طريقة إبراز جوانب على أخرى دون إغفالها، مثل: التركيز على الأحداث، والشخصيات، والبيئة. تنمو الأحداث عن طريق سردية متمكنة، ولغة متينة وواضحة، وتتعقد ثم تنفرج فيما يسمى بلحظة التنوير؛ أي لحظة حل هذا التعقيد الذي يتفاعل معه القارئ، بل إنه يحس بأحاسيس الشخصيات لوجود مستوى عالٍ من الصدق الفني. وعندما نقول إن الرواية تقوم على معايشة الراوي للأحداث؛ فليس معنى ذلك أن ينقل الأحداث كما هي، فهو يتكئ على الواقع ويجعله المادة الأساسية، ثم يأتي أسلوبه الفني وخياله فيمحور الأحداث والشخصيات في قوالب فنية ماتعة. وقد لا تكون بعض الشخصيات واقعية، ولكنها تُخلّد أكثر من كثير من الشخصيات الواقعية، وذلك يعود لمهارة الراوي وقدرته على إقناع المتلقي بالشخصية.

كانت رواية القصر عالم مليء بالسحر، واللغة، والشخصيات، والأزمنة المتداخلة، والأمكنة المختلفة، والموروث، وما بين هذه العناصر من خصيب الخيال وبديع الجمال. تدور أحداث الرواية حول البطلة ورد، التي تملك ذاكرة بركانية، تحيلها للماضي واسترجاع الأحداث كلما مرت بالأمكنة أو الأشخاص. ورد امرأة مثقفة ناضجة محاطة بقيود عدة منذ طفولتها، أورثها ذلك خنوعًا واستسلاماً، ونجد ذلك جليًا في حديث زوينة لورد "من يراكِ وأنت تحاضرين لا يصدق، أنك أنتِ من تتحدثين الآن معي". أدى لدخولها في دوامة من الأرق والشعور بالوحدة، رغم اكتظاظ المكان، ويستمر ذلك الشعور حتى تهتدي -عن طريق صديقة- إلى مراجعة الطبيب النفسي، الذي كانت تنفر من مجرد ذكره بسبب نظرة المجتمع السائدة عن الطب النفسي. تجد في كرسي الطبيب النفسي فرصة للتحليق، والبوح بالمكنون، ورمي بعض أثقال السنين عليه. تبدأ ورد في اعتياد الأمر بل والاطمئنان له والشعور بجدواه، فصارت تنتظر الموعد بشغف بعد أن كانت تأتي خلسة خوفًا أن يراها أحد: "ثق يا دكتور إنني أتوق للموعد ولتعرف أنني أعدّ الأيام عدًّا حتى أحضر، والآن عندما أدخل العيادة لا تهمني الناس بعد أن كنت ألتفت يمينًا ويسارًا".

تبدأ على كرسي الطب النفسي سلسلة سردية جميلة، وينفرط هناك عقد الذكريات وتنكشف أسباب العقد النفسية التي تعاني منها البطلة ورد، وكأن الطب النفسي قائم على تشغيل الذاكرة وإنعاشها بالذكريات لعلها تحدث شيئاً من التكيف والاستقرار الداخلي؛ مما يؤثر إيجاباً على الذات، فيعيد بناء الهوية ويحفظها ويرد الاعتبار لها عن طريق إثبات وجودها.

تمثل ورد المرأة الشرقية المحاطة بالقيود وإن كبرت وتثقفت، وتتفوق الأديبة في إظهارها، كما يجب من خلال أدوات سردية ولغة واضحة وسهلة في آن.
 

◀ العنوان

يحيلنا العنوان "القصر" إلى مفاهيم هامة، منها أن الظواهر قد تختلف عن البواطن، فالقصر بشكله العام مساحة واسعة ورحبة، ومكان معتق بالجمال والأثاث الفاخر. ولكن قد يكون سجناً قاتماً لمن يعيش فيه بلا سكينة ولا انتماء.
وهذا يشير بخفاء إلى ذكاء المؤلفة التي جعلت العنوان يحمل سيميائية متعددة.
فهي هنا تحلل عقدة الأمكنة:
"كم هو موجع عندما تسكن قصرًا فارغًا من الإحاسيس".

◀ الشعور بالغربة

"هذا القصر يتعبني، أجد نفسي ضيفة فيه لا أملك في القصر سوى غرفتي، ولا لي أي خيار حتى استقبال الضيوف".
حقيقة الشيء بخلاف مسماه:
"نعم، مرادفه سجن؛ أي خالٍ من المشاعر، والأحاسيس، هذا الذي لم أشعر يوماً أنه ملكي بل ضيفة ليس إلا".

◀ قضايا مجتمعية

أشارت الروائية في سردها البديع بطريقة بلاغية ساحرة إلى قضايا اجتماعية متجذرة، ومن خلال سردها البهي عرجت عليها بشكل سلس.

◅ الممنوعات
تُحاط المرأة بقائمة من الممنوعات منذ نعومة أظافرها، ويجب أن تحفظها حتى لا تقع في مغبة التجاوز الآثم.
"الكثير من الممنوعات كنت أسمعها من أمي لا تخرجي وقت الظهيرة! لا تذهبي إلى البحر! كان علي أن أنام وقت القيلولة..". "متعتي ركوب الحافلة والتي كان والدي يمانع في ركوبها". "ماذا أفعل بكِ؟ السيارة تحمل أبناء الجيران، وأنت تركبين الحافلة أفسدك دلال والدك، والعناد".

◅ الأساطير
كانت هناك الكثير من الأساطير التي تسرد في المجتمعات العربية لأهداف منها إخافة الطفل من الخروج وغيرها من الأسباب، وكان لكل مجتمع أساطيره الخاصة.
"كانت تحكي لي أمي وأنا صغيرة عن حمارة القايلة، والتي تخرج في الظهيرة؛ لتأكل الأطفال في ساعات الظهيرة، وهدفها التخويف".

◅ الحنين للماضي
فالحنين أساسه التذكر، والتذكر حسب إيمانويل كانط "يسمح بربط العلاقة بين ما حدث في الماضي، ومالم يحدث بعد بواسطة ما هو حاضر".

◅ الحنين للأب الغائب
يظل الأب الصورة المثالية الأعلى للرجل في قلب ابنته، وتظل صورته ملازمة لها وإن غاب. "صورة والدها حاضرة على سطح البحر… هذا الغائب حاضرٌ معها دومًا، ابتسامته تتدفق مع تجليات الموج".

◅ الحنين للأمكنة
للأمكنة سيميائية خاصة في الروايات العربية بشكل عام، وجاءت رواية القصر على هذا النسق. فنجد ورد تستنشق عبق الماضي عن طريقه "منظر البحر، والسوق القديم في الشارقة لها فيها ذكريات جميلة مع أقرانها، لأول مرة يدقّ قلبها الصغير في هذا المكان، رغم أن الذكريات الجميلة مؤلمة عندما نعجز عن تحقيقها".

◅ الرغبة في المقاومة
شعور الانهزام المتولد في نفسية ورد جعلها تتوق للمقاومة، والخروج من هذا الشعور القاتم، لكن ضعفها يعيقها في كل مرة. "ألم تكبري على هذه القوانين بعد؟ أريد أن أتمرد يومًا، أتجرأ على كسر هذه القوانين، لكنني لا أستطيع".
ثم تشعر بمرور الأيام أنها اكتسبت نوعاً من القوة القادرة على ثقب الجدار ليدخل النور. "بدأتُ بقطع خيطٍ رفيعٍ من الخيوط التي تكبلني، وسأبدأ هذا المشوار ولن أتراجع".

◅ شعور الانتماء ووضوح الهوية
الأديبة لم تهمل انتماءها المحلي من خلال ذكرها لشيء من تاريخ الإمارات من ذلك تعريجها على ذكر الشهداء الأشاوس:
"كان هناك أول شهيد في الإمارات إلى الآن أذكر اسمه، نعم بطل من أبطالنا استشهد، وهو يدافع عن وطنه إنه "سالم سهيل خميس بن زعيل الدهماني".

 منتسب لشرطة رأس الخيمة؛ استشهد بعد يومين من قيام دولة الإمارات عام 1971م من قبل الاحتلال الإيراني". وكذلك الطبيب الذي عاش خارج الإمارات، ثم أبت حبال الحنين إلا جره إليها فعاد؛ رغبة في أن يكبر أبناؤه في موطنهم الأصلي.

"لكن كيف فكرت في الرجوع إلى الإمارات؟ لا بد للمرء من الرجوع لبلده، وأبنائي يكبرون في بلادهم بعد أن اقنعت أمهم فرجعنا أخيرًا".

ثم انتماء الكاتبة العربي من خلال تعريجها على ذكر عدد من البلدان العربية:
مصر: "تذكرت أم الدنيا تذكرت معلماتها تذكرت عام 1970م عندما كانت في الصف الخامس، خبر وفاة عبد الناصر والحزن الذي اجتاح المدرسة والمدينة، الكل يحبّه".
الكويت: "ولا أنسى حرب الكويت، عندما طرق علينا باب الشقة أبو وحيد ليخبرنا باحتلال الكويت، ولم يُمحَ من ذاكرتي ذاك اليوم في مطار اسطنبول، وأحوال إخوتنا الكويتيين، الحمدلله مرت على خير وعادت الكويت لأهلها".
العراق: "أخذتها الأفكار وهي تتوجع من أجل العراق، كم تمنّت أن تزور هذا البلد العريق. كانت العراق متقدمةً في العمران، والعلم كم من الأدباء، والفنانين الذين أنجبت".

◅ الخوف على المجتمع من التغريب والدخلاء
فتفسر سبب هروب بعض الفتيات من أسرهن إلى خارج البلاد: "مراهقات، وهناك عصابة وراء هذه الحكاية، يوهمونهن بالحياة الوردية، وبالحرية ويفرشون لهن الورد، ويورطونهن، وبعد فترة تجدينهن في الشوارع يبحثن عن اللقمة". وتنقم على الماخليات عن دينهن وعاداتهن الطيبة:
"ذهلت من أخوات صديقاتي لقد تخلين عن العباءة، وظهرت صورهنّ مع الشباب".

◀  خطر الانغماس السلبي في التكنولوجيا

"السوشيال ميديا، وهذا التقدم التكنولوجي الذي أصبح خطراً يهدد المراهقين، والفاشنستات والمثليين -عياذا بالله- وأكبر جريمة عندما يزعمون أنهم يطبقون حقوق الإنسان".

◅ التعريج على الأدب العربي
للأدب العربي مكانته العريقة في قلوب أبنائه والمنتمين إليه، وهو هويتهم التي يفخرون بها. "أتعرفين قصة قيس وليلى أو عنترة بن شداد"؟

◅ الحس الأدبي الناقد
فنجدها تحلل حقيقة القصص العربية بصورة جميلة:
"اسمعي يا رحاب هي حقيقة مثل هذه القصص، لكن تناقلت بين الأشخاص كل شخص زاد عليها جزءًا حتى أصبحت أسطورة".

◅ مواكبة الجيل، والتطور التكنولوجي في الانتشار
"موسيقى خفيفة تبثّ في أرجاء المقهى، طلبت أمريكان كوفي، فتحت الفيس بك، رسالة خاصة من فارسها المجهول يرسل إليها نصوصًا جميلةً لا تُقاوم.
"دخلت صفحتها في تويتر، وكتبت:
أيّها الحاضر في كل جراحاتي كموجٍ يعتريه الخوف..".

- صورة المرأة الناضجة، المحافظة
فأظهرت المرأة الخليجية امرأة مثقفة ناضجة لا تنجر ولا تنجرف.

"أستاذ عبد العزيز كل شيء قسمة ونصيب كبرنا والحمد لله، وهذا ابني في المدرسة عندك"

◅ قضية التبني
"زوينة: لأنني عندما استلمتها من دار الرعاية كان من أحد الشروط أن أخبرها أنها ليست ابنتي، والحمد لله تقبلت الأمر".

◅ جائحة كورونا والعزلة

تلك الجائحة التي أثقلت كاهل العالم:
"نعم الكل أبدع في كتابته. هناك من كتب القصة، والرواية، والحب في زمن كورونا على غرار رواية الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا الحب في زمن كوليرا، أذكر نصي كان بين القصة والمقالة".

◅ الأفكار الخاطئة في المجتمع
لا يخلو مجتمع من بعض العادات السلبية المتوارثة من القدم. والكتابة هنا تعرج على شيء منها:
الانغماس في الكتب والعناية بالثقافة مضرة.

"نعم، لدرجة أنّ أمي كانت تقول حميدان فقد عقله من كثرة القراءة.
 لهذا كانت تمنعي من القراءة"

◅ النظرة القاصرة للطب النفسي
لقد كان الناس -ومازال بعضهم- ينظرون للطب النفسي نظرة مجحفة، ويرون ارتياد عيادات الطب النفسي عيباً مشيناً "فكرتُ في ذلك، ولكن كلما تذكرتُ نظرات الناس للطبيب النفسي أخاف، وأردد كلام العامة طبيب المجانين..".

◅ إرغام الفتاة على الزواج
عُرف عن المجتمعات العربية قضية الزواج المبكر للفتيات أو إرغامها ممن لا تريد، فلم تغفل الكاتبة ذلك:
"لا أريد أن أتزوج يا أمي، أريد أن أكمل دراستي.
هذا قراري، أريد أن اطمئن عليكِ، تزوجي وأكملي دراستكِ"

"أما ميثة ألا تذكرين أنها تزوجت خميس الذي فرضه أخوها عليها؟

مسكينه ميثة!

زوجوها لرجل عقيم، وعنده زوجة ثانية، لكنها كانت طيبة".

◅ صورة الزوج الصارم
تظن بعض المجتمعات أن على الزوج أن يظهر أمام زوجته بصورة الصارم القاسي حتى تنضبط أمور أسرته. وهذا بالطبع مفهوم عقيم، جاءت السنة النبوية بتفنيده "خيركم خيركم لأهله"، وهذا مما عانت منه ورد في الرواية: "لقد زرع الخوف بداخلي منذ أول يوم في زواجنا، لا أعرف كيف أنزع هذا الخوف، حاولت كثيراً ولم أستطع"!

تملص بعض الآباء من مسؤولياتهم.

يتوه بعض الآباء زمناً عن منازلهم ويتملصون من مسؤولياتهم ولا يعلمون أن ذلك يترك حنقاً طويلاً في نفوس الأبناء. "ماذا أريد من أب تركني وأنا لم أتجاوز الثانية من عمري، وأخي كان نطفة في بطن أمي"؟

◅ جدلية الأسماء بين الوالدين
وذلك أن يصر الأب على مسمى معين للمولد وتصر الأم على آخر، فينشأ الطفل باسمين: "أمي التي كانت تصر أن تناديني بخديجة على اسم أمها، لكن أبي أسماني على اسم أمه لطيفة".

◅ القمع
تعاني بعض المجتمعات إن لم نقل كلها من القمع ومحاولة إسكات الآراء، وأكثر من يقوم بذلك بعض الجماعات المتطرفة التي تلجأ إلى التهديد إن لم يرقها الأمر: "اسمعي أنتِ، لا أريد أن تمجدي عبد الناصر وللمرة الأخيرة تكتبين مثل هذا المقال…".

وفي الختام؛ يقودنا السرد المتسلسل إلى حبكته الرئيسة، حين تكتشف ورد أن طبيبها النفسي ما هو إلا صديق قديم، وجار شاركها عهد الطفولة لتبين مدى تقارب الأمكنة وصغر المسافة.

"لا يا لطيفة، أذكركِ وأنتِ لطيفة كم لعبت معكِ، ألا تذكرين ولد الجيران أحمد الذي توفي والده، وتزوجت أمه من خليفة البحريني؟ أنسيتِ كم بكيتِ عندما ودعتك؟

- لا، غير معقول!

لا أستوعب".

تمثل الأديبة أسماء الزرعوني نموذجاً للمرأة العربية المتشبعة بهويتها، فهي تعبر عن موقفها من كل شيء في مجتمعها الإماراتي خاصة والعربي عامة بصورة واضحة، لا تحتاج معها للتورية أو التغليف؛ لأنها تقف على أرضٍ صلبة وقفة الواثق من مبادئه وآرائه وانتماءاته، وعلى لسان أبطالها تستنكر السلبيات، وتندد بأي منظور زائف، وتقف بقوة إلى جانب الهوية والوطن والنضج بلا تعصب لأنوثة أو دعوة إلى الانسلاخ.

كتبت فتألقت، نسجت فأجادت النسج والحبك، خاطبت ببيان، وأسمعت بإتقان نتمنى لها مزيداً من التوفيق والنجاح.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها