انتِصَار العِلم فِي الفِيلم الإمَاراتي "عَابِر سَبِيل"

عبد الهادي شعلان


تدخل الخرافة والشَّعوذة روح الإنسان من بوابة القلب، ونافذة الجهل، فحين ترى إنسانًا يلجأ لمشعوذ؛ فقد لجأ إليه لأن في قلبه ثقباً ضعيفاً لا يرى به قُدْرة العِلْم على الشِّفاء، ورُبَّما لأن المُشَعْوِذ أَقْنَعَ المريض ذو القلب الواهن والعقل المُغْلَق بأنه قادر على شفائه بقدرات عُلْوية، وغالبًا يقنع المُشَعْوِذ المريض بأن عِلَّته ومرضه سببها الجِنّ، وأن سبب العِلَّة أنه لم يتعامل مع الجِنّ بحرص وكرم حين زاره في صورة إنسان، وهذا الاعتقاد يجعل بعض المرضى يرتجفون؛ لاعتقادهم بإمكانية وقدرات الجِنّ الخارقة والقادرة على الإصابة بالأمراض والدخول في الأجساد، فتجد أحدهم يبذل الأموال الطائلة للمُشَعْوِذ؛ من أجل الخلاص من الجِنّ الَّذِي سَكَنَ صدره وسبَّب له هذه الأزمة الصدريَّة، أو للخلاص من الجِنّ الَّذِي يعيش داخل معدته ويسبِّب له الوَجَع الدائم، وبالتالي يبذل المريض كل ما يملك ويضحِّي بكل ثروته في مقابل الشفاء والخلاص من الجِنّ الَّذِي يسبِّب له المرض، وفي اعتقاده أن المُشَعْوِذ هو القادر على إخْرَاج الجِنّ، فيجب أن يمنحه ما يريد، ستعيش تجربة العلاقة بين الشَّعْوَذَة والعلم إذا شاهدت الفِيلْم الإماراتي "عابر سبيل" إخْرَاج: علي العبدول، شارك فيه: سعيد بو ميان، رشا المالح، محمد سعيد، عائشة عبد الرحمن، ساره، حسن محمد، بلال عَبْد الله، عَبْد الله المناعي، سعيد عبد العزيز.
 



الشَّعوذة حَتَّى آخر رَمَق:

المُشَعْوِذ يحتاج لبيئة عمادها الجهل وقوامها القلب الَّذِي يعتقد في قدرة المُشَعْوِذ على الشفاء؛ فهذه البيئة مكان خصب لنمو الخرافة والشَّعوذة، العِلْم يحتاج لبيئة مستنيرة كي يطرد الشَّعوذة، وقد أجاد صُنَّاع الفِيلْم في اختيار البيئة المناسبة والشخص المناسب للتعبير عن فكرة الشَّعوذة وقبولها لدي البعض، فالمكان المختار للتصوير بعيد عن العمران، وبعيد عن المدارس ومجالات التنوير، واختيار نموذج بو ناصر اختيارًا موفقًا لدخول عالم الشَّعوذة والاعتقاد في الجِنّ كمسبِّب للمرض، فحين أصيبت زوجة بو ناصر وظلَّت تصرخ من شدَّة الألم لم يجد غير المطوع ليذهب إليه ليتم الشفاء على يديه، لم يفكر في الطبيب، ودلَّ ذلك على امتلاء قلب بو ناصر بفكرة الشَّعوذة، وقدرة المُشَعْوِذ على الشفاء من الأمراض.

حين دخل بو ناصر عند المطوع بان على الشَّاشَة كأنَّ المطوع وجد صيدًا؛ لكي يستغله ويستنزف ثروته، لقد أخبر المطوع بو ناصر أن عابر السبيل الَّذِي زاره من قبل هو من الجِنّ، وأن سبب مرض زوجته أنه لم يُكْرِم الجِنّ أو أنه قد أغضبه؛ ولذلك تسبَّب الجِنّ عابر السبيل في إيذاء الزوجة، وعلاج ذلك قد يستغرق أسابيع أو أكثر، وأن هذا العلاج يحتاج للاستجابة لكل طلبات الجِنّ الَّتِي يطلبونها منه، مهما كانت غالية وعزيزة، وظل المطوع المُشَعْوِذ يطلب طلبات أرهق بو ناصر حَتَّى بدأ يبيع أملاكه. وفي النهاية حين لم تُشْفَ زوجة بو ناصر قال المطوع أن هذا عِلْم فوق طاقته، لقد رأينا أنه يريد أن يجعل مشعوذًا آخر يستفيد من ضحيته بو ناصر، فذهب به المطوع الأول للمطوع إبراهيم كبيرهم، وتم استنزاف بو ناصر حَتَّى آخر قطرة، وماتت زوجته وولده بنفس المرض، يصرخون، ويتألمون في صدورهم، دون علاج.

حَتَّى إننا نلمح أن الشَّعوذة كانت متمكِّنة من قلب بو ناصر، فقد بدا بو ناصر غير مطمئن لوجود ابنته في المستشفى؛ فخاف عليها وظل جالسًا أمام المستشفى لا يتحرَّك، كان اعتقاده أن ابنته مصابة بالجِنّ، وأن الطبيب لا يستطيع علاجها، لقد أراد صُنَّاع الفِيلْم أن يكون بو ناصر نموذجًا للمعتقِد في الشَّعوذة حتى يصبح نموذجًا للجهل بالعلم، ودخلتْ الشَّعوذة قلب بو ناصر، حَتَّى إنه حين يئس من الشَّعوذة وعرض على المطوع إبراهيم أنه سيذهب للدكتور صرخ إبراهيم "لا" مؤكدًا أن الشَّعوذة تقاوم العلم حَتَّى النهاية، وأنها تخاف منه في الوقت نفسه حد الرعب.

مكان جيد للفكرة:

أفلحَ صُنَّاع الفِيلْم في جعل بيئة التصوير خاوية، ليس بها سوى مجموعة من الحيوانات والأطفال وبعض الرجال والنساء، حياة بسيطة على الرغم من وجود سيارة تدل على أن العمران منتشر في أماكن أخرى تبدو بعيدة، ووجود الطبيب والمستشفى وصلاة الجماعة دلَّ أيضًا على وجود بصيص من النور أكَّده أن أحمد نصح بو ناصر بالذهاب للطبيب.

ظهر أيضًا في البيئة اجتماع النسوة للسهر في الليالي الجميلة بعيدًا عن اجتماع الرجال، ورأينا المسامرة والحديث حول أحوال المكان، وهذا ما كان يفعله الرجال أيضًا، يتسامرون بالليل في جو ساحر يناقشون أمورهم، ولم نلاحظ اجتماع الرجال بالنساء ولم يحدث أي اختلاط جماعي، كانت البيئة تبدو محافظة وتلتزم عادات معيَّنة في علاقة الرجال بالنساء.

كان طبيعيًا أن تظهر بعض الألعاب الخاصَّة بالأطفال، فقد تمّ استغلال المسافة القريبة بين الأشجار لصناعة أرجوحة للأطفال؛ كي يلعبوا عليها، أيضًا كان الأطفال يمارسون ركوب فروع الأشجار كأحصنة، هذا من حُسْن استخدام مكونات البيئة.

اتَّسَمَتْ الصِّلات في البيئة بالترابط القوي، فنرى الحوار بين المجموعة يستفسر عن أحوال الغريب، فهم يريدون أن يطمئنوا على أحوال المكان، فحين وقع الغريب في أزمة وظلَّ جالسًا أمام المستشفى لعلاج ابنته رأينا التعاون الجيد من الناس، كان الترابط واضحًا في العلاقات.

أحسن الفِيلْم في استخدام الأغاني المائلة للتعبير عن الحالة، والمتناسبة مع البيئة فلم تكن الأغاني زاعقة، ولم يتم استخدام آلات شاذة، أيضًا كان استخدام آلة العُود المصاحبة لبعض المشاهد تعبر بجودة عن الحالة، إلى جانب استخدام القَطْع الجيد بين حكاية الفِيلْم عن الغريب والحكاية الَّتِي يرويها الغريب عن عابر السبيل، كان القطع ناعمًا وليس حادًا، ومتناسبًا مع وقت الحكي اللَّيلي الَّذِي يعطي للروح محبَّة للبوح بالأسرار.

إلى جانب أنَّ التصوير لم يشعرنا بالملَّل على الرغم من بساطة البيئة الَّتِي تم فيها صِناعة الفِيلْم، وقلَّة مكوناتها، كانت الكاميرا تتجوَّل بحميميَّة مع المكان، أيضًا كانت بداية ظهور المريضة ونزولها الواهن من السَّيارَة يعطى المشاهد إشارة وإحالة بأنها مريضة بمرض ما في صدرها، وأنها تعاني من شيء داخل صدرها.

الشَّعوذة أم العلم؟

كان مشهد النهاية محيرًا ومُعَبِّرًا في الوقت نفسه، فعند رحيل بو ناصر من المستشفى نظر بالصدفة لغرفة من الغرفة الجانبية، وكان الاستغراب واضحًا على ملامحه، حَتَّى إن رغبة المُشَاهِد اشتدَّت في معرفة ماذا رأى بو ناصر؛ فعلامات الذهول والخوف بدت على وجهه، لقد رأى عابر السبيل الَّذِي كان السبب في كل ما هو فيه، شاهده يقوم من الفراش ببطء، يرفع رقبته كأنها تستطيل، توقَّفت الصورة على الشَّاشَة لعابر السبيل ثم توقَّفت صورة بو ناصر وهو في قمة الحيرة والذهول.

كان وجه بو ناصر النهائي يعطي انطباعًا بأن عابر السبيل هذا الجِنِّي جاء للمستشفى ليخطف روح ابنته، هو وراءهم حَتَّى النهاية، كان وجه بو ناصر يحمل الخوف الأبدي من الجِنّ، إلى جانب المعنى الَّذِي وصل للمُشَاهد بيسر وسهولة بأن عابر السبيل كان هو السبب في مرض أسرة بو ناصر؛ لأنه رُبَّما يكون نقل العَدْوَى لهم، فقد كان يلاعب الطفل ويقرِّبه منه، ورُبَّما يكون حاملًا لمرض صدري، فهو سبب المرض.

توقَّفت الشَّاشَة في النهاية أمام المُشَاهد وكأنها تريد أن تمنحه فرصة الخيار بين الشَّعوذة وبين الطِّب والعِلْم، كان واضحًا أن وجه عابر السبيل نحيل ومريض ويكشف عن مرض دفين داخله، وينتصر الفِيلْم في النهاية للعلم، ويترك المُشَاهد يفكر، هل يترك نفسه للشعوذة مثل ما حدث مع بو ناصر؟ أم يتجه نحو العلم والطب سبيل النجاة؟ ونعرف في النهاية أن المرض عابر سبيل.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها