بواحدية القلم والفرشاة

عمر عبد العزيز.. المحلق بجدارة في عوالم المعرفة

محمد محمد إبراهيم



بريشةٍ مرفهةِ الخطوط.. مستبصرة الرؤى في المواقيت الزاهية، غبشاً وضحىً وأصيلاً وغروباً، شتاءً وصيفاً وربيعاً وخريفاً، أتقن عمر عبد العزيز لُعْبة سجال الضوء والظل واللون في أعماله البصرية الفريدة، لكن لوحة الجذور والمنازل المتراصة على أنكاب الجبال والتلال، وما توحيه من جليل معاني هندسة العمارة بوصفها المادي المجسد للسكن والمأوى الذي شغل حيزاً من ذاكرة الإنسان الوجدانية والمكانية، أو بوصفها الجمالي باعتبارها "التكوين والمصب لكل أنوع الفنون التشكيلية من تصوير ونحت وإضاءة وحركة وموسيقى"، وفق النقاد التشكيليين الذين يعتبرون اللون والحركة والظلال والخطوط في لوحة الفن المعماري، بمثابة أحلام تتعايش مع الطبيعة والإنسان، فترى الخطوط بتفاصيلها بصمات من الماضي لاستلهام الحاضر وتأكيد الذاتية.
 

ولوحة الجذور باتساع معانيها وأبعادها الجمالية، ليست مجرد ألوان سَفَحَها الفنان على بياض، بقدر ما هي نتاج فكر ناصع، وروح مترعة بالإبداع، فاستطاع رتق الإطار العام لهذه اللوحة، بهوية يمنية ضاربة جذورها أعماق التاريخ، فهي لقرية يمنية عتيقة تعتلي مكاناً أخضر، يظهر منها منزلان فقط، على سفح أحد الجبال العالية المعممة بخضرةٍ تكسو التلّ الصخري، وتحفّ منزلين سامقين أحدهما أعلى من الآخر. ومن أسفل تلك الخضرة إلى جهة حيد التل الصخري، تنبتُ شجرة عتيقة، اجتازت بطولها المنزل الأكثر علواً، بينما جذورها الضاربة في كبد الصخر، قد أصبحت بارزة للعيان، لتعكس تمسك الشجرة بمنبتها وتشبثها بالحياة، رغم تقادم عوامل التعرية عبر محطات الزمن المتعاقبة. كما تشع نوافذ المنزلين القرويين بضوء شديد الإنارة، معبراً عن روح الحياة التي تعمّرهما.

شهادة عابرة

هذه اللوحة لفتت انتباهي في مركز الدراسات والبحوث اليمني، وتحديداً في مكتب الراحل عبد العزيز المقالح –رحمه الله- كان ذلك في العام 2017م، وأثناء الحديث عن اللوحة، قدّم المقالح شهادة عابرة لتعدد مواهب صديقه عمر عبد العزيز، مؤكداً أن ارتباطاً وثيقاً بين ريشة عمر عبد العزيز ومفردات الطبيعة اليمنية المفتوحة على الجمال الرباني.

وقال المقالح أيضاً: "محظوظ هو ذلك المبدع متعدد المواهب، حين يجد مساحات واسعة للتعبير عن أحاسيسه، والصديق المبدع عمر عبد العزيز واحد من هؤلاء المحظوظين بالمواهب المتعددة، ومنذ أيام قرأت كتاب الدكتور ياسين الأيوبي الموسوم بـ"مرايا الكتابة التشكيلية.. سياحة فكرية تأملية في نتاج الدكتور عمر عبد العزيز". وقد اقتصر الكتاب على اللوحات الفنية المعبرُ عنها بالكلمات، كما رسمها الكاتب عمر عبد العزيز، ولم يقترب الأيوبي من اللوحات الفنية البصرية المرسومة بالريشة والألوان، والتي ما تزال بحاجة إلى من يتناولها ويقترب من مساحتها اللونية.. موضحاً أن "المبدع عمر عبد العزيز بقدر تعامله مع اللغة برهافة، تعامل أيضاً بنفس المستوى مع اللوحات التشكيلية، التي كشفت علاقته بالطبيعة وتفاصيلها المثيرة للوجدان شجراً وجبلاً وبحراً وطيوراً وحركة دائبة للرياح والطقوس والكائنات".

وأضاف المقالح: هذه اللوحة التي رسمها بريشته (مشيراً إلى اللوحة الموجودة في مكتبه) أهداني إياها الصديق عمر منذ عشر سنوات تقريباً، وها هي ما تزال تشد اهتمامي -وكثير من الزوار والأصدقاء -وتجعلني دائم التأمل إليها، أستنطق تفاصيلها الرقيقة وأبعادها اللونية المتماهية مع شجن المنازل والقرى في ذاكرتي وفي كل مرة ألمح جديداً. ولفت إلى أن تفاصيل هذه اللوحة تحتاج لقراءة مستفيضة تنقد الألوان والفضاء والأفق والخطوط المختلفة والمتقاطعة.

فلسفة الجذور والعمارة

لوحة الجذور واحدة من عشرات الأعمال البصرية التي تظهر فيها المنازل، والتي تفنن فيها عمر عبد العزيز، مُرَقِّصاً ريشة العشق المطلق في فضاء الواقعية والافتراضية لفن عمارة القلوب والمنازل، وفلسفة البيوت وشجن النوافذ وأضوائها، ورمزية كينونة المنزل في مشهد المكان ومسار الزمن، وأتذكر جلياً أني نبشت في حوارٍ مفتوح حول تجربته الإبداعية، سؤال عن غرامه بفن المعمار ودوافع ووشائج الصلة بين أعماله البصرية، ونصوصه المكتوبة في فن العمارة، ومكامن العلاقة بين العمارة والفلسفة. ولم أدرك حينها أنه سيجيب من صدر لوحاته التشكيلية التي بين أيدينا، فكانت إجابته كمن يفتح فراشات اللغة الملونة بالسحر والفتنة على واحة خضراء حملتها ذاكرة الطفولة، حيث قال عمر عبد العزيز: "إن قوانين العمارة -هي نفسها قوانين الفنون والموسيقى- إذ تجوهرت في مزاج تشييدها كيمياء العناصر المندلِفيَّة (نسبة إلى العالم الروسي "مندليف" صاحب أول جدول دوري لعناصر الطبيعة)، وكامل التداخلات الشاملة التي تمثل في نهاية المطاف مفهوماً ورؤية بقدر كونها وظيفة ومنفعة".

هذه الروافد أفضت بنهر معارف عمر عبد العزيز إلى تكاملية النص البصري خطاً ولوناً وغيوماً وضياءً في رَسْمِ لوحات المنازل التي أبدعها، بتعانق حُرّ يشي بدورانه العقلاني حول أسئلة الوجدان التاريخي للإنسان والبيئة يمنياً وعربياً، لتفصح أعماله عن بيان علاقة المنازل بالتكوين الفكري والثقافي والوجداني للإنسان في ضوء ما يسمى عند العرب بالبكاء على الأطلال أو الحنين إلى مرابع الصبا.

وفي هذا السياق يرى الفنان عمر عبد العزيز أن المنزل دالة المكان والزمان وما يتجاوزهما إلى اللامكان واللازمان، فيما يسميه بالدهر، والمنزل تعبير عن عبقرية الخيار والاختيار من حيث علاقته بالطبيعة وما يتجاوزها من نواميس تتصل بالفراغ الميتافيزيقي.. نافياً أن يكون ذهاب الإنسان إلى بناء منزل، انعكاساً لعجزه عن مواجهة أنواء الطبيعة ومتغيراتها. بقدر ما ظل –ذلك السلوك- وشيج الصلة بالطبيعة، فلا يمكنه تعمير بيت دون نوافذ للإضاءة والتهوية، ولا يمكنه التخلّي عن عتبات المنزل المفتوحة على الطبيعة الواسعة إن أراد الجمع بين الاحتماء من نوائب الطبيعة والاستئناس بمحاسنها في آن واحد.

لقد أوجد الفنان التشكيلي عمر عبد العزيز، من أعماله البصرية ذات الصلة بمآثر الإنسان العمرانية وعلاقة الإنسان الحتمية بالطبيعة، وبالمنازل والمكان والزمن تعبيراً جلياً عن العمق الحضاري العربي عموماً واليمني خصوصاً. وبرغم الواقعية الشاخصة للعيان إلا أن عمر عبد العزيز في هذه اللوحة من لوحاته التشكيلية المتقاربة في مواضيعها، خرج عن الواقع إلى الافتراضي خروجاً يتجلى في تفاصيل الضوء والظل، وانزياح الألوان إلى ما بعد الخيال الفلسفي المطلق في اختيار الأماكن الافتراضية للمنازل والقرى والجبال، والمروج الخضراء والشلالات والأنهار، والسماء بتجليات مواقيت الدورة الزمنية المختلفة بين الغبش والشروق والأصيل والغروب، وغيرها من التجليات الخارجة عن المدارس والمرجعيات الوضعية العصبوية، وبما يعكس قدراته النادرة في توظيف المواد الخام والممكنات الثقافية والمعرفية لصالح الارتقاء بالقيم التعبيرية، وفق علاقة ناظمة لانسجام الإطار الفني العام، مع عناصر بناء اللوحة التشكيلية الفنية والمادية.

تعميم مرئيات الجمال

اهتمام عمر عبد العزيز بتعميم مرئيات "علم الجمال" بدأ منذ سبعينيات القرن المنصرم، في اتساق يشي بوشائج حبه وتعلقه بالفلسفة والفنون التي كانت "سبباً حاسماً في مقارباته الجمالية ونصوصه السردية والبصرية" حسب وصفه، ربما لتأثره بالمدرستين الإيطالية والرومانية حدّ الإيمان بأن علم الجمال صار ضرورة مطلقة في الزمن الثقافي والإبداعي العربي؛ لكونه علم التواشج الشامل بين الرؤية والأدوات التعبيرية الفنية من جهة.. وبين الخصوصية والتاريخ من جهة أخرى.

معتقداً أن خروج علم الجمال من أعطاف النقد والفلسفة، يجعلنا نقرأ ظواهر الحياة المادية والروحية، وملاحم الفنون والإبداع بأدوات متجددة، وبرويّة في النظرة، واستيعاب شفيف لمعنى تلاقُح الشكل والمضمون، وكيف أنهما وجهان لعملة واحدة.. ليذهب العزيز- تبعاً لذلك- إلى أن الفنون البصرية عمل إبداعي يُرَى عبر البصر وينساب بعيداً في البصيرة، وبهذا المعنى فإن هذه الأعمال الإبداعية جميلة شكلا ومضموناً.
 

أخيراً؛ إن واحدية القلم والفرشاة في عوالم إبداع عمر عبد العزيز بما تمثله من ثنائية التلاحم العنقودي للإبداع، تُعَمِّد بوضوح سببية البهاء المشترك بين النص المكتوب واللوحة البصرية، وتؤكد بلا شك ولا جدال، قدرات عمر عبد العزيز اللغوية والفنية والخيالية، في الكتابة التشكيلية الاحترافية، المرتكزة على مَلَكَة الرسم، حيث تظهر هذه السمة بجلاء في تقنيات الاستهلال لعتبات وأبواب النصوص السردية؛ إذ كثيراً ما يفتح مظلة اللغة والمضامين الرصينة، على شغفٍ من التحليق اللوني المتساوق مع مرئيات الطبيعة ذات الدلالات النفسية العميقة المحفزة لخيال المتلقي على تصور هيئات وملامح شخوص الرواية، ودلالات المعاني الواضحة والآسرة التي تنثال من ثنايا البيان الواضح، فتكسب النفس غبطة وارتياحاً.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها